طيوب عربية

السمكة المذعورة

احتضار سمكة؛ من أعمال التشكيلي مرعي التليسي

سرت في الطّريق أبحث عن بقايا قدميك على الرّصيف؛ أبحث عن بقايا  نظراتك في السّماء؛ مرّ عدّة أشخاص دون أن يتركوا بصمات أحتاج إليها؛ تفحصت وجوههم…نظراتهم…نعالهم البسيطة بانتباه؛ كنت أعتقد أنّك واحد منهم؛ لكنّك بالتّأكيد كنت تختلف عنهم في مشيتك…في نظراتك… تتساقط مثل رذاذ المطر في الصباح؛ طلبت من أحدهم بقايا من سيجارته؛ أخذت نفسين… لا يكفيني نفس واحد؛ قد أختنق بعيدا عن أنفاسك؛ استغرب معظمهم كيف تجرّأت وطلبت منهم سيجارة ثمنها فاخر جدا؛ هم لا يعرفون أنّ سجائرك فاخرة جدا مستوردة من بلاد بعيدة لا يسكن فيها إلاّ العشّاق؛ كنت أرى في بقايا الأقدام في المساء وداخل المساء… تمشي على الأرض بثقة عمياء، صورتك؛ صوتك؛ أغنيتك، كنت أبحث في السّيجارة داخل السّيجارة عن بقايا أصابعك السّمراء تتسلّل إلى جسدي؛ كنت أبحث في الرّصيف عن وجه ضائع؛ كنت أبحث في السّماء عن طيور ضائعة تأخذني وجهك القرمزيّ؛ صرت تائهة بين زحمة الوجوه تمرّ على الرّصيف الخلفيّ للذكرى؛  قفز أمامي قطّ يحمل سمكة مذعورة؛ راقبته بنظراتي؛ أصرّ القطّ أن يفترس السّمكة من عنقها؛ لم يعطها فرصة كي تهرب؛ أغلق كلّ المنافذ البحريّة والبريّة؛ ظنّ أنّه أمام كنز ثمين من كنوز الرّومان في عهد كسرى؛ خال بأنّ عروس البحر كما زعم الشعراء الرّومان قد خرجت من بحرها وتربعت على عرشها في قصرها؛ يمتد مسافة نظرتين عاشقتين لم يكن مطمئنا إلى حفيف الأشجار؛ انتابه الشكّ في سلوك المارة يهدونه تحيّة الصّباح؛ لم يكن مطمئنا حتّى إلى نفسه؛ لم يصدق نفسه؛ هو يتوقع نشوب الحرب في أيّ لحظة؛ أعطاه هدوء المكان شعورا يتخلّله شعور بالخوف من ذلك الهدوء داخل الهدوء نفسه؛ صار يترّقب دخول العدوّ إلى أرضه؛ استعدّ للدفاع عن حقّه في ذلك الكنز؛ دخل في صفوف الجيش حتّى يقاتل من أجلي؛ ازداد عدد القطط وقد أحاطوا بتلك السّمكة وقد خسرت مع تقدّم العدو إلى رأسها كلّ فرصة للنجاة بنفسها؛ فقدت الأمل؛ تخيّلت نفسي مكان تلك السّمكة بين هؤلاء القطط وقد اختزلوا معركتهم في سمكة؛ لم يفكّر أحدهم في إنقاذها؛ الجميع رفضوا مساعدتها؛ لم ينتبهوا إلى توسّلاتها ومعاناتها؛ غير بعيد عن مجال تلك المعركة قلت في نفسي: ما أشبهني بتلك السّمكة المعدومة من حقّها في الحياة؛ أنا سمكة مذعورة… أخشى من ذكرى عابرة؛ فكّرت وأطلت التّفكير؛ هل كانت نظرتك عابرة فارغة من النّشوة لا تدلّ على نشوة مطلقة؛ حتّى القطّ أدرك أمنيته؛ تشبث بحبيبته؛ لم يجعلها تهرب من ذراعيه؛ احتواها بعنف كما يحتوي الموج الصّخرة؛ لا يعطيها فرصة كي تدافع عن نفسها؛ حقا النّفس في الحرب او في الحبّ واحدة؛ كم بذل القطّ العاشق من جهد جهيد حتّى يظفر بتلك السّمكة؛ كم أعطاها من نظرة؟ كم وعدها بتحقيق قبلة؟ كم تسلق من جدار؛ كم قفز من شرفة إلى شرفة أخرى؟ كم كتب من أشعار وهو يتغزّل تلك السّمكة المدلّلة في قصرها ؟ كم تعرّض إلى أكثر من إهانة وهو يفكّر كيف يسرق تلك السّمكة؟ لم ينتبه إلى الكلب يعوي فوق ذلك الرّصيف يطالب بحقّه التّاريخيّ في تلك السّمكة؛ لم ينتبه إلى الذكرى تمرّ وسط الذكرى ولم تبق أيّ ذكرى؛ فكّرت أن أجري وراء ذلك الكلب أطالبه بحقّي في تحقيق نشوتي؟ و لكن يا للخيبة بصعوبة كبيرة هربت من ذلك الكلب؛ نجوت من أنيابه بأعجوبة؛ كان هجومه مباغتا وغادرا لا تستطيع أنثى مقاومته؛ لم استسلم؛ ركضت نحوك بسرعة؛ طلبت النّجدة عندما نفّذ أكثر من هجوم على بيتي؛ نعم تسلّل أكثر من مرّة إلى حديقتي؛ خفت أن يداهمني في حجرتي؛ دخلني شكّ هدّام؛ هو بالتّأكيد يريد أن يسرق نشوتي وأنا أقترب منك ببطء؛ أصابني هلع طفوليّ؛ خفت أن يعضّني من فخذي؛ ومن أجل ذلك ضربت ذلك القط البريّ بحجر أملس؛ فكّرت أنّ أخلص تلك السّمكة العاشقة من مخالبه؛ فكّرت أنّ السّمكة مجنونة؛ فكّرت جديّا أن أهرب مع القطّ؛ حاولت عبثا أن أتسلّق هذا الجدار الحجريّ؛ ربّما اجدك في انتظاري خلف تلك الذكرى؛ اصطدمت بالباب الحديديّ؛ تكسّرت نظارتي؛ لم أعد أراك في النوافذ الخلفيّة حيث كنت تجلس خلف بحر من الظلمات الكثيفة؛ على مسافة حبّ جرائد مبعثرة تعلن الحداد؛ مجلات تحمل صور عارضات أزياء يحتفلن بأعياد الميلاد؛ فكّرت أنّ القطّ حقّق السّعادة؛ خطر لي أنّ القطّ الجائع في عرس هو جزء من نشوة عابرة أخذتني إليك؛ دخلت موكب العرس؛ لن أجدك تضرب الطّبول وتطلق الرّصاص احتفالا بقدوم العروس على هودج الفرح أو الفرح بعينه؛ تسلّقت الجدار الأماميّ حيث كانت فوق ذلك المقعد الخلفيّ أكثر من ذكرى، أنت من  أبطالها؛ لم أصدّق جدّتي حين قالت بأنّ كلّ أبطال القصص يموتون سريعا؛ أنت لا يمكن أن تموت؛ أنت لا يمكن أن تستسلم بسهولة إلى ملك الموت؛ يجب أن تختار موتك مع موتي من أجلك؛ تصفّحت جرائد الصّباح تنقل اليك نشوتي؛ كم من إثم ارتكبته معك؟؛ فكّرت أنّك تجلس في آخر الرّصيف؛ اي في آخر الذكرى تنتظر تلك الذكرى معي؛ مرّ أمامي طفل متسول يبيع الجرائد ينتظر تحقيق الأحلام؛ يبيع الازهار وقد استغلّ موكب العرائس في قطار العرائس؛ لم يطلب منّي مقابل الوردة نقودا؛ نظراته شاحبة؛ مثل أمطار الخريف؛ تفحّصني بهدوء غريب كأنّه يطلب منّي تحقيق شيئا ما يشبه الحنان؛ كأنّه يطلب  من جسدي دفء المساء؛ نعم كأنّه يبحث عن عاصفة بريّة من عواصف الشّتاء؛ لم أجد في عينيه نشوة العشّاق يسيرون على الرّصيف ببطء يترنّمون بالأغنيات ينتظرون تحقيق الأمنيات؛ نظراته فارغة من النّشوة؛ دون نشوة؛ قتله البرد؛ قتله الصّمت؛ لم يخش من الكلب الراكض بشراسة؛ لم ينتبه إلى القطّ يمسك سمكة مذعورة؛ مسحت على رأسه؛ رفص مجددا نقودي؛ هو صغير حسّاس؛ يكره نظرات الاستعطاف؛ أعطيته ما تبقى في قلبي من حبّ وقد رفض ذلك الحبّ؛ أخيرا تركني ومشى في حال سبيله؛ واصلت سيري اليك؛ مرّ رجل مثقّف يحمل في يده حزمة جرائد قديمة؛ طلبت منه جريدة اليّوم؛ قال ساخرا: لا يوجد فرق؛ قرأت كلّ العناوين بلهفة؛ شاهدت كلّ الصور؛ لفتت انتباهي صورة رجل أشقر يمسك فتاة يضمّها إلى صدره؛ شعرت أنّ الرّصيف انتهى هنا؛ عند تلك القبلة أو النّظرة؛ شعرت أن ذلك المتسوّل في طريق الحبّ  لم يحقّق الحبّ هو أنا وأنا هو؛ بالتّأكيد أنا هي تلك الأنثى التي خرجت إلى الشّارع غربا لا تعرف شرقا تبحث عن نشوة غامضة؛ كل؟ الاشياء فيك غامضة؛ شدّتني الصّورة؛ تذكرت عارضات الأزياء؛ لم أنتبه إلى الأشياء من حولي؛ أخذني نعاس خفيف وأنا أجلس مع واحدة منهنّ وراء المقعد الخلفيّ للذكرى؛ أتذكّر غرفتك المظلمة؛ حين كنت تتسلّل الى فراشي قبل الفجر قبل صعود اللّذة بقليل تطلب كلّ اللّذة؛ لم أفكّر أنّ اللّذة تزداد مع الظّلام؛ تكبر بحجم الجبال؛ اللّذة حصان خرافيّ؛ كم تسلّقنا الجبال؛ وحين يتسلّل الفجر إلى غرفتي لا أجدك؛ ربّاه أين طارت الجرائد؟ أين خرجت النّشوة؟ ربّاه أين قفز الحصان القرمزيّ؟ مازلت أذهب الى دهاليز تلك الغرفة أشاهد تفاصيل ذلك الوشم فوق ذلك الجبل العظيم؛ وفي قمّة الجبل تتشكّل نشوة وسط نشوة ؛ أنسى معها الأشياء؛ مازلت في أسفل الجبل أمام نهر عظيم؛ أحتفظ بأطوار وجهك الجبليّ الأسمر؛ لم أستيقظ إلاّ على نداء الباعة يتزاحمون في السّوق من أجل ترويج البضائع المستعملة؛ هل أصبح الحبّ من البضائع القديمة؟ هذا السّوق غريب وعجيب؛ أنا على هذا الرّصيف لا أملك بضاعة محددة حسب تاربخ الصّنع والدولة الصّانعة؛ لا أملك اسمك؛ لا أعرف عنوانك؛ لكن أعرف وقع أقدامك على الرصيف حين تترك أكثر من جرح بليغ بتطلّب تدخّلا جراحيّا عاجلا؛ أعرف انك لا تعرف متى التقينا؟ ومتى افترقنا ؟ عاد المتسوّل من جديد يبحث عن الحبّ من جديد؛ أعجبته سيجارتي…معطفي؛ هو يحتاج إلى الدفء، ترك البرد على خديه عدّة خرائط مختلفة الأحجام لا تدلّ على وطن محدّد؛ احتضنته بدفء انثويّ؛ أعجبته قبلتي؛ أخذ منّي نفسا أو نفسين؛ نظرة أو نظرتين؛ شدّه فستاني الفاخر؛ يترك على الرّصيف عطرا يقتل الهواء البارد؛ حاولت أن أتجاهل نظراته نحوي؛ اقترب منّي؛ كأنّه يطلب الحبّ من الملوك؛ سار إلى جانبي كأنّه في موكب الملوك؛ ظلّ صامتا وسط ذلك الموكب لا يسير فيه إلاّ العشّاق؛ فهمت أنّه عاشق غجريّ يطلب الرّحيل لا يدع الرحيل قبل تحقيق الرّحيل؛ استفزني بأصابعه النّحيلة؛ تسلّل إلى رقبتي؛ أعطيته قارورة عطري الفاخرة؛ أخذني نحوه بعنف بدويّ؛ أعطاني ثقة عمياء لا أعرفها في نفسي؛ أخذني إلى مقعد الملوك أمام الذكرى؛ وراء الذكرى في منتهى الجبل؛ صرت أرى كلّ الأنبياء… كلّ العشّاق ملوكا على الأرض؛ فجأة تعلّق قلبي بذلك المتسوّل؛ وقعت في حبّه من نظرة واحدة؛ اقتربت من مقعده وجدته فارغا من الذكرى؛ حاصرني عفريت؛ سألته لماذا أخذت دون إذن منّي مقعدي مع حبيبي؛ أنت خطفت حبيبي؛ وحين ضمنّي العفريت بين يديه؛ ارتعشت؛ تخمّرت؛ أنا لا أعرف الخوف؛ انا لا أعرف إلاّ الحبّ؛ إلاّ رواية القصص عن العشّاق يخرجون كالطّيور في الفجر؛ فكّرت أنّ القطّ الذي أتى بالسمكة هو تلك الأنثى في صراعها مع الأشياء؛ لا تدرك معنى الأشياء؛ أدركت الفجر. أدركت الحصان الخرافيّ؛ صارت كلّ الأشياء لنا؛ حتّى الرّصيف لنا؛ حتّى الجبال لنا؛ حتّى الحصان لنا.

بنقردان- تونس الخضراء

مقالات ذات علاقة

إلى مجلة ميريت الثقافية مع كلّ الود.. عندما تكذب الرؤى وتخيب التوقّعات

فراس حج محمد (فلسطين)

زَيفٌ تفضَحهُ الأنامل

المشرف العام

إطلاق جائزة مغربية للنقد الروائي باسم علوية صبح

المشرف العام

اترك تعليق