د.حسن الأشلم
(1)
مولد المسارب..!
في منتصف العام 2010 حسمت أمري بأن تكون أطروحة الدكتوراه عن السيرة الذاتية في ليبيا، وذلك في سياق اهتمام خاص بأسئلة الأدب الليبي في مراحله المتأخرة؛ والمتعلقة بالماضوية، والتاريخ المسكوت عنه، وعلاقة المثقف بالسلطة، وقد تأسس اختيار السيرة الذاتية على بعد مفاهيمي للسيرة الذاتية العربية جعل المرجعية تتشاكل مع الذات، هذا إن لم تطغ عليها في كثير من الأحيان، ولعل ذلك ما دفع بمحمد الباردي إلى تعديل تعريف فيليب لوجون الشهير ليتواءم مع طبيعة السيرة الذاتية العربية الموضوعية؛ فهي من وجهة نظره:(حكي استعادي نثري بأشكال سردية متنوعة، يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص والعام، وذلك عندما يركز على حياته الفردية والجماعية وعلى تاريخ شخصيته الكلي والجزئي) عندما تتكلم الذات ص179، ومن ثم كانت الغاية هي الاستفادة من قدرتها على كشف جانب من ذلك التاريخ المسكوت عنه في ثنايا الذاتية المتفاعلة معه والمنفعلة به، وتحديدا من منظور النخبة المثقفة التي عددتها الشريحة المهزومة مرتين؛ عقب الاستقلال بانهيار مشروع الكيان والتعددية السياسية في مواجهة المشروع القبلي المتحالف مع رأس المال الصاعد، وعقب تغيير سبتمبر 69 بحدوث الصدام غير المتكافئ بين جناحي المشروع العسكري والمدني، وهزيمة الأخير المتحققة عقب خطاب زوارة.
وللدخول في هذه المقامرة اخترت خمسة مداخل إلى وعي النخبة المثقفة مثلت وجهات نظر مختلفة متفاعلة ومحايثة لهاتين المحطتين؛ عبدالله القويري، وكامل المقهور، وأمين مازن، وعلي فهمي خشيم، وأحمد نصر…
في هذا السياق الأكاديمي انشغلت –فعلا- بمسارب أمين مازن الطويلة والمعقدة والمحيرة، شغلتني بموضوعيتها، التي وصلت حد الصرامة خاصة وأنها قد وضعت في مقارنة مع سير ذاتية نهلت من احتراف معظم روادها شعرية السرد. ومن جهة أخرى فإن كانت الانتقائية من خصائص السيرة الذاتية، تحتمها ضرورات اجتماعية وسياسية وثقافية فإن أمين مازن قد مارس التقصي والإمعان فيه، خاطا لنفسه طريقا خاصا في موضوعيته جعلته يخرج عن سياق النمطية الشعرية الحميمية؛ إنها موضوعية أمين مازن الخاصة التي تقلب الأمر على وجوهه المختلفة، موضوعية متجذرة في مرجعيته الاجتماعية، وقد عبر عنها في مساربه عند الحديث عن الواحة التي تميل إلى موضوعيتها وعقلانيتها الخاصة: (فالناس في الصحراء يشبهون إلى حد كبير سكان السجون، ليس لهم من شيء محبب مثل الإغراق في التحليل والتخريج، الذي قد لا يقف عند المعطيات القائمة بقدر ما يسرف في تحليلها) مسارب ج1 ص287 في مساربه تجاور الذاتي والموضوعي ولم يسلم من موضوعيته شارد ولا وارد، لكنها موضوعية خاصة تطرح الأضداد لتخرج بالرأي الثالث غالبا تختفي الأسماء والأحداث المحددة، لكنها تصرح بالموقف منها دونما وجل؛ لقد عددتها السيرة الأكثر واقعية وشجاعة في مواجهة كل التابوهات، فقد كرست موقفا أحسبه تصحيحيا لكثير من المواقف التاريخية… لقد كانت موضوعية مقصودة لذاتها اختارها مازن لعقلنة الأمور فجاءت كل من الإدانة والإشادة في سياق الموضوعية على حد سواء، وقد تجسد ذلك بشكل واضح في موقفه من انقلاب 69 وفي زمن أحداث صعب وزمن كتابة أصعب؛ (الاحتمال الأرجح أن البرنامج ليس من الأمور المعدة، إذ كثيرا ما يكون ذلك مبررا أيضا، لأن التخطيط يحتاج إلى الوقت وأسلوب الخطأ والصواب من الأساليب التي شاعت ولا مجال لتجاوزها) مسارب ج3 ص51
في المحصلة لقد عددت مسارب سيرة ملحمية بامتياز امتدت من العهد الإيطالي وحتى بداية السبعينات، سيرة حافظت على تماسكها وخصوصيتها، سيرة قدرت وضع راويها داخل الحقل الشائك الذي يكتب فيه، وأبعدته عن المحاكمة الجائرة، ضمن قناعة نقدية بأن السرد في مجمله ميدان للتجريب.
