صلاح الحداد
على عكس شعبية موضوع العبودية في الأدب الغربي منذ القرن الثامن عشر، فقد غابت العبودية في الأدب العربي بشكل صارخ؛ لأنها كانت تعتبر موضوعًا محظورًا النقاش فيه في الثقافة الإسلامية. لذلك شكل كسر المحرمات تحديا كبيرا لكل الكتاب والأكاديميين العرب. يعزو المستشرق “برنارد لويس” النقص الملحوظ في الاهتمام الأكاديمي بتاريخ العبودية في العالم العربي إلى “الحساسية المفرطة للموضوع” (Lewis ، 1990: iv). ويصف خبير آخر في العبودية أيام الإمبراطورية العثمانية ندرة العمل حول هذا الموضوع بأنه “صمت مطبق” (Toledano ، 1998: 135). في الحقيقة، نادرًا ما يكون موضوع العبودية في الأدب العربي موضوع عمل نقدي مستقل ما لم يتبنَ العملُ خطابًا اعتذاريًا، يشيد فيه بجهود الإسلام العظيمة للقضاء على هذه الظاهرة. تعطي أكثر الأعمال انتشارا تغطية في لمحات سريعة عامة عن تجارة الرقيق في تاريخ المنطقة، أو في المناقشات حول العرق في الشعر العربي. وبغض النظر عن الأسباب، فإن مساهمات الروايات العربية المعاصرة، التي تناولت موضوع العبودية في مطلع القرن الحادي والعشرين قد كسرت جدار الصمت. إن الاعتبار الرئيسي في اختيار الروايات العربية المعاصرة هو محاولة إعادة تقديم مجموعة متنوعة من السياقات، لا سيما ذات الصلة بما بعد “الربيع العربي”، التي كان ظهور بيع الرقيق في المزادات العامة في كل من العراق وليبيا شيئا ذكرنا بسياقات العصور الوسطى.
بشكل عام، أولى الباحثون المعاصرون في مجال الدراسات الأدبية العربية اهتمامًا كبيرًا لدراسة الأدب العربي الذي لا يتناول مواضيع محظورة أو أقل إثارة للقلق وجلبا للمشاكل. ومع ذلك، كان هناك القليل جدًا، على مدى القرن الماضي، من الدراسات والأبحاث النقدية المتخصصة حول العبودية والسود في العالم العربي. إن مثل هذه الدراسات النقدية حول هذا الموضوع بالذات قد تم التخلي عنها فعلا. يعزو المؤلفJohn Hunwick ذلك التخلي إلى مجموعة متنوعة من العوامل، من أهمها: (1) التوتر السياسي بين دول الشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء، (2) عدم وجود جمهور أكاديمي عريض وقوي للترويج للموضوع؛ (3) التخصص الأكاديمي المفرط الذي يمنع الدراسات متعددة التخصصات، (4) الإرث الاستعماري والاستشراقي القائل بأن “أفريقيا” و “الشرق الأوسط” منطقتان منفصلتان ومتميزتان عن بعضهما البعض (Hunwick، 1999: 2-4).
ومهما يكن من أمر، فقد ظهرت في عام 2004 أول دراسة نقدية شاملة حول تمثيل السود في الأدب العربي في العصور الوسطى. في كتاب نادر كاظم المعنون بـ(تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط)، ناقش المؤلف البحريني أعمال سرديات العصور الوسطى، وقدم تحليلا نقديا حول الطريقة التي مثّل بها السرد العبيد والرق. أشار كاظم في كتابه إلى أن تمثيل السود في الخطاب العربي لم يتغير منذ نشأته. لقد وجد أن هذا الخطاب اعتمد على قواعد ثابتة لا يمكن أن ينحرف عنها أي شخص أراد أو يريد الكتابة عن السود، من العصور الوسطى إلى العصر الحديث (كاظم ، 2004: 167-170). ولأن كاظم تبنى خطابًا اعتذاريًا تجاه المشكلة (المرجع نفسه: 117)، كانت دراسته للعرق والعنصرية من وجهة نظري تبريرية وسطحية. يحاول منهج كاظم الاعتذاري، مثل غيره من المدافعين، التقليل من خطورة مؤسسة العبودية الإلهية ودورها الرئيسي في تشكيل مواقف وأفكار المسلمين، ذلك بإلقاء اللوم على سوء فهم المسلمين للنص الإلهي المقدس.
