زبيدة فيصل | قطر
“واقترب قلبي من الحكمة ابنة المحبة والجمال، وقال: أعطني حكمة أحملها إلى البشر. فأجابت: قل هي السعادة تبتدئ في قدس أقداس النفس ولا تأتي من الخارج”
جبران خليل جبران- مقال بيت السعادة من كتاب دمعة وابتسامة
رغم كل المصاعب العائلية والإنسانية التي ميزت السيرة الذاتية للفيلسوف والأديب اللبناني- الأمريكي جبران خليل جبران، إلا أن معظم نتاجاته -بما فيها لوحاته التشكيلية التي لم تلق إلى الآن الاهتمام الكافي والدراسة الجادة حولها- مُسحت بمسحة من التفاؤل والاستبشار تمثلت ملامحها في توقه الدائم إلى الأفضل وحبه للتحاور مع الطبيعة والامتزاج بها، وأيضا في موقفه الإيجابي من العمل في حياة الإنسان، وتمجيده للكفاح وفئة العاملين.
جبران خليل جبران هو أحد أبرز أدﺑﺎء وشعراء المهجر الذين عاشوا ونظموا شعرهم وكتاباتهم في البلاد التي هاجر إليها عدد من مثقفي سوريا ولبنان فيما بين 1870 حتى أواسط 1900، فنقلوا اللغة العربية والأدب العربي إلى تلك المهاجر، وأنشأوا أدبا جديدا يعبرون من خلاله عن مشاعرهم، وعواطفهم، يتحدثون فيه عن حنينهم لأوطانهم، ويصفون حياتهم وما تعرضوا له من عناء وشقاء، أُطلق عليه أدب المهجر، وقد ساهم جبران مع عدد من الأدباء في إنشاء الرابطة القلمية في العام 1920، والتي عنت بالاهتمام بکتابات الأدباء والشعراء في المهجر من أجل تعزیز الإحساس بالعروبة في بلاد الغربة. كان من بين أعضائها ميخائيل نعيمة ونسيب عریضة.
ولد جبران في 1883 في قرية منعزلة في (بشَّري) شمال لبنان، لعائلة مسيحية مارونية عانت من الفقر؛ فقد عرف عن والده (خليل) بأنه كان زوجا سيئا وأبا غائبا، فظا سكيرا يسيء معاملة أفراد أسرته. فقد عمله لكثرة الديون المتراكمة عليه وانشغاله بلعب القمار، وبسبب تصرفات الأب غير المسؤولة؛ قررت الأم (كاملة) أن تهاجر مع أبنائها إلى بوسطن بعد أن باعت كل ما ملكت حتى أواني منزلها بغية تأمين مستلزمات السفر، واضطرت هناك للعمل كبائعة متجولة في سبيل أن يعيش أبناؤءها على هامش هذه الحياة فيخرجوا منها كفافًا، إلى أن وجدت في جبران شغف التعلم مع سطوع مواهبه وتعددها بين الرسم والكتابة وفن التصوير، فقررت أن تكرس جل اهتمامها ودخلها المادي المحدود لتعليم ابنها والارتقاء بحسه اللغوي والفني. كانت تناديه ( يا ملاكي ..). بدت كأم مفتونة بقدرات صغيرها وحيويته، وربما رأت فيه تتويجا لحياتها الصعبة بأكملها. (كاملة) التي لم ينل منها القنوط يوما رغم متاعبها وآلامها، يبدو أنها قد هيأت – بمنأى عن كل الصعوبات التي أحاطتها- لابنها جبران الاستعداد النفسي لرؤية جانب الخير في الأشياء والاطمئنان إلى الحياة والتّفاؤل؛ فبات يشعر دوما بنسيم عليل يهف على شرفات روحه وقت الحزن والكدر. تعلّم ألا يكون مطفأ بالآلام. امتلأت روحه بالجمال حتى قالت عنه الصحافة العالمية بأنه : “أعظم من هام بالجمال،” واكتست كلماته في رسائله إلى أصدقائه ومن أحب من النساء بكساء المشاعر اللطيفة والود والسلام، كما رسم لوحات عكست عمق إنسانيته وحساسيته العالية التي بدت متوازية ومكملة لشفافية أدبه ورشاقة كلماته.
