سرد

يعيش أنا.. تأريخ المعرفة

_ السفر الأول _

من أعمال التشكيلي عائشة السنوسي (الصورة: فنانو فزان التشكيليون)
من أعمال التشكيلي عائشة السنوسي (الصورة: فنانو فزان التشكيليون)

(جدتي) الزهرة بنت عمر بالراشد _ والدة امي _ ولدت في سنة من سنوات الربع الأخير من عقد القرن التاسع عشر.. زمن الترك، حضرت عام الشر الأول الذي كان أحد تداعيات الحرب الكونية الأولى.. وحضرت عام الشر الثاني الذي أعقب الحرب الكونية الثانية، وحضرت النكبة، والنكسة، وعام الثلج..

جدتي!

أنجبت ابنا ذكرا مات في المهد، وانجبت ثلاث بنات إناث من زوجها جدي سالم علي بن طالب_ الذي كان والده شيخا لقبيلة اولاد ابي شيبة إحدى قبائل اولاد عيسى بلاعزة الزاوية.. السليميون..

جدتي!

بعد أن توفى زوجها، وتوفيت كلتا بنتاها بين عامي ال 48، و(الأش وال 52م لم يبق لها إلا ابنتها (تركية) أمي.. زوجة أبي سالم بن كورة..

جدتي!

انتقلت للإقامة عند ابنتها (امي) للإقامة بسانية (الأكوار) ببيت مال ارض المرايمة المحاذية من الجهة الغربية لمزرعة الرومي (الكاوليري)

كان أجدادي قد اشتروا تلك السانية، كانت أرضا يبابا.. حفروا بئرا ارتوازيا، واجروا الماء بالسواقي، فنمت العروق وابتلت، وخرت المياه محدثة رقراقا يشنف الأذان الصماء، وزغردت النساء.. وطوقوا المكان بالتين الشوكي.. وملأوا الفراغات بأشجار الزيتون.. وزرعوا الجداول بالموسميات من كافة أنواع الخضار..

جدي!

مع وحيده _ سالم _ شيد منزلا من الطين.. رفع قوائمه هو وأبنه كما رفع سيدنا إبراهيم قوائم بيت الله.. فكان بيت الطين اول بيت.. بالأرض اليباب٠

كان بيت جدي يحوي ثلاث حجرات.. حجرة قديمة كان يسكنها جدي قبل وفاة زوجته، وحجرة يسكنها عمي (علي) قبل أن يرحل عن الدنيا مخلفا ارملة، وثلاث اولاد ذكور.. وحجرة كان يسكنها ابي وامي (زوجته ).. وكانت كل حجرة بطول خمسة عشر مترا، وعرض مترين.. كانت الجهة الشرقية بها (السدة) ومن الجهة الغربية كانت (الركابة).. عندما قدمت جدتي كانت من ضمن سكان الحجرة.. كنت انا انام بحضنها..

خراف جدتي كان السفر الأول في كتاب المعرفة بالنسبة لي.. كانت حكايتها الخرافية المشوقة عن امنا الغولة، و(ملكشي ما عندكشي).. وسرديات حياتها وطفولتها، ومراحل حياتها لاحقا يثير خيالي بشكل كبير يفوق كل وصف.. فكانت حكاياتها صيفا في براح المنزل الطاعن في الطين تأتي معها بنسمات باردة، وفي فصل الشتاء داخل الحجرة تثير في نفسي دفئا غريبا يزيل قشعريرة البرد، والخوف من أمنا.. الغولة….

الاعتقاد الأول بالنسبة لي كان أن الكبار أتوا إلى هذه الدنيا.. كبارا.. لم يكن في ذهني أنهم كانوا اطفالا ذات يوم، ولم تكن معارفي الأولى تتجاوز سانية جدي، وتتخطى السياج الشاهق العظيم التيني الشوكي.. كان جدي هو الحاكم بأمره.. كانت السانية هي عالمي.. هي الدنيا التي لم اكتشف أطرافها، وأقاصيها.. وجه امي كان هو وجه امتي، وحمارة جدي الشهباء كانت من عجائب الدنيا.. وحليب بقرة جدي كان خمر سكري الأول.. كان جدي هو الحرف الأول لمعنى الدكتاتورية الجميلة.. كان هو الخوف الأول، والكاريزما الأولى التي لا تعلو عنها الكاريزمات اللاحقة.. كان جدي ملكا.. كان لا يغادر مملكته الا لماما.. كانت مملكته مكتفية ذاتيا لا تستورد الا الشاي والسكر الذي لا تنتجه.. المملكة٠

مقالات ذات علاقة

وحكايات اْخرى!!

سالم الكبتي

كُسيلة وعمر المختار

عبدالرحمن جماعة

رواية ديجالون – الحلقة 7

المختار الجدال

اترك تعليق