قراءة في ديوان “ينتظرونك”
محمد عطية محمود | مصر
“سمائي عميقة ولا تتغير/
كل ما أحببته يولدُ بلا انقطاع/
ودائما كل ما أحببته في بدايته”
أوديسيوس ايليتيس
في ديوان “ينتظرونك”1 للشاعرة الليبية “خلود الفلاح“2، تبدو العلاقة المتأرجحة بين الدفقة الشعرية، وما تنتجه من حالة سردية تتراوح بين الاختزال المكثف، وبين التفاصيل التي يحملها السرد لتلك الدفقة، والتي غالبا ما تحمل حكاية متوارية خلف ركام التفاصيل المقتضبة الدالة، كمفردات للحياة ودالة عليها من منظور فردي ذاتي يطمح لإسقاطها على درجة أرقي من درجات الوعي أو المفهوم الإنساني العام الذي قد يصل ببعض الأمور إلى حد الفلسفة أو ربما اللعب على حافتها المشغولة بالهم الإنساني التأملي في بعض الأحيان، وهو ربما ما عبر عنه المفتتح باستعارة مقولة أوديسيوس ايليتيس: “سمائي عميقة ولا تتغير/ كل ما أحببته يولدُ بلا انقطاع/ ودائما كل ما أحببته في بدايته.”
ذلك المفتتح الذي يؤسس لفلسفة التعامل مع نصوص/ ومضات الديوان، كما يمثل عتبة مهمة لها، ويؤصل قيمة معنى استمرارية الفقد المتواري، مع استمرارية استيلاد هذا الفقد من رحم الحياة والتجدد، والمرتبط دوما بمفردات دالة على هذه الحالة تنتشر في تضاعيف الدفقة الشعر/ سردية، فيتجسد الولوج إلى باب الحياة وتداعياتها – كنموذج – برؤية الشاعرة التي تتكيء على اللون الأزرق/ الحلمي/ الأثيري في نعت الباب، الموارب، وهو المُعرَّض لتمام/ اكتمال فتحه في أية لحظة، كاشفا عن المسكوت عنه من الحكايات التي تلوكها الألسنة، ربما خفية؛ ليتأنسن الباب متخذا فعل الهذيان الإنساني بفلسفة التعبير عن الأزمة الكامنة تحت السطح الهاديء، في قولها:
“باب أزرق/ موارب/ يهذي/ بحكايا الجيران/ لعابري النسيان”
وهو مما يعمق مدى الإحساس بطعم الانتظار الجاف، بالمعنى المتواري خلف الباب المراوغ والمخاتل لكل مِنْ مَنْ في الداخل والخارج على حد السواء، ولأزمة عدم التواصل معه، والتي يمثلها التعبير بـ “عابري النسيان”، بالرغم من وجود عنصر الحكايات التي تلوكها الألسنة، وهو الذي يتكامل مع المشهد السردي الخارجي من خلال معطياته الكاشفة الراصدة للأحاسيس، وكذا الإحالات الحسية التي تسقطها الدفقة على الجانب المادي الخارجي بتأصيل اصطباغ الماديات بالحس المعنوي المتكون داخل الذات والمشمولة بتداعيات الشعور به، في:
“الشارع حزين/ كرائحة جوع/ الكرسي مهمل/ كنفس مهترئة”
وهو ذاته/ الشارع الذي يحتمي منه الداخل بهذا الباب الموارب، وهو الذي يحمل في فضائه رائحة الجوع، المتلازمة مع الخواء الذي يبدو تأثيره البالغ في صورة “الكرسي المهمل” الذي تحوَّل بفعل الإبداع الشعري إلى ذات تتنفس ولكنها مهترئة، فهو الباب الذي ربما وارى، فيما يواري، جسد الجد/ التاريخ الذي تحوَّل في ضمير الشاعرة/ الساردة إلى حالة غيبوبية تأخذ كل شيء في تضاعيفها، حين تهذي بالغيبوبة، والتي تتخذ سمتًا جماليًا هنا باستمرارية الإحلال محل الإنسان/ الجد/ التاريخ، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة:
“غيبوبة/ تتمدد/ على سرير جدي/ المحتفي/ بالمشهد الأخير”
كما يجسدها الشعور باكتمال مسلسل الفقد وتسلله وتدرجه لينتقل هابطًا إلى الأم التي تتآلف مع الإحساس بفقدها كل الأشياء اللصيقة والعناصر المحيطة بالذات الممعنة في إحساسها بالفقد والخسارة وتأثير الزوال:
“الخليوي نائم/ الصحيفة بائتة/ التلفاز مكتئب/ الصحون باردة/ دون شوربة أمي”
فالمفردات هنا تصمت وتحتفظ بهمود الفقد/ الموت في دلالة الخليوي، والاقتران بالأمس بالقبوع في متن أحداث قديمة بائتة تأتي في سياق جريدة قديمة مهملة، أخبارها بائتة بلا معنى، وصحون تفتقد حرارة ما كانت تطهوه الأم، إمعانًا في تقنية استنطاق الأشياء واللعب على ظلال الفقد والانسحاب لبيان تأثيره المعنوي على المكان المادي..