في كتابي الجديد الذي سيصدر قريبا والمعنون بـ(من العبودية إلى العبودية: تفكيك الخطاب التمثيلي للعبودية في الرواية العربية المعاصرة)، تناولتُ موضوع العرق واللون تناولا نقديا مختلفا، طبَّقتُ فيه نهج ما بعد البنيوية، حيث يحل القارئ محل المؤلف، وتصبح الثقافة والمجتمع مصادر أولية لإنتاج المعنى. يتيح لنا استخدام نهج ما بعد البنيوية للتحليل النصي التركيز على التفاصيل الصغيرة ،التي تبدو بلا معنى في قطعة أدبية، ذلك للعثور على موضوعات أعمق، مثل الصراع الطبقي والبنى الاجتماعية وتركيبة المجتمع الثقافية. وبالتالي، فإن هذا النهج سيساعدنا على: (1) تحدي الأساليب التقليدية في تناول موضوع المحرمات؛ (2) تحديد ملامح النقاشات الحالية حول أسباب وأيديولوجيات ومبررات العبودية في العالم العربي؛ (3) تحليل الخطاب السردي وسياقاته الاجتماعية والاقتصادية؛ (4) اختبار التحيزات الثقافية والأيديولوجية؛ (5) دراسة العلاقة الديالكتيكية بين الإسلام والآخر؛ (6) توضيح دور العرق واللون في تشكيل الفكر والهوية الإسلامية. في خلاصة سريعة، يقوم كتابي الجديد بفحص أربع روايات عربية معاصرة ومناقشها من خلال المفاهيم التالية: المعنى، التصورات، إعادة التمثيل، الاختلاف، الآخر، السلطة، المعرفة، الأيديولوجيا، والمتخيل، والقوالب النمطية، لذلك سيكون التركيز أكثر على السياق الثقافي بدلاً من السياق الجمالي للنص الأدبي في نطاقه الضيق. من بين الروايات الأربع التي تم التعرض لها رواية (زرايب العبيد) للكاتبة نجوى بن شتوان، ويسعدني هنا مشاركتكم مقتطفا صغيرا مما كتبته بشأنها.
العنوان الملغم: عبيد أو حيوانات؟
يشير عنوان الرواية إلى واحدة من أكثر الصور النمطية سيئة السمعة عن السود في الثقافة العربية، وهي العلاقة الوثيقة بين العبيد والحيوانات. تعني الزرائب في لسان العرب حظيرة، أي مكان لتربية الحيوانات. وهي مساحة صغيرة من الأرض محاطة بسياج عادة ما يكون مصنوعًا من الخشب وسعف النخيل. إن تقليد ربط الناس عامة بالماشية ليس غريبًا على الثقافة العربية الإسلامية. ففي حديث منسوب للنبي محمد، جاء فيه: “ويل للعرب من شر قد اقترب ، ويل للزريبة. قيل: وما الزريبة؟ قال: الذين يدخلون على الأمراء ، فإذا قالوا شرًا أو قالوا شيئا، قالوا: صدق”. ولكي يوضح معنى تشبيه الزريبة وهو مفرد الزريب، قال ابن منظور: “شبههم بالغنم المنسوبة إلى الزرب، والزرب وهو الحظيرة التي تأوي إليها، في أنهم ينقادون للأمراء ويمضون على مشيتهم انقياد الغنم لراعيها “. (ابن منظور، 1983، 1:448)
لذا نفهم من هذا التوضيح أن المعنى الأولي الذي يربط العبيد بالماشية هو الطاعة العمياء، أي غياب العقل والغباء. إنها صورة نمطية قديمة شكلها العرب عن السود وتحمل معنى مرادفًا للحيوانات. بمعنى آخر، أصبح هذا المكان (الزريبة) في الثقافة العربية الإسلامية علامة تجارية حصرية للعبيد والحيوانات، حيث تشترك في سمات متعددة: غياب العقل، والطاعة العمياء، والتهور، والخضوع، والأوساخ، وعدم القدرة على الكلام، وغياب الفصاحة والتعبير، والتقليد والتبعية، والموت. من الواضح أنه وصف يهدف إلى التقليل من مكانة هؤلاء السود في مساواتهم بالحيوانات، والسخرية منهم، والحط من شأنهم.
هنا يمكننا أن نسأل: لماذا اختارت المؤلفة هذا العنوان بالذات؟. هل أرادت تعزيز الصور النمطية أم أرادت الوقوف ضدها ومحاربتها؟. هل هي ضد العبودية أم مع العبودية؟.
