النقد

اللقيط يواجه المجتمع في (الرسالة)

رواية (الرسالة) للكاتبة الليبية حنان الهوني
رواية (الرسالة) للكاتبة الليبية حنان الهوني

في كتابه (كيف تُكتبْ الرواية) يؤكد الأديب الكولومبي العالمي “غابرييل غارسيا ماركيز” الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1982م بأن المسألة ليست في كتابة الرواية، بل تكمن في كيفية كتابتها بجدية ومهارة وإتقان وإمتاع(1)، وهذا المذهب من الصعب إسقاطه على رواية (الرسالة)(2) للكاتبة حنان يوسف الهوني التي جاءت في مائة واثنتين وعشرين صفحة من الحجم المتوسط مقسمة على أربعة فصول كالتالي: بياض، هون، الولادة، المخطوطة. وقد نالت هذه الرواية جائزة العالم العربي للرواية سنة 2021م، وحظيت بنشرها دار المكتبة العربية للنشر والتوزيع بالعاصمة المصرية القاهرة.

فعنوان الرواية يحيلنا إلى مصطلح الرسائل “الإخوانية”، وهو جنس أدبي نثري انتشر خلال العهود القديمة الماضية، يتم بواسطته تبادل الأخبار والأحداث، ونقل المشاعر والأحاسيس، وتسجيل المواقف عن بعض القضايا الفكرية والاجتماعية سواء الخاصة أو العامة، وكذلك الرسائل “الديوانية” التي تتضمن تعليمات وتوجيهات الحاكم لعماله وولاته في الأقاليم البعيدة. ثم ظهر غرضٌ أخرٌ للرسائل وهو الذي يتعلق بالمسائل اللّغويّة والفلسفيّة والفكرية والأدبيّة مثل (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، والرّسائل الإخوانيّة (إخوان الصّفاء) وابن شهيد الأندلسي، إذ كان بعض المفكّرين يثيرون مسألةً أو شأناً أو موضوعاً ما في رسالة ثمّ يبعثون بها إلى صديق طلباً الإجابة عنها وكتابة بحث أو مقالة أو دراسة للرد عليها يسمّى رسالة، ومنه جاءت التسميات الحديثة (رسالة دكتوراه أو ماجستير)، ولقد كان لهذه الطريقة الفنيّة دور هام في تنشيط الحركة الفكريّة والأدبيّة عموماً.

و(الرسالة) التي أصدرتها الدكتورة حنان الهوني تنتمي اصطلاحاً إلى جنس الرواية الأدبية، ويصنف مضمونها بأنه عمل اجتماعي يسلط الضوء على المعاناة الإنسانية لإحدى شرائح المجتمع، بهدف استعراض تحدياتها للضغوطات الفكرية التي تواجهها للعيش طبيعياً بين أفراده بشكل عادل، ولإبراز موهبتها وقدراتها على العمل الإيجابي في ظل معطيات الحياة الواقعية، مع إسباغ نفحات من الخيال على أحداثها وشخصياتها وهو ما ينسجم مع مفهوم تقنيات جنس الرواية بشكل عام فهي (كنوع فني فتحت الأفاق الواسعة أمام المعالجات النفسية للأدب نقداً أو إبداعاً، كما أن الطابع الاجتماعي لم يجد له أرضاً جيدة إلاَّ في الرواية، ينشأ فيها ويتطور وتتم معالجته بشكل واضح ومؤثر.)(3)

وقد تمثل هذا العمل الروائي الأدبي في رسالة عاطفية كتبها الشاب الثلاثيني (أحمد نصر) الصحفي بجريدة “الشمس” ثم لاحقاً الإعلامي بمؤسسة “الشروق” للإعلام، يعبّر فيها عن مشاعره، ويسرد بعض المحطات من مسيرة حياته ووقائع علاقته العاطفية مع حبيبته (منى) التي رفضته أسرتُها حين تقدم لخطبتها، بحجة أنه (لقيط) تربى في دار الأيتام كابن غير شرعي ينعته الوسط الاجتماعي بأنه (ابن حرام)، ومن خلال هذه الصفة المشينة القاسية التي ألصقت به تتأسس فصول الرواية وترتكز حبكة السرد عبر منحى اجتماعي أخلاقي يتداخل بين الواقعي والتخيلي.