(2)
مسارب..المولد..؟!
كان ثمة أمر يستحق الوقوف عنده، فمسارب بأجزائها الثلاث، وبعد أن اخترقت بنجاح تابو الزمن بعد 69، توقف جوادها وقد كنت أمني النفس باكتمال ملحمة الراوي عن المسكوت عنه الأكثر راديكالية من -وجهة نظري- الذي يبدأ اعتبارا من منتصف أبريل 1973، لكنه اختار أن تتوقف المسارب في جنان النوار قبل ساعات من ذلك التاريخ المفصلي، رغم قناعتي التامة بأن موضوعيته قد كانت كفيلة بأن تعبر حقل الألغام وأن تصل إلى ما يريد المتلقي معرفته، حتى لو كان هذا المتلقي نخبويا.. وقد فعل؛ فكانت رواية المولد، رواية تزهر في حقل موضوعية أمين مازن الصارمة، متماهية مع واقعية السيرة الذاتية، ولم يكن ثمة مناص من أن أنجر إلى استكمال حلقات المتابعة الخاصة بالمسارب أسلوبا وتاريخا وأحداثا وبنية فعددت المولد جزءا رابعا لها.
حكم لم يخل من تبريرات ومحاولات لإيجاد إجابة لماذا كانت رواية وليست مسربا رابعا؟، هل واقعية أحداثها ووقائعيتها وحساسيتها من حتم أن تكون رواية؟، بوصفها تصنيفا أجناسيا مخاتلا سيبعدها عن محاكمة السيرة الذاتية. لكن ثمة قناعة مبدئية جعلتني لا أميل إلى ذلك؛ فالحدث محدد في زمانه ومكانه وشخوصه يمارس امتداده في العالم السيرالذاتي للمسارب، على مستوى السرد والسارد والمسرود له والتقنيات. من جانب أخر لا يمكن أن يتنافى التصنيف الأجناسي لهذا النص بوصفه رواية مع طبيعته الوقائعية السيرذاتية. إذ يمكن تصنيفه من ضمن روايات السيرة الذاتية التي جاءت في سياق صعود حركة التذويت في الرواية العربية، حيث يتماهى المتخيل مع الواقعي السيرذاتي، إلى حد دفع إدوار الخراط إلى أن يضع ميثاقا روائيا لروايته ترابها زعفران ينأ بها عن أن تكون سيرة ذاتية وإن لم ينف أن جزءا منها قد يكون موجودا في هذه الرواية. لكن في مولد أمين مازن تضمر مساحة المتخيل في مواجهة الواقعي التوثيقي المرجعي، في حين ظلت ملامح الرواية متماسكة على مستويات: التأطير المكاني ممثلا في فضاء السجن، إضافة إلى حركة الزمن في بعديها الواقعي والسردي داخل النص، وصولا إلى الراوي الذي نزع عنه أناه وتخفف من حملها؛ ليحولها إلى ضمير الغائب.
(3)
مولد.. الموالد..!
في المولد أستذكر ما كتبه أمين مازن في ميثاقه السيرذاتي في الجزء الثالث من المسارب عندما قال بأن (مسارب عمل يستعير من الأجناس الأدبية مجتمعة) مسارب ج3 ص13….. ميثاق سردي لا ينبغي تجاهله عندما نقارب نص المولد أجناسيا: سيرة ذاتية، أدب سجون، رواية، رواية سيرة ذاتية أم هو كل ذلك؛ فالحميمية الذاتية لم تغب، فكان عالم الداخل وعالم الخارج حاضرين في فضاء السجن، الداخل حيث الأنا تتأمل الحدث وتخمن فرضيات ما حدث وما سيحدث، وتتأمل الشخصيات على مرآة الذات فحضر السجان والسجناء فكان النص في جوانيته لوحات يتم من خلالها تقديم سيرة غيرية تأملية تتجاوز أسوار السجن لتعبر إلى التكوين الثقافي والاجتماعي لهذه الشخصيات، ومن خلالهما أيضا يتم تجاوز حدود الزمن المحصور إلى استحضار أحداث ووقائع تمس الواقع خارج السجن في أبعاده الفكرية والاجتماعية والتاريخية داخليا وإقليميا ودوليا، إنه المكان المغلق الذي يوفر فرصة للتأمل وتوسيع رقعة السرد فيتحول إلى فضاء يكسر خيط السيرة الذاتية المنحسر في الزمان والمكان والذات، ويجعل من النص لوحات لشخوص يقدم الراوي من خلالها رؤيته للعالم، وإن لم يدخلها في لعبة الصراع إلا في داخل وعيه؛ ليمارس لعبة التأمل التي تتماهى وطبيعة السجن وتسمح له بتوسيع رقعة السرد من خلال حركة تيار الوعي، وليحافظ السرد على تماسكه من خلال مؤشرات زمنية قياسية تؤطر هذه الحركة وتضبطها.
