الدكتور عبدالعزيز الصويعي
تحدثنا في المدة الماضية عن رحلتنا عبر “وادي الأجال” ونقلنا بعض الروايات التي حيكت حول “كاف الجنون” وفي معظمها كانت قصصاً خياليةً صعبة التصديق.. والآن وجب الحديث عن حقيقة الجنوب الليبي التاريخية، تلك الحقيقة التي أذهلت علماء القرن التاسع عشر:
قسّم “هيرودوتس” (القرن 5 ق.م.) العالمَ القديمَ إلى ثلاث قارّات: آسيا وأوروبا وليبيا. وعلى خريطة قارة ليبيا رسم وادي النيل وجعله ينبع من جبال أطلس (في الجزائر حالياً) ويتقوّس على هيئة هلال، حيث يمر بجنوب ليبيا (وادي الأجال حالياً) ويلتحق بالنوبة والصعيد، ثم يتجه شمالاً ليتفرع على هيئة مثلث (الدلتا حالياً) التي تصب كل فروعها في البحر المتوسط، ربما كان ذلك قبل أن ينبع من بحيرة “فيكتوريا” الحالية، أو ربما أن هيرودوتس كان يجهل المكان الواقع خلف الخط الصحراوي فاعتقده بحراً، فأطلق عليه إسم (البحر الجنوبي).
ومهما كان رسم هيرودوتس متخيلاً أو واقعياً، فإن خط الاستواء كان يمر قديماً بالجنوب الليبي، في زمن عُرف بعصر “البلايستوسين” المطير، لذا كان جو السماء رطباً والأرض كثيرة الأودية دائمة الجريان، قبل أن تميل الأرضُ ويبتعد خط الاستواء ويتحوّل العصر المطير تدريجياً إلى عصر الجفاف وهو زمن “الهولوسين” الحار، والذي كان سبباً في التصحر الحالي باستثناء بعض الواحات التي لا تزال صامدة رغم قسوة المناخ.
ومادام الماء كان يجري بالوادي المتخيّل (النيل-الأجال) لا بد أن حضارة نهرية قد نهضت بالمكان. فقد اكتشف العلماء، وعلى رأسهم الفرنسي “هنري لوت” آلاف الرسوم الصخرية التي تجسد الحياة القديمة لسكان جبال “أكاكوس” و”تادرارت” وغيرهما، كالحيوانات النهرية والبرمائية والسفن الشبيهة بالسفن المصرية القديمة، وقد أرجعوا زمنها إلى زمن ما قبل توحيد الدلتا والصعيد على يد أول مؤسس للأسرات “الفرعون نعرمر” (=مينا) سنة 3100 ق.م. (يتبع).