واللقيط في المجتمع العربي شخصية منبوذة، وغير معترف بها كضحيةٍ لعملٍ لا ذنب لها فيه، تواجه الكثير من الصفات والإشارات والنعوت السلبية ونظرات الازدراء والدونية نتيجة وزر وخطأ الأبوين، وكل ذلك يسهم في الإبعاد القسري لها، وكذلك ابتعادها الطوعي الاختياري وتجنبها المشاركة في فاعليات الحياة الاجتماعية وأغلب مناسباتها، وبالتالي تتوسع جراء كل ذلك دائرة التباعد، مما يولد مشاعر نفور وكراهية متبادلة بينها وبين أفراد المجتمع. وقد تناولت بعض الأعمال الأدبية العربية هذا الموضوع من جوانبه الإنسانية مثل رواية (لقيطٌ وأمه ومئة امرأة)(4) للكاتب السوري بلال البرغوث الذي أثار فيها أزمة الانتماء والهوية لدى هذه الشريحة الاجتماعية ممثلة في بطل الرواية الشاب (نيار) المولود بلا أب يعرفه وأمٍّ حوّلها المجتمع إلى عاهرة تبيع الهوى وتتاجر بالجسد، ووجّه نقوداً قاسية للواقع العربي مستنكراً هروب (نيار) من بلده وهجرته إلى ألمانيا بعد أن صار خبيراً حقق مكانة مرموقةً في مجال عمله بالآثار التاريخية القديمة.

أما في رواية (الرسالة) فإنَّ البطل لم يهرب من واقعه أو يهاجر بعيداً عن بلده، بل ظل يواجه مصيره المؤلم ويتحدى كل تبعاته. لم يغادر مجتمعه رغم مرارة نبذه ورفضه له، ولكنه برع ونبغ وأتقن عملاً ووظَّف مواهبه ليكون عنصراً إيجابياً متميزاً في المجتمع، وظل رغم كلِّ السهام التي وجهت إليه وفياً لدار الأيتام التي تربى وترعرع فيها، حتى أنه نظم حفل توقيع روايته بها وسط العاملين والمربين والزملاء الذين دعموه وشجعوه في عمله، وأصدروا طبعة الرواية على نفقة الدار بالإضافة إلى تغطيتهم تكاليف تنظيم احتفالية التوقيع.

ولكن يمكن القول إن الرواية تضمنت في فصلها الثاني المعنون (هون) هروباً من نوع آخر وهو اللجوء إلى “السانية” التي كانت رمزاً للطبيعة النقية الواسعة، والثرية بأشكال وألوان متنوعة من الخضرة والجمال والهدوء والارتياح والانبساط الذي يتيح الفرصة لمزيد التأمل والتفكر والتدبر في اتخاذ أية قرارات شخصية لها انعكاسات مستقبلية مهمة.

فالرحلة إلى إحدى سواني مدينة هون العامرة بالنخيل والشجر والنباتات والمزروعات كانت ملاذاً وفسحةً ونقلةً مكانية بحثاً عن فترة استقرار وهدوء للتدبر والتمعن في مسارات الحياة، وهي يمكن اعتبارها حبكة إضافية أو فرعية في فضاء الرواية أبرزت الكثير من المعالم الجغرافية للمكان وتراثه الفني والموسيقي وأوجه الحياة كافةً، حتى ظهر العمل في هذا الفصل وكأنه رواية مكان، خاصة بإظهارها وتوثيقها ما يكتنزه ذاك الفضاء الهوني من مواقع تاريخية وطقوسٍ وعاداتٍ وتراث زاخر بالبهجة والإمتاع.

وهذه النقلة الروائية للفضاء المكاني لم تكتفي بالسرد والوصف والحوارات بل نجدها تتعالق مع جنس الأغنية التراثية التي تمثل عنصراً من عناصر هوية مدينة (هون) حيث تضمنت نصوص أغاني تراثية شهيرة سجلتها الرواية حين تعاظمت بهجتها وتعالت أصواتها في فضاء “السانية” خلال الجلسة الودية مع ثلة من الأصدقاء، حاول البطل (أحمد) أن يتجاوز فيها قسوة واقعه المؤلم الحزين، ويغنم بعض لحظات الانبساط الممتعة مع رفاقه “عبدالسلام” وصديقه “بشير” وكل من “محمد” و”حسن” وآخرين، حيث تعرف على غناء “النخيخة” واستمع لدقات “الطبل” وغيرها من ألوان الطرب الهوني التراثي العريق مثل:

