المقالة

انتظار.. نجمة أغنيات أحمد فكرون

الفنان أحمد فكرون (الصورة: عن الشبكة)

ذات لقاء إذاعي، خاطبني الدكتور محمد اوريث، من خلال برنامج مسموع، فقال: “لقد بلغتَ الثلاثين من سنيَّك، وصار لِزاماً عليّ أن اقرأك، فعند هذه المحطة العمرية ينضج المرء وتتشكل أفكاره، ويصبح مسؤولاً عن إبداعه، ويؤخذ منه ما لم يؤلَف”.

في العام الميلادي التسعين وتسعمئة وألف، احتفيتُ بصدور أغنية ضمن ألبوم من ثماني أغانٍ، حمل اسمها، فكانت “انتظار” وفي مدلول العنوان يبرز العامل الزماني كما يكتنف أُختيها (تمر سنين) وكذلك (إسكندرية) وإن لم يبدُ في الأخيرة للبعض لفظاً، حيث يخبرنا مطلعها عن الفترة الزمنية ما بين نضوج البلح عند اصفراره واخضراره- ولعلّ المقصود هو بلح زغلول- وثلاثتها من صُنع الشاعر المصري الفذّ “مجدي نجيب” وحتى الغني عن التعريف في أيامنا هذه، يحتاج إلى تعريف عند التباس الوجوه واختلاط الأفكار وقلب الموازين وعصف النسيان، فهو شاعرٌ من طينةٍ خصبةٍ وجذورٍ ضاربةٍ في نسيج النصوص الغنائية، وممّن أسَّسوا للأغنية العربية الجديدة في أوائل خمسينيات القرن المنفرط مع مجايليه من أصوات وملحنين، منها ذكراً لا حصراً، كامل الأوصاف وصافيني مرة للموجي وعبد الحليم، وغاب القمر لشادية وبليغ حمدي.

انتظار انتظار

يجي الليل يودع النهار

واشوف كلام مالهوش دار

وتمر لحظة الانتظار..

ينساب مطلع الأغنية انسياباً رقراقاً بلا عوائق، لا ادري وربما ليست ثمة أية صلة بما خالجني أو توصلت إليه، من حيث إنّ مطلع الأغنية يذكرني بأغنية (أهواك واتمنى لو انساك).

لكن اذكر ذلك من نافذة البوح بالمكنون الممكن، فمسألة طرح المكنون بالنسبة ليّ هي محاولة للتخلُّص من فكرة حبيسة مؤرقة لتحلّ محلها فكرة أخرى، وهكذا دواليك- أجدني الآن، وبعد ما أسرّرت لكم به قد ارتحت من فكرة تؤرقني أو بالأحرى يؤرقني الاحتفاظ بها في تلابيبي- وعند هذا الحدّ فقط تشبهها، اقصد مطلعها، لكن ما يجيء بعده يُخالفها أو بالأحرى يختلف عنها، لكنه يظلّ مرتبطاً به، ووشيجة هذا الارتباط برأيي، هي أنّ أغنية (انتظار) تتمة لما كان يجب أن يكون عليه تطوُّر أغنية (أهواك) لعبد الحليم، أي أنها نِتاج ما كان يتعيّن أن يظهر بعدها من أغانٍ وِفقاً للصيرورة الطبيعية والتاريخية لأي تقدُّم وفي أي مجال علمياً أو أدبياً أو فنياً، نعم فهذا هو التتابع أو التسلسل المُنتظَر المنطقي لتطور الغناء المُتقَن بجنسياته وأجناسه كافةً.

جوّه دارنا برّه دارنا حتى جيرانا في انتظار

القمر شارد والقلب متعب

والحزن قاعد في انتظار

أنا وأنتي وأنتي عرفتي

وكل عيلتي في انتظار..

وفي انتظار في انتظار..

العمر والسنين

والذكريات اللي عدت

واللهفة ع الحنين في انتظار

أنا والأنين

أنا واللي كانوا أنا

والغريب في انتظار..

ألوم انتظار، للفنان أحمد فكرون (الصورة: عن الشبكة)
ألوم انتظار، للفنان أحمد فكرون (الصورة: عن الشبكة)

إن تناولَ هذا المضمون سنتئذٍ، إنما يُعدُّ جُرأةً على الغناء ومجازفةً محفوفة بالاستغراب، تمثَّلت في الخروج عن الأُطر النصيّة الغنائية المستهلكة والسائدة،   وباعثُ هذا الانفكاك من قيد المألوف النصي، هو ثقةٌ كبيرةٌ في النفس، لا يُقدم عليها إلا من آمن بموهبته وملكاته، وأراد أن يُبدع، فيصنع الجديد، وأن يخرج من دائرة التكرار وربقة النسخ لمضامين سئمتها الذائقة.

عند البحث عن مضمون لنصّ غنائي أو شعري جديد، فإنّ أول ما يقدح في البال قول عنترة بن شداد في معلقته المشهورة:

هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ

أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ؟..