بحيث يبرز دور الإحالة التي تراهن عليها الدفقة الشعرية، لتشكل وعيًا بجماليات المكان الداخلي الخاص المنغلق على الذات وهمومها، والذي يتحوَّل إلى مشهد عرض غيبوبة الجد، شبه الأسطوري الذي تحتفي به الدفقة/ الشاعرة، بأسلوب فلسفي تنحو إليه؛ لتعبر بأقل عدد من الكلمات الدالة المقتضبة التي قد تمثل كل منها على حدة سطرًا شعريًا منفصلًا مشحونًا، محملًا بطاقة حسية عالية جدًا ومرهفة وملتصقة بمفردات المكان الذي يعطي إشاراته ودلالاته، والتي تتوالى معها تلك المفردات للولوج في المشهد السردي الذي تتكيء عليه اللحظة الشعرية في انتقالها من الداخل الخاص إلى الخارج العام:
“الغرفة العارية/ تقرضني/ غبش الخطى/ في الطريق الطويل”
فالغرفة العارية بالداخل تسقط الدفقة الشعرية دلالة عريها، وبرودتها المتسقة مع البرودة التي خلفها فقد الأم، ومن ثم انكشاف الغرفة المقحل، على الطريق/ العام المفتوح على العالم الخارجي من حول الشاعرة/ الذات المتألمة التي تتحلق حولها الدفقات، وتحوم مفرداتها دالة على هذا الاستيحاش الذي تشعر به الذات المفردة، لينطلق على العالم باسطًا هيمنته..
كما ينتقل التعبير الحسي ليتمثل بالصوت الداخلي القادم عبر وسيط موسيقي/ صوتي هو البيانو الذي تتحول ترانيمه وألحانه المعنوية إلى مفردات مادية تمثل عناصر متعددة من عناصر الحياة وفعالياتها:
“عازف البيانو/ يقسم الترانيم/ إلى:/ حقول/ وفراشات/ ورتابة/ ومقاهي نت/ ومستشفيات/ ومشاعر/ وتخفيضات هائلة…”
إلى هنا ويتمثل الحلم المرتبط بالاحتياجات التي يود ضمير الشاعر في خلقه أو إعادة إنتاجه على سطح واقع صعب مغاير، ليكتمل به ملء الفراغ الداخلي أولا ً طمعًا في امتلاء خارجي/ ظاهري يمور بالحياة وفعالياتها المشتهاة بالرغم من تباينها واختلافها وتقابلها، ليبسط بساطه على الواقع المحيط ليكون واقعا بديلًا متخيلًا، لكن اكتمال الدفقة يضع حدًا دراميًا لما يمكن أن نسميه حلم يقظة، تقطعه الخاتمة:
“عازف البيانو/ بنظارته العتيقة/ التهم أصابعه”
تأتي هذه الخاتمة، بكونها مفارقة سردية تجسد واقعًا ماديًا معاكسًا لحالة الخلق الإبداعي التي توازت واتسقت مع ما يمور بداخل الذات الشاعرة، ليوغل في الإحباط الذي يشمل الداخل ويخيم بالتالي على الخارج الحقيقي، بإسقاطه عليه، حيث تمثل النظارة العتيقة معادلًا موضوعيًا لعدم القدرة الجيدة على إبصار الحقائق، المناقضة تمامًا لما ساقته الومضة من أوهام غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع الجدب، وهي الحالة التي ربما تؤكدها، ويكملها النموذج:
“حين أفقد ماء الورد/ حين أفقد رائحة العشب/ أتأهب للبكاء”
فهنا يتحقق وجود الفقد المعنوي متمثلًا في رائحة العشب التي تتفاعل معها الحواس، المتعطشة للمادي المتمثل في حاسة التذوق المفتقد التي يمثلها ماء الورد، فيتحوَّل ماء الورد المفتقد المشتهى إلى ماء مالح لدمع العين الذي يكرس لحالة الحزن التي تتلازم مع عملية الفقد.. وهي الحالة التي تكاد تتفق مع الحس المعنوي المنكسر المتغلغل في الدفقة التي تقول فيها:
“قارورة عطر/ مهشمة/ تشتهي/ دروب الأنامل”
حيث تصير هنا القارورة المهشمة، كمستودع فارغ من محتوى عطر الحياة الهارب من النفس وكمعادل موضوعي لها، وكموازٍ للانتحار الذي يقف في طريق الأنامل بجرحها كجزاء على اقتراف فعل الحلم، وهي الحالة التي تكرس لمفهوم فقد الاحتواء الذي قد تمثله القارورة، وفقد الحلم الذي يمثله مفارقة العطر وهروبه كهروب الحلم ذاته، وتبخره.. فهو ربما كان ذات الحلم الذي تبخر من النافذة التي تقف بين الداخل والخارج، انتحارا على مذبح الانتظار الذي تتوافر له عدد من الومضات التي تتكامل فيما بينها لإنتاج حالة رومانسية مغرقة في الالتحام والانصهار والوجد مع محبوب غامض، تبدو من خلال ومضة:
“مفرش المائدة/ الأنيق جداً/ يحدق/ بحرارة/ خارج النافذة”
وهي التي يتوالى بها المشهد السردي المكون من تلك الدفقات؛ فتبدو بلاغة المقابلة بين حرارة الانتظار، وبرودة كوبي الكاكاو المنتظرين أيضا تحت الشرفة الواصلة أيضا بين الداخل الحسي والخارج المادي، والتي اكتسبت سمة البرودة والانكماش الحسي الذي ينمو بداخل الذات المهجورة التي تعاني مرارة الانتظار:
“كوبا كاكاو/ متعانقان/ تحت شرفة باردة”
هذا بالرغم من كون المسافة الحلمية بين الذات وما تشتهيه، تتمثل في الوعي الذاتي بجنة مشتهاة، تحتبل بالأماني، وتخلق حالة من القرب بين ظلين غير حقيقيين، يتمثلان الحالة المشتهاة من القرب!!