(سكب سال دمع الميامي حذايف

وعقلي مرايف

ونا الليل ما نرقده من الزنايف)(5)

وكذلك في موضع آخر:

(عيني على مشكاي    بكت لين بكت كل زول معاي)(6)

إضافة إلى غير ذلك من العناصر ذات الصلة بالأغاني والطرب والفنون كأسماء الشعراء والفنانين مثل الشاعر محمد الدنقلي، والعازف الموسيقى تامر العلواني، ومعزوفة Love story للملحن الفرنسيFrancis Albert Lai، وكذلك استحضار مطربين وفنانين عرب مثل اللبنانيين أليسا وفضل شاكر والسعودي محمد عبده، وجزء من مقطع أغنية المطربة اللبنانية العربية الشهيرة فيروز:

(بشعل النار بنطر ترجع حبيبي

تبقى حدي ما تتركني غريبه)(7)

وهكذا نلاحظ أن الرواية استطاعت أن تتشابك مع فضاءات ومعالم أخرى وتوظيفها لتبعث من خلال مضامينها الإنسانية عدة رسائل اجتماعية نبيلة هادفة، وإن ظل دورها محاولة تغيير الصورة النمطية المشينة الملتصقة بأذهان الناس والمجتمع عن (اللقيط) وسمعته السيئة، والتركيز على سلوك شخصيته المظلومة وإبراز تصرفاته ونبوغه وما يكتنزه من مهارات وقدرات عملية، ومن خلال ذلك تحاول أن تجعل له قبولاً مرضياً في الوسط الاجتماعي، وهي بهذه الغاية الوظيفية تكون قد انحازت لجنس الرواية الاجتماعية ذات الدور الهادف والنبيل.

ومن خلال هذه القراءة الانطباعية البسيطة التي تبتعد عن مدارس وأسس النقد المنهجي الأكاديمي، وتكتفي بتقديم بعض التلميحات أو الإشارات والملاحظات الفنية الانطباعية التي يمكن رصدها أثناء تأمل بعض العناصر التي تضمنتها رواية (الرسالة) سواء اللغوية أو الأسلوبية، يمكن القول بأن مفهوم كتابة الرواية كما يترسخ في ذهن الكاتبة هو عبارة عن حشدٍ للأسماء والشخصيات والأحداث والأماكن، ورصِّها بشكل غزير مكثف دون أية تفاعلية حيوية تربطها بحركية النصً ومفرداته وشخصياته، أو المفاضلة بينها عند اختيار تقنيات أدوات ربطها بإيقاعها السردي المتفاوت في درجاته، حيث نلاحظ أنه بخلاف الثيمة الأساسية وهي موضوع الرواية الاجتماعي فإننا لا نلتمس تلك الحبكة السردية القوية والعميقة في مضمونها وسياقاتها، التي تحقق للرواية جاذبيةً وتشويقاً لكسب ود القارئ وتعاطفه مع شخصياتها بل حتى تقمصها أحياناً، دون الحاجة إلى زخرفة النص بالعديد من الأسماء والأماكن وحشوه بالمعالم والأحداث المتنوعة التي توزعت بين فضاءين مكانين في كل من طرابلس وهون.

أما الأسلوب الذي اتبعته الكاتبة في روايتها فقد غلب عليه التعبير السردي المشهدي الذي سعت من خلاله لجعل القارئ يتبني وجهة نظر الشخصية الرئيسية في الرواية، ومن ثم العمل بقناعاتها الفكرية والتعاطف معها في تفاعلاتها كافةً، وذلك من خلال نقلها والتعبير عنها بصوت الراوي، وهو أسلوب يختلف عن السرد البانورامي الواسع الذي يجعل العيون كلها كاميرات فوتوغرافية صامتة تعمل على التقاط ونقل الأحداث ووضعها أمام القارئ بكل حيادية تاركةً له حرية الاختيار وتحديد موقفه من الشخصيات كافة وموضوع الرواية كذلك.

ولابد من الاعتراف بأن الكاتبة أثناء وصفها المشاهد والمواقع في مدينة هون قد أجادت فعلاً في وصف ونقل عناصر تلك الأمكنة وإسكانها فضاء روايتها بروح العاشقة والعالمة بتفاصيل المكان وتاريخه، والهادفة إلى إيصال جمالياته المتعددة للقارئ، لأنها تنتمي إليه، وتعيش بين أحضانه وهو يستوطن وجدانها، ونكتشف ذلك بكل وضوح من خلال تناولها معالم هون سواء عند وصف مدينتها القديمة العريقة، أو الإشارة إلى بعض الأماكن الحديثة مثل فندق “الهروج” و”مؤسسة ذاكرة المدينة”، وكذلك توطين أسماء الأكلات الهونية مثل “كعك الخشكنان” أو مكونات اللباس الهوني التقليدي وغيرها من العناصر الأخرى المتعددة في الرواية.