مثل هذه الأسئلة المحيرة تقودنا إلى العديد من المفارقات، التي ورد ذكرها في السرد، حيث نجد الرأي ونقيضه، لكن أبرزها هو تكرار نفس الصور النمطية، التي علقت في المخيلة العربية منذ قرون طويلة، لا سيما التأكيد على الربط بين العبودية والسود. يظهر هذا التردد والارتباك في الموقف من العبودية من الفصل الأول من الرواية، عندما التقى أحد السادة البيض “علي بن شتوان” بالخادمة السوداء “عتيقة”. تقول الروائية:
لن يكون لائقا أن يقول لها: جئت لأتحدث مع عتيقة بنت تعويضة خادمة الحاج امحمد بن عبد الكبير بن علي بن شتوان. كلا كلا، إن عليه عدم قول ذلك وتجنب لفظ الخادم. من الأنسب ألا يفعل بالرغم من أنه لا يجد تعريفا آخر لتعويضة، موضوع الزيارة والحديث، فلا أحد أعطى الخادمة اسما أو وصفا في الحياة غير ما جعلها عليه الرق. إنه لا يعرفها بشيء آخر ولا يعرف ما يقول في هذه اللحظات تحديدا لابنتها. يتوجب عليه الحديث عن جارية أو أمَة بصفتها إنسانا، دونما ذكر ما يشير إلى منزلتها الدونية؛ ليناقض بذلك ثقافة دمغت مجتمعا. (ص،9)
قد يعكس هذا التردد محاولة الكاتبة الظهور بمظهر المعادي لظاهرة الرق ومخلفاتها، أو على الأقل الظهور بمظهر المحايد. ولكن في الوقت نفسه، قد يعكس إرث العبودية الثقيل فكر المؤلفة ولغتها وثقافتها. في نفس المشهد، يمكننا أيضا ملاحظة المفارقات الأولى، عندما صورت الكاتبة السيد الأبيض وهو يسلم وثيقة النسب القانونية لجارية عائلته السابقة “عتيقة” ، مشيرة إلى أن أحد حقوقها قد أعيد إليها. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما معنى إعادة كاغد “عتيقة” من قبل أسيادها البيض السابقين؟. لماذا على العبيد السود الانتظار حتى يعترف السيد الأبيض بحقوقهم؟. هل توهب الحقوق أم تؤخذ؟.
ربما يشير هذا المشهد إلى أن الحرية عبارة عن صدقة يتصدق بها البيض على السود في أي وقت يناسبهم. هنا تعزز الكاتبة نظرية تفوق البيض على السود، حينما تصور تسليم الوثيقة على أنها صدقة توهب وفقًا لإرادة السيد وليس العبد. لكن ما الذي يجعل التحرر في الثقافة الإسلامية صدقة؟. تلك قضية أخرى ناقشتها باستفاضة في أحد أبواب الكتاب.
تكمن الإجابة عن هذا السؤال باختصار في أن مبادئ الحرية والمساواة في الإسلام لا تستند إلى قوانين طبيعية. مثل هذه المبادئ تستند إلى شرائع الله الإلهية، والتي تأتي دائمًا قبل أي شيء آخر، والمعروفة باسم حقوق الله. تقدم الكاتبة بطريقة ما انتقادات مبطنة ضد هذه المفاهيم في الرواية. يتم توضيح هذا بشكل أفضل على الأقل في أربع مناسبات. الأولى عندما كانت الكاتبة تتحدث عن عجوز أسود من غدامس اسمه “تازاي”، كان رقيقا في شبابه. ولأن سيده الثري أراد التكفير عن إحدى ذنوبه، قرر إعتاقه. وفقًا للأحكام الإسلامية، عندما يرتكب المسلم مخالفة، فإن له خيار تحرير رقبة كطريقة لإظهار توبته إلى الله. وقد أوضحت الكاتبة ذلك من خلال شخصيتها الرئيسية “عتيقة”:
الحرية تُعطى نظير الخطيئة، هذه إحدى القواعد الدينية، أي أن يوازي خطؤك حياة إنسان آخر كاملة. (ص 72)
جاءت المناسبة الثانية في محادثة جرت بين “حسين”، الذي تحول إلى رجل صوفي وبين عبد سابق نال حريته مؤخرا. سأله سالم عن طيب خاطر إذا كان يريد أن يعرف كيف أصبح حراً. أجاب حسين:
ما أعرفه عن الحرية كاف. كل العبيد يحصلون على حريتهم إما كهدية من أسيادهم على عمل قدموه أو على إثم ارتكبه الأسياد ويريدون التكفير عنه. لا يسمح للعبد أن يناضل من أجل حريته، النضال عقوق يستوجب التأديب، أما الهبة والتكفير فلا؛ لأنهما إرادة السيد، لا إرادة المستعبد (ص280)
والمثال الثالث ذكر في اللحظة التي قرر فيها السيد معاقبة عبدته “تعويضة” بسبب سرقة القطط لللحم الذي تركته مكشوفا في العراء. بعد أن ضربها بشدة، حبسها مع رضيعها (الذي كان في صندوق كرتوني صغير) حتى مات الطفل من العطش. ولأنه كان أحد الشهود على هذه الجريمة، قال الخادم سالم بحزن:
كان ثمن الخروف يومها صندوق كرتون (ص255)
أما المناسبة الرابعة فقد ظهرت في سياق رد فعل الفقي على وفاة الرضيع. لقد بدا أنه لم يتأثر بهذه الحادثة الشنيعة، والسبب في نظر الفقي أنه كان:
قطعة لحم طرية نصفها لخادم (ص263)
صحيح أن هذه الأمثلة تحتوي على نقد جريء للمعاملة القاسية للعبيد السود، لكن الراوية لا تقدم إجابات مباشرة لهذه القضايا، تاركة التكهنات مفتوحة على مصراعيها للقارئ. تُرى، ما هو سبب هذه المعاملة، وعلى من يقع اللوم في المقام الأول؟.