في مطلع حياته فُجع جبران خلال سنة واحدة بفقد ثلاثة من أعز أحبائه: أخته (سلطانة) وهي في السن الرابعة عشرة ثم الأخ الأكبر (بطرس) جراء إصابتهما بمرض السل، وأخيرا الأم (كاملة) التي أصيبت هي الأخرى بمرض السرطان، فحول الأسقام والمآسي إلى نصوص تخفق لها الأرواح، وكتب عن الموت بإايقاع عذب حتى بدا الموت هو الحياة، فها هو يكتب في إحدى رسائله إلى مي زيادة سنة 1930م حين اعتلت صحته، وشعر بدنو أجله: ” .. لقد وجدت في المرض لذة نفسية تختلف بتأثيرها عن كل لذة أخرى، بل وجدت نوعا من الطمأنينة يكاد يحبب إليّ الاعتلال. إن المريض لفي مأمن من منازع وأغراض الناس، والوعود والمواعيد، والمخالطة والمنازعة والكلام الكثير، ورنين جرس التليفون .. ووجدتني قريبا ممن أحبهم: أناجيهم وأحدثهم، ولكن بدون غضب، وأشعر شعورهم و أفتكر أفكارهم” وأكمل في نفس الرسالة : ” .. أما تعلمين يا مي، أني ما فكرت بالانصرافالذي يسميه الناس موتا، إلا وجدت في التفكير لذة غريبة، وشعرت بشوق هائل إلى الرحيل.”عانى جبران قبل موته في العام 1931 معاناة طويلة مع المرض، بدءا من النقرس وتليف الكبد وانتهاء بداء السل الذي راح ينهش رئتيه شئيا فشيء، فأوصى أن تكتب هذه العبارة على قبره: “أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فأغمض عينيك والتفت؛ تراني أمامك”، في إشارة إلى يقينه بأنه سيبقى حيا سيحيا ما دامت طالما بقيت كلماته تُقرأ وتُغنى، ونصوصه تبعث شيئا من الراحة في النفوس المتعبة.
واسى جبران نفسه دوما بالطبيعة التي أمضى بين ربوعها السنوات الأولى من طفولته، وأي طبيعة؟ إنها طبيعة لبنان بينابيعها الصافية، التي ارتوى منها الموسيقى الساحرة، وراقب -بنقاء روحه آنذاك- تفتح الزهور ورفرفة الفراش ونمو الأشجار في حقول قريته الصغيرة ، فلم تكن الطبيعة في كتاباته عنصرا مقحما أو دخيلا، بل بدت كنزوع كامن في صلب شخصيته المتآلفة مع الأرض بسهولها وجبالها، بليلها ونهارها وفصولها المتعاقبة، والمفتونة دوما بالسماء وشعاع الشمس والقمر، فاستهل مقاله بعنوان (أيتها الأرض) بهذه الكلمات : “ما أجملك أيتها الأرض وما أبهاك! ما أعذب أغاني فجرك وما أهول تهاليل مسائك! ما أكملك أيتها الأرض وما أسناك!”، وفي رسالة إلى صديقه -الذي شاركه أحلامه وقاسمه أفكاره-(ميخائيل نعيمة) عام 1929، وكان يكتب له باسم (ميشا) واصفا حالهما المتبدل: ” هي حالة، يا ميشا، صحة كانت أو علة .. هو فصل من فصول حياتي، وفي حياتك وحياتي شتاء وربيع، وأنت وأنا، بالحقيقة، لا ندري أيهما أفضل؟”، وكتب عن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام : “أنت بكآبتك أشد فرحا من الربيع بأزهاره، أنت بأوجاعك أهدأ بالا من الملائكة بسمائها، وأنت أكثر حرية من نور الشمس”، ومدح الشاعر عمر بن الفارض، إذ حيث اعتبره الذي عده جبران بأنه شاعرا نابغا نظم شعرا يصل ما ظهر من الحياة بما خفي عنه، فقال عنه بأنه: ” روح نقية كأشعة الشمس، وفكرة صافية كبحيرة بين الجبال”.
اعتاد جبران خليل جبران أن يتحرى مواطن القوة في كلماته ذات البعد التفاؤلي، متخذا منها دليلًا لإرشاد النفس الإنسانية؛ فيدعوها إلى عدم الكف عن الرجاء والعمل حتى النهاية، فإبان الحرب العالمية الأولى، وبسبب صراع الفرنسيين من جهة والعثمانيين والألمان من جهة أخرى، حلت كارثة عظيمة ببلده لبنان، حيث ضربت منطقة متصرفية جبل لبنان ذات الأغلبية المسيحية بين العامين 1915 و1918 مجاعة عظيمة، ووفقا لما تذكره الأرقام فإن ما بين 120 ألف و200 ألف لبناني، أي ثلث عدد السكان آنذاك، قد قضوا في هذه المجاعة، وهو ما نغص عيش جبران، فساهم مع بعض أصدقائه الأدباء في إنشاء لجنة إغاثة للمنكوبين استطاعت أن تخفف بعض الشي من شدة المأساة على اللبنانيين، وراح يحثهم في مقالة بعنوان (مدينة الماضي) على مواصلة الحياة إلى الأمام؛ فالحياة بالنسبة إليه حركة إلى الأمام ولا يليق بها الوقوف، فقال : ” .. ومشت الحياة أمامي وقالت: اتبعني، فقد طال بنا الوقوف. قلت: إلى أين ؟، وهدت قواي العقبات. قالت: سر فالوقوف جبانة والنظر إلى مدينة الماضي جهالة”، وفي نص مقالي بعنوان (العهد الجديد) كتب يحث شباب بلاد المشرق على الإيمان بقدراتهم والتنبؤ بمستقبل مزهر ملؤه الحماس: “أما أبناء الغد فهم الذين نادتهم الحياة فاتبعوها بأقدام ثابتة ورؤوس مرفوعة. هم فجر عهد جديد، فلا الدخان يحجب أنوارهم، ولا قلقلة السلاسل تغمر أصواتهم، ولا نتن المستنقعات يتغلب على طيبهم .. هم فئة مجهولة لكنهم يعرفون بعضهم بعضا، ومثل قمم عالية يرى واحدهم الآخر ويسمع نداءه ويناجيه.”
