المقالة

الفن أفيون الشعوب

سلسلة: الصورة والخيال

من أعمال التشكيلي محمد الخروبي.
من أعمال التشكيلي محمد الخروبي.

10 – الفن أفيون الشعوب

كلمة كاثارسيس katharsis – κάθαρσις كانت في البداية مرتبطة بطقوس التطهير الدينية قبل أن تصبح تعبيرا طبيا استعمله هيبوقراط Ἱπποκράτης – Hippocrate، ثم من بعده أرسطو في كتابه عن الشعر، الذي طور معنى الكلمة ووسع في مضمونها، وذلك لأنه خلافا لإفلاطون، دافع عن المسرح والتراجيديا، ونوه بقدرتهما على معالجة الروح بواسطة اللذة والمتعة الناتجة عن مشاهدة فصول التراجيديا. الصفة كاثاروس katharos – καθαρός، تشير إلى النظافة أو التطهر المادي والجسدي، وكذلك التطهر الأخلاقي والديني أو الروحي. كاثارسيس إذا هي إسم فاعل مشتقة من فعل كاثايرو kathairô – καθαίρω الذي يعني ينظف ويطهر ويفرغ وينقي. كان مرتبطا في البداية بفكرة التطهير الدينية، وبالذات بطقوس الطرد والإبعاد والنفي الجارية في أثينا في اليوم السابق لإحتفالات Thargélies-  Θαργήλια والتي تدور في نهاية الشتاء وبداية فصل الربيع، وهي إحتفالات لتكريم الآلهة أبوللون وآرتيميس. ففي اليوم الأول للإحتفال، يوم ميلاد آرتميس، يجري طقس التطهير المسمى كاثارموس katharmos، يليه طقس التضحية بكبش أو شاة. طقس التطهير، يتكون من تعيين شخصين، رجلين أو رجل وإمرأة يسمون الفارماكوس pharmakos – φαρμακός، أحدهما يمثل الرجال ويضعون حول عنقه قلادة من التين الأسود، والآخر قلادة من التين الأبيض ليمثل النساء. كانوا يقتادون في شوارع المدينة تلاحقهم الجماهير التي تضربهم  بأغصان شجرة التين وبسيقان البصل حتى يصلوا إلى أسوار المدينة حيث يطردون خارجها، محملين بطريقة ما – رمزيا –  بكل شرور المدينة لحمايتها من كل ما يهددها من كوارث طبيعية وحروب، إنه نوع من طرد الأرواح الشريرة الجماعي exorcisme.