أي أنّ المعاني جميعها خيض فيها شعراً وتمّ نسخها، وكل شاعر تناولها بحسب رؤيته الشعرية، فما بالكم إن بحث المطرب الملحن عن قصدٍ غير متداول ليؤديه، كنص انتظار، الذي يلتصق بالملل والشوق والحنين واللهفة والأنين ويلامس الشعور الإنساني، وكلها معانٍ وردت في نصّ هذا العمل الغنائي المتميّز.

ولإنسانية النص في مقاصده، وجب على المطرب الملحن أنْ ينقش له لحناً في مستوى تطرقاته العاطفية وتعريجاته الفلسفية ويسبك لفواصله ومذاهبه الموسيقية أحرفاً ذهبية تعيش وتتجاوز الزمن، فجاء لحن أغنية انتظار مفاجِئاً ومستغرَباً ولائقاً وحديثاً، يستهله مُلحِّنه بدخله ناعمة رومانسية مكَّنت المتلقي من تصوّر حالة الانتظار التي لطالما عاناها، ويعنيها المطرب، لحظة الانتظار للقاء حبيب، لقدوم الفرح، لبلوغ المقصود، فالجوارح هي ما تنتظر، والجسد هو مستوعبة ووعاء هذا الاختلاط الوجداني، فيطرب له ويلامس فيه شيئاً وأشياء، لما يتمكن التعبير من جوارحه وأحاسيسه.

للغناء وجهتان، فإما أن تكون طربية أو تعبيرية، والوجهة الأولى تسود الغناء العربي، لكنه لا يتوافر على الثانية إلا لِماماً، ولو أخضعنا أغنيتنا هذه لهذين المعيارين، سنلفيها تسير على الوجهة الثانية التعبيرية، وهذا الضرب الغنائي فيه من الصعوبة بمكان، بيد أنه يحتاج إلى سعة في البلاغة النصية وقدرة على رسم وتصوير معانيه من الناحية اللحنية والأدائية والإمكانيات الصوتية. وقتما أنصت إلى هذه الرائعة الغنائية اتخيلني في حالة انتظار في محطة سفر، مع إني لست في حالة سفر، وفي حالة ترقب لسوق فرحة تغمرُني، تأتيني من حيث لا احتسب، وحالات انتظار أخرى، لكن في الوقت نفسه، أجد قدمي تنفلت مني وهي تتراقص على استحياء بقدر الإيقاع الهامس المنساب من موسيقاها، وقلبي ينبض بفرح عارم ما يدلل على أني طربت لها وعبّرت عني، إذاً فإنّ هذا العمل يتشكل فيه التعبير والطرب معاً. لا لا (لالا)…

لا لا (لالا)

لا لا (لا- لا)

لاحظوا أن أخر (لا) ملتصقة بسابقتها، ثم تبتعد عنها كما هو ظاهر بين القوسين، إنها ولا شك فكرة مجنونة أقدمت عليها وأنا أحاول كتابة موسيقا هذا العمل، لكن ماذا بوسعي أن افعل، سوى أن أخذكم معي في أرجوحة سقفها السماء، فأنا على كرسي أرجوحة كلما استمعت إلى هذه الأغنية وتدفعني إلى الأمام فالأعلى قدماي المتراقصتان.

هذه الأرجوحة وسلسالاها هما المقامان الكبير والصغير في الموسيقا الغربية التي يسبح فيها لحن أغنية انتظار وعلى قاربها يظهر صوت المطرب في فترة قمة النضج الصوتي الذي ارتسم بعد عقدين من بدايته الفنية، فبه استطاع أن يُعبّر فيطرب عن حالة المُنتظِر،  بالغناء التعبيري عمّا يعصف بالنفس من أمور وعواكس لها على المشاعر. لقد امتزج صوت المطرب الملحن مع أنغام الأغنية حتى أنه انصهر معها وصار كما آلة موسيقية فأحسن حتى استشهاق الأنفاس في فواصل غنائية قصيرة جداً.

القمر والسفينة واللي ماشي بيغني

سكان مدينة في انتظار

نمشي كم مشوار ونقطع المشوار

وندخل جوه دار

ونخرج بره دار

انسهر الأوتار

جوانا شي محتار

وفي انتظار وفي انتظار..

أعدُ أغنية (انتظار) نجمة أغاني الملحن المطرب “أحمد فكرون”، وقد كسب المغامرة بها لما خرج عن السائد الغنائي في منتصف الثلاثينات من عمره، وما برحت في حالة انتظار عند ناصية الغناء العربي لأرى ما سيعقبها من تطوّر.


نشرت بمجلة (اخبار بنغازي)، 20 يونيو 2023.

مقالات ذات علاقة

فى رثاء ليبيا

سالم الكبتي

عندما ضجت الأعماق ذات ليلة …

المشرف العام

العصفور والشبّاك

خالد مصطفى كامل سلطان

اترك تعليق