ومثلما أثثت الكاتبة الفضاء الهوني وعناصره المكانية بكل براعة فإننا نجدها لم تغفل الإشارة إلى أهمية الفضاء الطرابلسي الذي أبرزت فروقاته ونقلته بشكل مغاير في محتوياته وتقاليده وأجواءه المختلفة عن ذاك الذي عشناه معها في هون حين انتقل السارد ليتجول بنا عبر إيحاءاته الوجدانية العميقة وهو يخاطب طرابلس بصوت المونولوج الداخلي (أتسكعُ في حاراتك يا طرابلس، لأني أجدُ فيها تبعثري وتوهاني، أجدُ فيها أناي الضائعة، وذاتي المتشظية، وأتسللُ إلى دورِ العبادة ومواطن الصلاة، بحثاً عن السكينة الروحية، وتعطشاً لإجابة عن سؤالِ الذات والهوية)(8).

 ويؤخذ على الكاتبة أن نصها الوصفي المتتابع الذي جاء مكتظاً بأنواع المشروبات والأكلات كان غير متجانس، وبإطناب سردي تتراص فيه المفردات في اصطفافٍ تقريري مجرد من أية دلالات معينة (التقينا في المقاهي والحدائق وبيوت الأصدقاء، وتسكعنا في شوارع طرابلس وأزقتها، وتقاسمنا، الرغيف المقرمش، ورشفات القهوة في الكوب الورقي، والإسفنز الساخن المكتنز بالعسل، والبيتزا والمبطن، وقضمات التفاحة، وحبات الفوشار)(9).

ونلاحظ أن الرواية اعتمدت على القلق الدائم والصراع النفسي والاضطراب الفكري أحياناً الذي كان يطوق الشخصية البطلة (أحمد) طوال فصول وأحداث الرواية، وذلك سعياً لمعرفة ذاته وهوية كيانه وانتماء أصله، وأيضاً للبحث عن موقعه ودوره الفاعل في الحياة الاجتماعية بين الناس، ولذلك أطلقت الكاتبة خطواته لتقوده في اتجاهات متعددة من أجل الحصول على إجابات شافية للأسئلة التي تتفاعل في كيانه العقلي، منطلقاً من الجانب الديني الذي استهله بحوار عقلاني عميق مع شيخ الجامع شارحاً وضعه وظروفه ومبتغاه (أنا لقيطٌ يا شيخ.. مجهول النسب، تقدمتُ لخطبة فتاة أحببتها بشغف، وكان بيننا مودة وحب كبيرين، فرفض أهلها خطبتي، وفرقوا بيني وبينها..)(10). وبعد ذاك العرض الصريح والمباشر نجده يمطر الشيخ بوابل من الأسئلة المتتالية (ما حكم اللقيط في الاسلام؟ ومن ولي أمره؟ وهل يجوز له أن يتزوج من فتاة ذات نسب؟)(11).

وبسبب ذلك الانشغال الدائم بقضيته الوجودية نلاحظ أن صوت السارد وهو البطل والراوي (أحمد) نفسه قد غلب وطغى على أصوات الرواية الأخرى، كما أن تنقلاته وظهوره في فضاءاتها المتعددة قد تعززت من خلال صفة (اللقيط) المشينة التي وجد نفسه ضحيتها، وظلت تقرعه بالكثير من الأسئلة المستفزة حتى أثناء خلوته وصوت مونولوجه الداخلي الحزين يقرعه بالأسئلة (حين كبرتُ، وكبرت تأملاتي وأسئلتي “الوجودية”، من أنا؟!!، وأين أبي وأمي؟ وأخوتي؟ وأهلي؟)(12) (لمن أشتكي حالي؟!! وأنا اللقيط الوحيد، لا أحد يعبأ بي)(13).