هل يمكن منح الحرية أو نيلها؟. هل الحرية صدقة أم حق أساسي من حقوق الإنسان؟.
من المنظور الإسلامي ينقسم الناس إلى عبيد أحرار بإرادة الله ومشيئته، الحرية شيء لا يمكن أخذه، إنها بالأحرى صدقة أو هدية يقدمها السادة حسب رغبتهم. ليس هناك ما هو أكثر إهانة من جعل حرية الشخص تعتمد على قطعة بالية من الورق، على كاغد. في هذا السياق، انتهى المطاف بالكاغد إلى أن تندلع فيه النيران عندما شبت الحرائق في الأحياء الفقيرة. (ص166) منذ بداية الرواية تركت الكاتبة هذا النوع من المفاهيم السلبية تنفجر في وجه القارئ واحدا بعد الآخر حتى لو لم تكن على علم بمعناها القاتل. خرقة من الورق أخرجها السيد بن شتوان إلى عتيقة بعد سنوات من الغياب:
سأضع لك على العتبة كاغدك الشرعي (ص11)
مع اقتراب نهاية القصة، أدركت “عتيقة” في النهاية أنه حتى لو كان اسمها مطرزًا بالذهب على هذا الكاغد، فلن يساعد ذلك في إعادة والدتها التي احترقت حية نتيجة اندلاع النيران في الزرايب. تعرب عن يأسها من أن قريبها “علي” لم يكن قادراً على رد أي شيء لها من والدتها:
لم يستطع أن يُعيد لها شيئا من أمها حتى ولا ثمنها يوم أن بيعت (ص350)
وأيا كان الأمر، فإنه إذا كان ثمة أي نجاح حققته الكاتبة في الرواية، فهو قدرتها على تشخيص الأمراض الثقافية والعلل الاجتماعية، عندما أشارت إلى أن العبودية مثل السرطان في المجتمع. عندما يصبح المجتمع بأكمله مجتمعًا من العبيد، يصبح من الصعب جدًا الهروب من إرثه. تقول “عيده” صديقة “تعويضة”:
إننا في بلاد لا تقوم لها قائمة بلا عنصرية وبلا شيء تمارس عليه الكراهية (ص321)
والسبب كما تقول عتيقة:
لا تخش عليّ من قالة الناس، فأنا لست من الحرار لكي يأبه الناس بسمعتي أم مسيرتي. لا أحد يعرف من أنا وبالكاد يعرفونني باسم عتيقة الممرضة. (ص20)
ومع ذلك، فإن عدم الوضوح فيما يتعلق بالعبودية نفسها، ربما يشير إلى عدم قدرة الكاتبة على فهم مفهومها المعقد وتداعياتها المدمرة ليس على العبيد السود وحسب بل على العبيد البيض أيضا. قد يكون هذا الالتباس ناتج عن التأثير القوي للثقافة الإسلامية على تصورات الناس في المنطقة، باعتبار أن الثقافة هي الماكنة الرئيسية لصناعة المعنى وتشكيله. بشكل عام، تقدم هذه الرواية تعزيزًا للصور النمطية العربية التقليدية، من الجنس إلى السحر، ومن الرقص إلى الفقر والعازة. لقد عملت بشكل أساسي غير متعمد على إخفاء القضبان والجدران الحقيقية المحيطة بالمجتمع، ليعتقد أنه مجتمع أحرار. وهذا هو عمل التمثيل أو إعادة التمثيل كما أسميه.
* يمكن قراءة ملخص عن كتابي الجديد في هذا الرابط