عبر شوارع المدينة، وميادينها الغارقة وسط الظلام، أطفال يشقون حلكة الليل، قناديلهم تضيء دروب العتمة، تتوهج ملامحهم بألق الضوء مثل أقمار هبطت من سمواتها في عرس النور، أصوات تصدح تعانق سموات الله الواسعة :-
– هذا قنديل أو قنديل يشعل في ظلمات الليل.
كلما ارتفعت أصواتهم تلألأت خلال الليل ألف نجمة ونجمة . أتذكر قنديلي الورقي، وشمعته التي تذوب وسطه، وكيف كنت أحاول أن أداريها عن الرياح حتى لا تنطفيء، أجوب شوارعنا القديمة مع أطفال شارعنا، نؤرجح القناديل المضيئة ، بينما صبيان الشوارع المجاورة وشبّان المناطق البعيدة يوقدون حرائق الشّوّاي، يتصايحون حول اللهب ، ورائحة الدخان الكثيف :-
– الشواّي في ذيلة ريشة ، الشوّاي حرق أوليدة.
يكتم دخان الاحتراق أنفاس بيوتنا القديمة الواطئة ، ونعيد من جديد : –
– هذا قنديل وقنديل ، يشعل في ظلمات الليل.
عند الفجر من يوم المولد النبوي الشريف استيقظ على صوت جدٓتي، تتسلل إليّ نبراته الشجيّة وهي ترتل ما تحفظه من قصار سور القرآن الكريم، أفتح عينيّ نصف الناعستين، ألمحها ترفع يديها إلى السماء وتبتهل إلى الله في لحظات تجلي وكأنها تذوب في عالم سرمدي، لكن سرعان ما يكتسب صوتها نبراته الحادة، تلكزني على رأسي ، وتقول :-
– انهض أيها الولد الكسول ، ساعدني لأعد العصيدة ، جدّك سيعود من الجامع بعد قليل.
انهض متثاقلًا ، أتفقد قنديلي الذي بات إلى جواري بشمعته المطفأة ، أحاول إشعالها ، تفطن إليّ تنتزعه مني ،تقول :-
– القناديل تُضاء في الليل ، ليس نهارًا … هيّا ساعدني ، أحضر لي الماء من الزير.
أراقبها وهي تعد العصيدة ، تمتزج سمرة يديها المعروقتين بلون الدقيق فتبدوان مثل خيالات ظلال تتشكل في صفاء من بياض . وعندما تسكب رُبّ التمر في وسط فجوة قبة العصيدة يخيّل إلى أن خيوطه البنيّة النازلة ببطء تتدفق من أصابعها السمراء كان يديها تمطران رُبًّا.
تستقطع من عصيدتنا قُببًا صغيرة من عجين ، تقسّمها على أكثر من صحن ، تقول لي :-
– هذه العصيدة للعجوز افطيمة، وهذه لعمتك تبرا، وهذه لعمك عبد القادر الذي دكانه في نهاية الشارع، اسمع، لا تحملها مرةً واحدة، تحرّك بسرعة.
وأنطلق إلى سي عبد القادر في المحل الذي يقطنه ويستخدمه لجمع وبيع الملابس القديمة، والتي كان في أغلب الأوقات يهبها بالمجان لقاصديه من الفقراء شأنها شأن ما يصنعه من القناديل الورقية التي يوزعها على الأطفال بالمجان، كان عجوزًا شغوفًا بصنع القناديل من الورق الملون، يمتلك مهارة مذهلة في لفّ الورق، وطيّه على شكل مدرجات تمنح القنديل مرونة عند الفتح، والإغلاق، وكثيرًا ما تجمعنا حوله وهو منهمك في قصّ الورق، وصنع قناديله.
قبل موسم المولد النبوي الشريف بأشهر يشرع في جمع الورق الخاص بصنع القناديل، وكل متطلباته، يكدّسها بالمحل الضيّق مع كومة الملابس القديمة، يفترش الأرض جالسًا فاردًا إحدى رجليه طاويًا الأخرى تحته، تبدأ أصابعه في قصّ الورق لتشكل القناديل، نحن نتابعه بذهول، يقول لنا :-
– هيّا قلدوني فيما أصنع ، عليكم أن تتعلموا كيف تصنعون قناديلكم بأنفسكم.
بعد أن يفرغ من تجهيز مجموعة لابأس بها يوزعها علينا، كل يوم يخصّ مجموعة منّا بعدد إلى ان تحل ليلة المولد النبوي يكون كل طفل منّا قد تحصل على قنديل بالمجان يقول لنا مازحًا:-
– أعطيتكم القناديل أما الشموع فهي منكم، كل واحد يحضر شمعته، فليس للقناديل جدوى من دون شموع .
لازلت ألاحق الأطفال يسيرون مبتهجين بقناديلهم المتوهجة يخترقون شوارعنا المظلمة فيما خبت حرائق الشوّاي ، وتلاشى دخانها.
تمرق بذاكرتي صورة سي عبد القادر يوزع قناديله وينشرها لتتداخل مع ملامح جدّتي تمسّد العصيدة بأصابع سمراء وسط انسكاب خيوط رُبّ التمر .