تابعت اليوم (الأربعاء 3 أيار 2023) عبر البث المباشر على صفحة مؤسسة محمود درويش الفيسبوكية حفل إطلاق كتاب “رسائل كسرت القيد” للأسير الكاتب أسامة الأشقر الذي أقيم في قاعة الجليل، متحف محمود درويش في مدينة رام الله.
أبارك أولا للكاتب أسامة الأشقر إصدار كتابه الذي هو وسيلة عبقرية من وسائل الشعور بالحرية، فالكتاب الخارج من رحم العتمات الأكثر من ثلاث ظلمات (قرآنية) يوازي في أهميته النطف الساعية للحياة، فكلاهما- الكتاب والنطفة التي ستصبح بشرا سويا بعد حين- هما علامتان مهمتان لحيوية هذا الشعب وعبقريته الفكرية، فالكاتب المحكوم بثماني مؤبدات وخمسين سنة إضافية، لن يستكين لسياسة “توقف الزمن الفلسطيني”، ويسعى إلى القفز على مخططات الاحتلال الساعية إلى قتل الروح المعنوية للشعب الفلسطيني، أفراداً، وكيانا جمعيا، له الصفة الثقافية والفكرية والسياسية المعتبرة تاريخيا وواقعياً.
وثانياً لفت انتباهي حديث د. المتوكل طه عن الحالة السياسية والثقافية الفلسطينية وافتقارها لمفكرين ليعزو ما نحن فيه من حالة تردٍ لهذا السبب، وهذا نصّ ما قاله المتوكل: “ربما كان لدينا منذ قرن ويزيد حتى الآن أدباء، لكن لم يكن لدينا مفكرون أصحاب رؤيا ونظرية فكرية؛ لهذا خسرنا على المستوى الوطني والسياسي كثيراً، وما زلنا، ولهذا فإن النهايات دائما للأسف وبالذات الوطنية هي نهايات تراجيدية… يعوزنا كتابا يجترحون فكرا سياسيا ثرائياً عميقاً وموضوعياً“.
سيكون الحديث في هذه الكتابة منصبّا على هذه النقطة، غير متجاهل لكتاب الأشقر، فلعلّ الفرصة تتاح لي لأقرأه قراءة نقدية خاصة، مع علمي أن المتوكل طه ذو صدر رحبٍ، يتسع لملحوظاتي، مقدرا بشكل كبير ما قاله من توصيف لعمل الأسير الكاتب الأشقر في هذه الرسائل، وخاصة ما أطلق عليه “الدبلوماسية الشعبية”.
في هذا التعميم الوارد في المقتبس السابق، حكم قاس وغير موضوعي، كما أن وضع الكرة في ملعب الكتّاب الأسرى أيضا في خلق حالة من التوازي الفكري السياسي فيه الكثير من “الرومانسية الفكرية” التي لم تكن إلا في غير موضعها. وهو ربما نوع من التهرب من مساءلة من هو خارج الجدران عن دوره السلبي جدا تجاه كل القضايا المطروحة على طاولة السياسة الفلسطينية التي أخذت تضيق مساحتها يوما بعد يوم. فنحن نعاني من حالة موات سياسي كبير بفعل السياسة الفلسطينية الداخلية والخارجية العقيمة التي لم تثمر على امتداد عمرها الطويل شيئا للقضية الفلسطينية سوى المزيد من الضياع وتآكل الخريطة الطبيعية لفلسطين التاريخية، وفلسطين الــ 67، ولم تعد فلسطين هي فلسطين التي عاشها وعاش فيها وعليها أجدادنا الأوائل “منذ تفتّح الحقبِ”.
وأغلب الظن أن المتوكل طه بصفته أولا قارئاً، وكاتبا ثانيا، وسياسيا ثالثاً، قد استعجل بإصداره مثل هذا الحكم غير المدروس وغير المدعوم، وتنقضه كثير من الحالات الفكرية الفلسطينية الشاهدة، من أمثال مفكرين فلسطينيين عالميين كإدوارد سعيد، وهشام شرابي، وإبراهيم أبو لغد، وأمثال مفكري اليسار الفلسطيني كجورج حبش وماهر الشريف، وأمثال المفكرين الإسلاميين، ومن أهمهم الشيخ تقي الدين النبهاني، أو المفكرين الليبراليين كما هي حالة عزمي بشارة.
ليس شرطا أن نتفق مع كل ما يطرحه هؤلاء المفكرون. لكن من الواجب الأخلاقي للباحث ألا يصدّر كلاما عاما للمتلقين، ويرسله على عواهنه. فكل كلمة لكاتب أو مثقف إما عليه وإما له، وعليه أن يكون أكثر احتراسا من الوقوع في الزلل.