وليس القلق بشأن الوجود والانتماء فقط ما كان يشغل بطل الرواية (أحمد) بل برزت قضية السرقات الأدبية التي أثارها في خاتمة الرواية محركاً لانشغالاته وسيطرتها على تفكيره ووقته، فسرقة زميلته الصحفية (فاطمة زكريا) لمخطوط روايته (الرسالة) مثل صدمةً غدر وحزن كبيرةً، ولكنه في نفس الوقت ولد فيه تحدياً عظيماً جعله يواجه الموقف بكل ثبات مع ذاته ومع زميلته، وخوضه سباقاً مع الزمن لإصدار عمله الروائي الأول قبلها، وظلت تتوالد الكثير من الأسئلة المزدحمة في تفكيره (نحن في سباق مرهق وحاسم مع الوقت، نحن: “أنا وهي”، من فينا سيصل أولاً للقارئ؟!، ومن فينا سيقنعه بأبوة الرواية؟!، هل يكفي أن أضع اسمي على الغلاف؟، هل أستطيع إقناع القارئ والناقد بأن الرواية لي من الألف إلى الياء؟!، وما الضرر الذي قد يصيب كلانا “أنا والرواية”، من دخول الشك لقلب القارئ؟، هل سأنتصر في هذه الحرب الـ”خبيثة “؟، تحيلني كلمة “خبيثة” لمرض تعرفونه، يتسلل بهدوء لجسد المريض، قد يجدي علاجه المبكر، وقد ينتشر بسرعة مثل انتشار النار في الهشيم، فلا يترك جسم صاحبه إلاّ هيكلاً، سرعان ما يذوي، على كل حال، سأقاتل بشراسة في سبيل حقي، ولو كلفني إقامة دعوى قضائية ضد فاطمة.)(14)

وإذا كانت الرواية احتضنت الأغنية بغزارة فإن الشعر هو الآخر لم يغب عنها حيث نشرت الكاتبة على لسان بطلها (أحمد) عدة نصوص شعرية أطلقها للتعبير عن معاناته وربما كذلك للتنفيس عما يعتمر في داخله من أحاسيس ومشاعر تتقاذفه نحو شواطئ متعددة جراء ما تعرض له من ظلم اجتماعي وخذلان زميلته الصحفية ومكابداته الحياتية بشكل عام، حيث نجده تارةً يخاطب طيف حبيبته المفقودة ويبثها مواجعه الحزينة:

(كيف تأتين إليّ …؟!!

وأنا

الموصدُ بابه

من سنين

مغلقاً أبوابه.. للفاتحين

يا عبير العمر ولّى

إنني عربيد سهر وشجون

فخلعيني

من عباءات الوعود

ونسيج الأمنيات

واكتبيني

بين أقواس الحياة

عابرٌ مرَّ

وخلَّفَ

في رواقِ العمر باقة)(15)

وتارةً أخرى يجعل خطابه عاماً مفتوحاً وكأنه صرخات وإشارات يريد تمريرها للكيان المجتمعي بأكمله حين يخاطب الجميع بلغة مباشرة يلخص فيها غايته وأهدافه من روايته “الرسالة”:

(تقرأونني بالكلمات..

تقرأونني بالحروف..

تقرأونني سطراً بعد سطر.

بلهفة!!، وبشوق!!، وبقلق!!

أشدكم إليَّ،

حرفاً بعد حرف،

كلمةً بعد كلمة،

سطراً بعد سطر،

صفحةً بعد صفحة،

لآخر “الرسالة”..

وهذا ما لم أخطط له، وما لم أرتب له. ما أردته كان فقط البوح، حتى وجدتني أكتب ما يشبه الرواية، سميتها “الرسالة”، لأنها رسالة “إليها”)(16) 