أحب جبران حياة الكد والجهد، فقدّر قيمة العمل وجهد العاملين، وقال : “إن الأيدي التي تصنع أكاليل الشوك هي أفضل من الأيدي الكسولة”، وكتب نصا عن قيمة العمل والعمال بعنوان (أُحبُّ العاملين) : “أُحب من الناس العامل: أُحب الذي يشتغل بفكره فيبتدع من التراب صورا حية جميلة نافعة، وأُحب ذلك الذي يجد في حديقة ورثها عن أبيه شجرة تفاح واحدة، فيغرس إلى جانبها شجرة ثانية، و ذلك الذي يشتري كرمة تثمر قنطارا من العنب، فيعطف عليها ويدللها لتعطي قنطارين، وأُحب الرجل الذي يتناول الأخشاب الجافة المهملة، فيصنع منها مهدا للأطفال، أو قيثارة للأغنام، الرجل الذي يقيم من الصخور المنازل والدور.” وكما أَحبّ الرجل العامل، آمن جبران بعدالة الحياة وإن ثقلت وطأئتها على نفسه أو على الأخرين وخصوصا الفقراء والمضطهدين في هذا العالم؛ فدوّن في إحدى قصاصاته، التي جمعت لاحقا في كتاب (رمل وزبد) : “كيف أخسر إيماني بعدل الحياة، وأنا أعرف أن أحلام الذين ينامون على الريش ليست أجمل من أحلام الذين ينامون على الأرض؟”، فهو يرى أن الحياة كريمة جدا لكن الإنسان عاجز عن الأخذ والقبول، وأن الأرض مليئة بالكنوز حيث لا يسع للإنسان أن يملأ يده من هذه النعم:
ما أكرم الحياة وما أسنى هباتها
ما أجود الأرض وما أبسط راحتها
ولكن ما أعجزني عن الأخذ والقبول
ما أصغر جرتي أمام فيض الحياة
ولأنه كان قريبا من واقع الحياة اليومية، كتب جبران ما يلامس طبيعة الناس ومعاناتهم، ومن بينها فكرة نزاعهم مع من يختلف عنهم، وذلك بأسلوب وعظي ذكي سهل قريب إلى النفس، فدعا في مقاله (وعظتني نفسي) إلى التآزر والانتماء إلى المجموعة بدلا من التفرقة والخلاف، فقال : “وعظتني نفسي فعلَّمتني وأثبتت لي أنني لست بأرفع من الصعاليك، ولا أدنى من الجبابرة، وقبل أن تعظني نفسي كنت أحسب الناس رجلين: رجلًا ضعيفًا أَرِقُّ له أو أزدري به، ورجلًا قويًّا أتبعه أو أتمردُ عليه. أما الآن فقد عَلِمت أنني كونت فردًا مما كون البشر منه جماعة. فعناصري عناصرهم، وطويَّتي طويتهم، ومنازعي منازعهم، ومحجتي محجتهم”.
جبران خليل جبران، مهما تكالبت عليه المصائب واضطربت من حوله الحياة، اعتاد أن ينجو بنفسه؛ بجعل كل ما حول جميلا كالجمال الذي لمحه بخياله وبثّه بسخاءٍ في سطوره، فكتب بأسلوب بلاغي رائق نصوصا بدت كمرآة لروحه المفعمة بالتفاؤل. شعر دوما بقوة كامنة في داخله، ورأى المستقبل مكتنفا بالنور، محاطا بالغبطة والمجد؛ لم يعش سنوات طويلة؛ توفي وهو في عمر الثامنة والأربعين، ولكنه استطاع أن يكتب اسمه بأحرف كبيرة على وجه الحياة، لأنه كتب عن الحياة.
“سر إلى الأمام ولا تقف البتّة، فالأمام هو الكمال. سر ولا تخشَ أشواك السبيل، فهي لا تستبيح إلاّ الدماء الفاسدة” .
جبران خليل جبران- من مقال زيارة الحكمة، كتاب دمعة وابتسامة
سرد أدبي | مجلة فصلية أدبية، العدد السابع – ديسمبر 2022م.
المصادر:
موسوعة جبران خليل جبران العربية، الدار النموذجية للطباعة والنشر، صيدا – بيروت، 2015.
الأعمال الكاملة: مختارات من رسائل جبران، دار العلم والمعرفة، القاهرة- مصر، 2010.
زبيدة فيصل هي كاتبة وباحثة إعلامية من قطر، صدر لها كتاب بعنوان “عادة شكلتني، القراءة وأشياء أخرى حولها”، تشارك بمقالات أدبية في عدد من المجلات الثقافية ومنصات إلكترونية تُعنى بالأدب والثقافة.