وتذكيرا للشاعر المتوكل طه أحيله إلى موقف إدورد سعيد مثلا من توقيع اتفاقية أوسلو ورفضه لها ونصيحته لياسر عرفات ألا يوقع هذه الاتفاقية المشئومة (كما جاء في كتاب أماكن الفكر للكاتب الأمريكي تمثي برنن مثلا كشاهد حديث العهد على مواقف إدورد سعيد من ياسر عرفات وصناع السياسة الفلسطينية المعاصرين)، لكنْ لم يستجب السياسي لنظرة المفكر، كعادة السياسيين قاطبة الذين يديرون ظهرهم للمفكرين والمنظرين السياسيين، ولا ينفّذون إلا ما يُفرض عليهم من إملاءات خارجية، فلعل المتوكل طه يعرف- كما يعرف غيره- ماذا قال حسني مبارك لياسر عرفات عندما حاول التملص من التوقيع، ولا داعيَ لإعادة تلك الشتيمة احتراما لهيبة الموت أولا وأخيراً.
تخيلوا رئيس دولة كبيرة كمصر يخاطب رئيس منظمة بحجم أكبر من كثير من دول المنطقة بهذا الخطاب الشعبوي غير السياسي، الكارثيّ في حقيقته، ماذا فعل المفكرون؟ أو بالأحرى، ما بوسعهم أن يفعلوا وهم يرون السياسي منقاداً لإرادة غيره من سدنة الاستعمار، ولا يستطيع تنفيذ رغبة شعبه المؤتمن عليها؟ بل كم من سياسي حاول أن يتسلح بالمفكرين سواء في ذلك الحالة الفلسطينية والعربية؟ أكاد أقول إن العلاقة بين المفكر والمنظّر السياسي وبين السياسي الحاكم صاحب السلطة علاقة عدائية أو شبه عدائية، وفي أحسن حالاتها علاقة يشوبها كثير من التوتر، أو الهدوء المشوب بالحذر الشديد.
لم يتبق أمام المفكر الفلسطيني سوى الكتابة. كتب إدورد سعيد ضد أوسلو وتحدث عن مخاطرها، وغيره من المفكرين الفلسطينيين فعلوا ذاك، ومنهم مفكرون اقتصاديون وليسوا سياسيين فقط. هل قام السياسي بالاستفادة مما يقول العقل المفكر الفلسطيني، بل على العكس من ذلك أهمله إهمالا تاما، ومارس عليه أبشع الممارسات ليسكت أو “يغور في ستين داهية”. وهذه عبارة مأثورة عن عرفات نفسه في أقل تعامل يعامل به معارضيه، عدا الحبس أو قطع المخصّصات الشهرية، وتجفيف الامتيازات “السلطوية”، وقد يصل الأمر إلى القتل إن زادت مشاغبات المفكر عن حدها المحتمل، ليصبح كائنا لا تحتمل خفته، أو إن شئت فقل: لا تحتمل رؤيته الصائبة، لأن الحقائق لاذعة للمخطئين السادرين في متاهات الغيّ والضلال. فقد حاول السياسي اغتيال عبد الستار قاسم مثلاً، أو ترهيبه على الأقل، لصرفه عن “التفكير السياسي الشامل” للخروج من “عنق الزجاجة” التي وضعتنا فيه “عصابة أوسلو”، وهذه المقتبسات هي من كلام المرحوم عبد الستار قاسم وكتاباته.
في ظل هذه العنجهية من السواد الكثيف للسياسي وخطابات الإنشاء الفارغ للسياسيين لا أحد يسمع للمفكرين، ناهيك عن أن القراءة الفكرية ليست فعلا جماهيريا، ولا حتى لعامة الكتّاب المنغمسين بقراءة الروايات والأشعار الخائبة، إنما هي لنخبة النخبة، والنخبة الفلسطينية للأسف مغيبة، وعاطلة عن العمل في كثير من الأحيان، إلا من رحم ربك.
لا بد من الإشارة إلى أن المفكر أو المنظّر السياسي، هو حالة شاملة أكبر من كونه مثقفاً معاديا لسلطة الأمر الواقع، أو كاتب أدب شعرا ونثرا، وأكبر من باحث، وأديب، إنه القائد العام الذي يرى مهمته تتلخص في بث الروح المعنوية في الأمة، وقيادتها فكريا، وليس مجرد شخص يعارض السلطة السياسية، فالمفكر جذريّ الحلول، برؤيا شاملة مؤسسة على أيديولوجيا عامة، تشمل مناحي الحياة كافة.
مع تقديري للشاعر المتوكل طه، إلا أن عليه أن يعيد التفكير بالمسألة، ويبتعد عن صياغة الأحكام بهذه الوثوقية اليقينية الحتمية، ويعيد قراءة التاريخ الثقافي الفكري للشعب الفلسطيني- كما طالب في موضع آخر من مداخلته- لعله يرى بوضوح مفكريه. وما ذكرته من أسماء أعلاه هو غيض من فيض من المفكرين والمنظرين السياسيين، فشعب يخلو من المفكرين شعب لم يكن ليعيش كل هذا الصراع المرير، ويظل محافظا على وجوده وانتمائه لهذه الأرض الولود، على الرغم عن اختلال المنظومة السياسية الفلسطينية الحالية، وتبعيتها للاحتلال، ووحشية هذا الاحتلال في التعامل مع الفلسطينيين، وعسف السلطة السياسية وتعسفها في تهميش دور المفكرين والمنظّرين السياسيين والاقتصاديين، إلا أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، ليظل المفكرون ملح هذه الثقافة وروحها، وسدّها المانعها من الانهيار الأخير والنهائي.