“في المسافة الصافية/ بين ظلينا/ نمت حديقة صغيرة”
وصولًا إلى الحالة التي ربما رصدتها دفقة عنوان الديوان “ينتظرونك”، لتحمل عنوانه ودلالة معاني دفقاته، وهو إضافة الى توفيق الشاعرة في اختياره، تأتي معه الدفقة/ الحالة السردية الملتبسة بالشعر، كتأسيس لوعي جمالي، دال على ما يمور بالنفس من آمال، بمعنى التشبث بالحلم والاقتران بالأمل الذي لا يلوح إلا من خلال مجموعة الأحلام التي تتناقض معها سمات الفقد البارزة والمعلقة على مشجب الحياة/ الذات وما يدور في فلكها، وتدور به هي في فلك الحياة، حيث تعمق وتؤسس لفعل الغياب المترصد لكل فعاليات الأمل بالدفقات، تكريسًا لفعل الانتظار والإذعان لقوانينه، فها هي تيمة التعانق مع حالة الانتظار المتغلغلة في متن الدفقات تعلن صراحة التكريس لهذه الحالة من الفعل اللا إرادي، المنبثق من خاطر الذات المهجوسة بالفقد وآمال الوصل معا، في تركيبة/ حالة إنسانية فريدة:
“ينتظرونك/ الشارع/ المارة/ الباعة/ رجال المرور/ باب البيت/ البلاط/ علاًقة الثياب/ الصحون/ الملاعق/ وكوب الحليب.”
فكل المفردات المادية الدالة على الحياة هنا تواءمت مع الذات بفعل التوحد والانصهار وإحلال الذات العاشقة للحياة التائقة للقاء، فيها، لتكون مشهدًا سرديًا أبطاله هم كل هؤلاء، الذين يبرزون تعاطفهم المعنوي معها – برغم ماديتهم الثابتة – بتواجدهم على ساحة وعيها المضطرم، والمحفوف بالشوق إلى هذا المنتظر الغامض، ووقوفهم على سر الأزمة الطاحنة التي تعصف بالذات، تلك التي تمني نفسها بنفسها بهذا حلم الاحتواء الأكبر، المكرس أيضا لفعاليات الانتظار، والمؤكد عليه:
“في الشتاء القادم/ سأشتهي لكِ/ صالة/ لا تتجاهلكِ مقاعدها
سأشتهي لكِ/ حائطاً يواريكِ
سأشتهي لكِ/ كعكاً وخبزاً وجبناً
سأشتهي لكِ/ برتقالةً تضيء”
لتنغلق الدائرة بتمام الرجوع إلى نقطة البداية والانكماش والتوحد بالذات الذي يشعل جذوة الأمل لتجابه كل رعشات الاشتهاء المتمثلة في حضن يحتوي الذات من خلال مشهد سردي صرف متكامل، والحلم من جديد بمكان محدد آمن تتواجد به أشياء/ عناصر تتخلى عن جمودها وماديتها؛ لتتحول إلى أشياء معنوية حانية تملك فعل الاحتواء، والحماية، وتوفير ملذات الحياة ومباهجها، والخروج من عتمة الانتظار…
1- “ينتظرونك” ـ شعر ـ مجلس الثقافة العام – الطبعة الأولى – 2006.
2- شاعرة وصحافية ليبية، صدر لها: بهجات مارقة، ينتظرونك، طاولة عند النافذة، شعريات ليبية.