عبد السلام الغرياني
كنت أمشي واجماً دون هدف ساعة الغسق في أحد أزقة المدينة الموحشة وشبه المظلمة، واضعاً كفّي في جيبي سترتي، أشتم الكون وكائناته، يمزق كياني شعور من فقد نتيجة معاركه دفعةً واحدة، رغم أنني لم افقد شيئاً معيناً ذلك اليوم، ربما بسبب تراكم الخيبات المستمرة والحسابات الخاطئة، وكانت خطواتي بطيئة وبراكين تتفجر في كل خلايا بدني وكان البرد خفيفاً والسماء ترسل الغيث قطرة قطرة، في بخل وشماتة، فجأة إنقطع هذا التواصل عندما وثب بغثة قطاً ضخماً وسدَّ الطريق أمامي واشهر براثنه في وجهي فتصلّب جسدي وارتعد كحائط آيل للسقوط وكاد قلبي يسقط في حذائي المهتريء وصاح بلهجة امرة صارمة:
هيا أخرج ما عندك من نقود
ليس لدي درهم واحد، أجبت في فزع.
تراجع القط خطوة ولوّح بالسكاكين التي في يديه واشتدَّ غضبه وعاود الصياح
أطلع ما معك و أكسب حياتك وإلّا حززت لحمك المتعفن هذا وجعلته إرباً إرباً
لولا جدّية الموقف وتوتّره لضحكت بصدق!! لحمك المتعفن.. وهل يرى القط لحماً يغطّي عظامي أم هي الملابس تُخْفي العظام أو الجوع والحرد أعمياه.. أخرجت محفظتي من جيبي وفتحتها ووضعتها أمام وجهه المدوّر
أنظر ليس فيها غير صورة أمي
خطف المحفظة ورمى بها خلفه واشتدَّ صياحه
اللعنة على أمهاتكم أعرفهن جيداً، أصابني ارتفاع ضغط الدم من جرّاء غاراتهن بالمكانس مع اطفالهن.
إزاء هذا الهياج والإصرار، نزعت سترتي ورميت بها إليه وفتحت أزرار قميصي وكشفت عن عظام صدري وأخرجت بطانة جيوبي وخلعت حذائي المهتريء وقلت له بذل:
لك أن تفتشني، أقسم لك أيها القط أنني لا أملك ثمن رغيف.
فسكن هياجه وطوى سكاكينه وأقترب منّي وشم حذائي وتفحّصني جيداً من اسفل جواربي إلى قمة رأسي، ودار حولي دورة واحدة، و أنا كمن وقع في الأسر لا أحرك ساكناً ووقف قبالتي وتفحّصني ثانية، فرقَّ قلبه وأشفق على حالتي واقتنع بأنني أكثر بؤساً منه والتفت يمنى ويسرى وقال بنبرة الواثق من نفسه
هيا أحملني بين ذراعيك إلى بيت حبيبتي
فنفّذت الأمر على الفور والتقطته من على الأرض ووضعته بين ذراعيْ وسألته عن الوجهة، فردَّ بزهو
سر أمامك وحسب
فسرت أمامي وحسب وذهب عني الخوف واسترجعت اتنزاني شيئاً فشيئاً، وخطرت لي فكرة عمل أخرق بأن أطبق بيدي على عنقه وأرمي به بقوة على الحائط انتقاماً من سلوكه الأرعن، لكنّي طردت هذه الفكرة من رأسي وآثرت رفقته خاصة أن وبر جلده بدأ يبث الدفء في ذراعي وشعرت بأنني أحمل صديقاً عزيزاً يعاني البؤس والجوع والحرمان وغدر الحياة وشعرت أيضا بأنه هو الذي يحملني ويعزّيني ويخفف من حدة الامي.
في هذا الجو الأخوي الدافيء فتحت معه باب الحديث وصرّحت له بسؤالي الذي طالما أقلقني طوال الأزمة معه:
لماذا اعترضت طريقي وانت سمين وثقيل وتأكل بالمجّان؟
فردَّ في حنق
هذا ليس سمناً وإنما مرض… اللعنة على مزابلكم ليس فيها غير ما يرفع نسبة السكري ويراكم الشحم… اللعنة… لا يوجد بها خضار أو فاكهة.
قادني الطمع والخبث إلى سؤاله مرة أخرى
بماذا ستكافئني عندما أوصلك إلى حبيبتك؟
فابتسم ابتسامة ماكرة ولعق شاربه ونظر إلي بعين واحدة وقال:
سأرمي لك تفاحة، فحبيبتي تقطن الطابق الثالث من البناية التي تقع عند نهاية الزقاق عند أسرة تحب القطط السيامية فقط.
فقلت له بحسد واضح:
حالك أفضل منّي أيها القط، تأخذ حاجتك اكراهاً ولا تتعرض للملاحقة علي فعلك ولديك حبيبة ولست ملزماً تجاه أحد وفقاطعني مؤنّباً
كُفْ عن الثرثرة و أسرع قليلاً، أمامي مهمة أمقتها، تلك المواسير اللعينة التي تفضي إلى شباك الطابق الثالث، ثم أن قط الشارع الآخر يترصد غيابي كي يسرق حبيبتي فان لم تكن قطاً نهبتك القطط.
وصلنا إلى البناية وأنزلته برفق وذكّرته وهو يخطو أولى خطواته بوعده، فنظر إلي بغموض وإنكفأ عني وواصل الخطى بتأنٍ وهو يحدّق في البناية وما حولها ثم باشر في تسلّق المواسير القبيحة وفُتح شباك الطابق الثالث ولم ارَ إلّا ذيله يرقص ثم اختفى تماماً.
أدرت ظهري للبناية ووقفت لحظات خُلعت خلالها ثيابي وبات جسدي يغطيه وبر أملس واستدار رأسي ونما فوق شفتي العليا شارباً طويلا وتحسّست باعجاب براثني الجديدة فانطلقت أجوب الأمكنة أبحث عن واحداً يمشي واجماً دون هدف ساعة الغسق في أحد أزقة المدينة الموحشة.
2 تعليقات
كنت اسمع وباستمرار عن القطط السمان ، وعن قدراتها التخريبية وعن احترافيتها في السطو والسرقة وعن ثرواتها الهائلة. ولم تكن لدي فكرة عن هذا النوع من القطط. هذا النوع من القطط ڤئة قطاع الطرق ، ولا عن مسلسلاتهم ،بعد تتحولهم من مطاردة الفئران . من مغامرات ميكي ماوس إلى كاوبويات الفار ويست .أو عصابات تشيكاغو. أن لأمر جد خطير أن يتحول القط الى فار (ويست)
نشكر مرورك الكريم