لابد من التأكيد على أن رواية (الرسالة) للدكتورة حنان الهوني قد ابتعدت عن كتابات الإثارة الأنثوية واستغلال سلطة الجسد وسرديات البوح الشخصي التي تتسم بها العديد من الأعمال النسائية في استقطاب القارئ، بل سخرت فكرتها وثيمتها الرئيسية لتسليط الضوء وتناول قضية إنسانية تؤكد بها الدور الهادف للأدب وتوطد علاقته التفاعلية مع الواقع المجتمعي. وفي جانب آخر أحسب أن رواية (الرسالة) للدكتورة حنان يوسف الهوني هي واحدة من الروايات الليبية التي تفـند ما أوردته الأستاذة هناء علي القنصل في أطروحتها الجامعية بقولها (تفردت المرأة في الرواية النسائية الليبية بدور البطولة المطلقة وکثرة الحضور والتأثير في الأحداث، وفي المقابل نجد انحساراً لدور الرجل في المجتمع الليبي، مما جعل صورته سلبية في الغالب)(17)، وأبانت أن شخصية البطل في الرواية هو الشاب (أحمد) الذي ينتمي إلى بيئته الليبية ومجتمعه بكل ظروفه العامة ومعاناته الخاصة، وهذا في جانب آخر يؤكد أن الرواية الليبية تستمد فكرها وشخصياتها من الواقع بكل صوره وأشكاله، وتغوص في المجتمع بكل ظروفه وحالاته حتى أنه يمكننا الزعم بأن الكاتبة قد مارست عملية مواجهة أو مكاشفة بينها وبين المجتمع من خلال إحدى القضايا الشائكة، فنقلت أو استلهمت منها بعض الأفكار والمواضيع وفي المقابل حاولت طرح البدائل المقترحة بنقودها المباشرة أو أثناء حواراتها وسردياتها وصراعات وأسئلة شخصيتها البطلة في ثنايا العمل الروائي. ولا شك بأنه ليس من الضروري أن تنال رواية (الرسالة) إعجاب الجميع بقدر ما أنها عبّرت عمّا تنطوي عليه نفس الكاتبة وطرح أفكارها وسرد موضوعها الجريء لتسليط الضوء على شخصية اجتماعية صعبة، تمكنت من بناءها فكرياً، وتحريكها داخل الفضاء الروائي للتعبير عن ذاتها وكذلك عن أفكار الكاتبة.

ولكن من الضروري أن يتطلب هذا التعبير لغةً سرديةً تتوفر فيها المعايير والاشتراطات الفنية اللازمة، لأنه إذا كانت اللغة هي عصب العمل الأدبي بجميع أشكاله، سواء من حيث ثراء قاموسها اللفظي أو تنوعها أو شاعريتها وكذلك من حيث سلامتها الإعرابية وعدم إخلالها بضوابط وقواعد الصرف والنحو، فإنه من المآخذ القوية تجاه هذه الرواية هو كثرة الأخطاء اللغوية التي ظهرت في هذه الطبعة، سواء كانت الإملائية الطباعية أو النحوية الصرفية، وحين نعرف أن الكاتبة هي أستاذة جامعية وخريجة لغة عربية، فإن الأمر يصبح أكثر إيلاماً وأسفاً، وإن كان اللوم والعتاب في هذا الجانب يقع على الكاتبة بالدرجة الأولى فإن دار النشر ينالها أيضاً نصيبٌ وافر جراء ذلك، على أمل أن يتم تفادي هذا التشوه مستقبلاً.


هوامش

(1)  انظر: غابرييل غارسيا ماركيز، ترجمة صالح علماني، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 1988م، ص 10

(2)  الرسالة، رواية، حنان يوسف الهوني، المكتبة العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2022م

(3)  الرؤية الأدبية، إضاءات في الادب والنقد، رمضان سليم، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والاعلان، مصراته، ط1، 1986م، ص 11

(4)  لقيط وأمه ومئة امرأة، رواية، بلال البرغوث، دار موزاييك للدراسات والنشر، دمشق، ط1، 2021م

(5)  الرسالة، مصدر سبق ذكره، ص 31

(6)  المصدر السابق نفسه، ص 34

(7)  نفس المصدر السابق، ص 115

(8) المصدر السابق نفسه، ص 56

(9)  المصدر السابق نفسه، ص 48

(10)  المصدر السابق نفسه، ص 52

(11)  المصدر السابق نفسه، ص 51

(12)  المصدر السابق نفسه، ص 47

(13)  المصدر السابق نفسه، ص 49

(14)  المصدر السابق نفسه، ص 111

(15)  المصدر السابق نفسه، ص 81

(16)  المصدر السابق نفسه، ص 83-84

(17) انظر: هناء علي علوان القنصل، السرد النسائي في الرواية الليبية، دراسة في الأدب الليبي، مجلة البحث العلمي في الآداب، كلية البنات للآداب والعلوم والتربية، جامعة عين شمس، مصر، مج 2018، ع 19، 31 ديسمبر 2018م.

مقالات ذات علاقة

من غرائب جنوب ليبيا (كاف الجنون) (2)

عبدالعزيز الصويعي

الشاعر محمد المزوغي ظاهرة شعرية عربية يجب التوقف عندها

المشرف العام

رؤية في نص الشاعرة سميرة البوزيدي

نورالدين سعيد

اترك تعليق