هيبوقراط  ٤٦٠ – ٣٧٠ قبل الميلاد، هو أول من استعمل مقولة الكاثارسيس بمعنى التفريغ والتنقية في نظريته الطبيه المعروفة بنظرية الأمزجة Théorie des humeurs التي تعتبر أساس الطب القديم والتي استمرت جارية المفعول حتى ظهور الطب الحديث ودافع عنها العديد حتى منتصف القرن التاسع عشر. النظرية تفترض أن الجسم الإنساني يتكون من أربعة عناصر أساسية تتحكم فيه، وهي العناصر المعروفة في الفلسفة اليونانية، أي الهواء والماء والنار والأرض. ويترجم ذلك بأربعة خصائص تقابلها في الجسد البشري، وهي الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة. ونظرا لتناقض هذه العناصر وتضاد تأثيرها، فإن سلامة الجسد وصحته تتطلب توازن هذه العناصر بحيث لا يطغى عنصر منها على البقية، وأي خلل في هذا التوازن يؤدي إما إلى تغير مزاج الإنسان، وهو ما يمكن ترجمته اليوم بتغير الحالة النفسية، أو إلى تدهور صحة الجسد وظهور الأمراض. ويربط هيبوقراط بين هذه المزاجات بالسوائل العديدة المتواجدة في الجسد، وقسمها إلى  إلى أربعة أنواع، الأحمر المرتبط بالدم، اللمفي المرتبط بالدماغ، الأصفر المرتبط بالمرارة الصفراء ثم الأسود المرتبط بالطحال، بحيث تشكل هذه السوائل خليطا طبيا يمكن التحكم فيه وتعديل مكوناته. ونظام الأخلاط الطبى هذا غير محدد قبليا، بمعنى أنه فردي ويعتمد على الخلفية الصحية والفيسيولوجية للشخص المعني، فكل مريض له تكوينه الخاص من الأخلاط الفريدة. إنه يشبه نهج أو منهج شامل للطب العام، وقد تم التأكيد منذ ذلك الوقت على الصلة بين العمليات العقلية أوالنفسية وبين الحالة الجسدية وهو ما أثبتثه الدراسات الحديثة. وقد تم اعتماد هذه النظرية الخلطية بدئاً من هيبوقراط، واستعملها اليونانيون والرومان والأطباء الفرس، وأصبحت النظرية الأكثر شيوعا للجسم البشري بين الأطباء الأوروبين حتى ظهور البحوث الطبية الحديثة في القرن التاسع عشر. هيبوقراط يلجأ إلى فكرة الكاثارسيس، لمعالجة الإضطرابات الناتجة عن عدم توازن العناصر الأساسية في الجسد. الكاثارسيس بمعنى التفريغ وتنقية الجسد من السوائل والإفرازات الناتجة أو المسببة في عدم توازن العناصر الأساسية. وهذا التفريغ وطرد السوائل الجسدية يمكن أن يتم طبيعيا بواسطة عمليات قضاء الحاجة كما يقال أو القيء والعرق والإسهال ودم الحيض والأنواع المتعددة من الإفرازات الجسدية، كما يمكن أن تتم عملية التنظيف هذه بواسطة تدخل الطبيب. وربما عملية “الحجامة” التي ما تزال تزاول حاليا في العديد من الثقافات هي من بقايا الطب الهيبوقراطي. والحجامة هي عمليّة علاجيّة يتمّ من خلالها استعمال الكاسات الزجاجيّة، أو المصنوعة من الزنك الّتي تقوم بمصّ الدم الفاسد وغير المفيد للجسم، والدم الّذي يخرج هو كريات الدم الحمراء الهرمة والشوائب الدمويّة الموجودة في دمِ الإنسان والسموم بكل أنواعها، حسب ما يقرره الطب الشعبي. أما إفلاطون فإنه أقتنع بأن عملية تنقية الجسد وتفريغه من الشوائب والزوائد المضرة، هي عملية يمكن تطبيقها أيضا على الروح والعقل. فيرى أن الروح لا يمكنها أن تتشبع بالمعرفة وتستوعب العلوم بدون أن تتخلص من الآراء القبلية والمعارف السابقة بواسطة l’ elegkhos – ἔλεγχος أي التفنيد والدحض. غير أن إفلاطون يذهب إلى أبعد من ذلك، ويعود إلى إستعمال مقولة الكاثارسيس، كما كانت مستعملة دينيا في الطقوس الأورفية والفيثاغورية، أي بمعنى التطهير والتنقية والنظافة الروحية والفصل بين ماهو جيد وماهو سيء. وأصبحت عملية التطهير هي بكل بساطة الفصل بين الروح والمادة، وعلى الروح أن تطرد الجسد وتتخلص من ثقله للوصول إلى الحقيقة. أما بالنسبة لأرسطو، والذي كان منغمسا في السياسة، وبطريقة ما كان يحاول أن يجد طريقة لتهدئة الجماهيرليتفادى أي نوع من الغليان الشعبي والثوري، وجد في الشعر والتراجيديا، الحل المثالي، والعظم الذي يلقيه للشعب ليكلكه. فعملية التطهيرأو الكاثارسيس، أو التنفيس، تجري على عدة خطوات، فمن المفترض أن يشعر المتفرج بالشفقة أو الخوف على أبطال المسرحية أثناء مشاهدته لعرض الأحداث التي يقدمها الممثلون، لكن في نفس الوقت، يشعر بالمتعة بإحساسه بمشاعر الخوف والشفقة وعيش هذه التجربة المثيرة. بعبارة أخرى، الذي يجعله يعيش هذا التناقض ويتغلب عليه، هو البناء الدرامي للقصة، القصص المبنية بناء محكما والمحبوكة بطريقة ذكية وبشكل جيد وفقًا للقواعد التي وضعها أرسطو، هي وحدها القادرة على الحصول على هذه النتيجة. وأرسطو في نظريته هذه يربط بين فكرة التقليد، الميميسيس وبين الكاثارسيس كأسس للبناء الفني. التقليد يتكون عادة من إعادة إنتاج “شكل – forme ” الكائن في ظروف أخرى وفي ” مادة – matière ” آخرى، وعملية التقليد والتشابه هي التي تؤدي إلى تنقية وتطهير العواطف والأهواء لدى المشاهد. والهدف من هذه العملية هو أن التمثيل الفني، من خلال محاكاة مواقف لا يمكن تحملها أخلاقيا في واقع المجتمع السياسي – الجرائم، والخيانة، والغدر، وسفاح القربى ، وما إلى ذلك، يسمح  بالكاثارسيس أو “بالتنفيس والتطهير”، وتفريغ شحنة الرغبات والأهواء العنيفة. وهذا يعني ، تنقية الناس وتطهيرهم من المشاعر “الشريرة” أو التي لا ترغب السلطة الحاكمة في وجودها وتطورها، هؤلاء الناس الذين يمكن أن يهددوا النظام الحقيقي للمدينة إذا لم يجدوا طريقة للتنفيس عما يجري في قلوبهم من أحاسيس ومشاعر سوداء. الفن بالتالي في نظر أرسطو ليس فقط وسيلة دفاعية لحماية المدينة من “الشر” العالق في قلوب بعض أعضاء المجتمع، وإنما بالدرجة الأولى لحماية السلطة الحاكمة والطبقة السياسية المسيطرة ضد أي نوع من المعارضة السياسية، وذلك بتعويض المواطن، بدلا من إشباع رغباته “السيئة” في الواقع الإجتماعي، يعطيه الفنان فرصة إشباع هذه الرغبات بواسطة التمثيل والتشبيه والتقليد، دون المساس بالواقع السياسي والإجتماعي المشترك. ولا شك أن ما نشاهده اليوم في مجال السينما يمثل خير تمثيل هذه الصورة البراجماتية عن دور الفن في تهدئة الجماهير. فسينما هولليوود والسينما الهندية والمصرية، والتي يمكن القول بأنها المعادل الموضوعي للتراجيديا اليونانية، ساهمت بقدر كبير في سلب المواطن طاقته وقدرته على التفكير وتنظيم نفسه للثورة على الأنظمة الفاسدة التي تكبل حريته منذ عدة أجيال.

مقالات ذات علاقة

هذا الأبُ أبي

يوسف الشريف

سؤال للحوار: هل لدينا أغنية…؟

يوسف الشريف

يابلادي

أسماء الأسطى

اترك تعليق