وبالمقابل يحضر الخارجي الذاتي بقوة حينما يتم استدعاؤه إلى فضاء السجن فيقيد الخارجي الحر الطليق بقيود القلق الوجودي لحظات شعرية تتجاوز السيرة الذاتية في وعي الراوي المغيب في قيد المكان عن الخارجي القلق على الأسرة والأولاد، تؤسس لحركة الذات في شعريتها التي تعطي زخمه الروائي وتكسر من حدة الموضوعية فيه:(بيد أن العودة إلى الذات وعوالمها، وما تصر عليه من استشعار الأمل والركون إلى التفاؤل حتى في أشد اللحظات ضيقا ما يلبث أن يجر عليه حين يأوي كل إلى فراشه أثقالا مضاعفة من الحزن واستشعار المرارة وأشواقا متتالية، مبعثها ما تحمله الذاكرة إزاء كل زائر) المولد ص237
المولد نص مخاتل في عتبته وأفق توقعه، إنه المولد في مرجعيته الثقافية الدينية، وهو المولد في راهنيته الموضوعية السياسية، وكذلك هو المولد في خيط الحميمية المتماهي مع الموضوعي انتظارا للحظة الميلاد والانبعاث، حيث يتماهى الألم مع الأمل في ذاتيته وموضوعيته، فيتحد مولد الموالد:(اقترح الفضل اسم رشا، ووضع أبوحسام اسم كوثر، فيما كنت شديد الميل إلى اسم ليبيا…) المولد ص269. المولد نص متفرد يعالج على خط الزمن فترة حساسة في جرأة تحسب له على مقياس محك أزمنة الأحداث والكتابة والنشر، نص زاخر بتأريخية ناقدة ستعرف قيمتها في قادم العقود، كونه النص الأكثر عمقا في معالجة قضية غاية في الأهمية ألا وهي علاقة المثقف بالسلطة في لحظة القمع، ناهيك عن أن يصل القمع إلى السجن ومصادرة الرأي بصورة جماعية عجيبة، لا يمكن محوها بسهولة من الذاكرة؛ (كانت لهجة الخطاب الإعلامي تشير إلى أن سيل الاتهامات سيطال الجميع، ومن يستطيع الإفلات من إحداها فلا نجاة له مطلقا من الأخرى التي تتلوها، فقد كانت من الاتساع والجاهزية حتى ليمكن تطبيقها على أي كان) المولد ص18. مقولة تلخص ملامح الهزيمة الثقافية الثانية وتذكر بملامح الهزيمة الأولى؛ التي عبر عنها عبدالله القويري قبل خمسة عشر عاما من هذه الهزيمة بقوله:(قد تزول التهم الأولى لكن لا يلبث أن تحل محلها تهم جديدة ففي هذه البلاد يجب أن يظل الإنسان على الدوام متهما)، ومنها أتلمس أيضا معالم هزيمة ثقافية ثالثة نعيش في أتونها حينما يصبح التصنيف تهمة وعقوبة، ولذا فإن (عليك أن تصنف نفسك قبل أن تصنف، وإن لم تفعل فإنك ستصنف رغما عن أرنبة أنفك)، لكن يظل وسيظل المولد محفوفا بألم وأمل لا يكل ولا يمل من انتظار مولد قادم أفضل بإذن الله.انتهى
___________________
ألقيت هذه الورقة في ندوة (قراءات في رواية المولد للكاتب أمين مازن) التي نظمتها الجمعية الليبية للآداب والفنون مساء الثلاثاء 3 أبريل 2018م، بدار حسن الفقيه حسن للفنون – المدينة القديمة، طرابلس.