في اليوم العالمي للكتاب أحببت أن أحييكم وأعرفكم بكتبي.. أطفالي.. أحبابي.. قرة العين لي…
فبالرغم من بداياتي المبكرة في الكتابة سواء في مناشط الحركة الكشفية، أو في وريقات الصحافة المدرسية، أو من خلال القصص المشارك بها في المهرجانات الأدبية المدرسية، إلا أن طباعة مشروع تخرجي عام 1982م كان هو الانطلاقة الحقيقية لي في عالم التأليف والنشر، ومعه تلمست فرحة الإنجاز، وزهو التألق.
كان مشروع تخرجي عبارة عن سلسلة علمية للأطفال في شكل قصص تدور حول مهارات الزراعة المنزلية، وتنسيق الحدائق الداخلية، وزراعة الزهور ونباتات الزينة، قدمت منها ثمان قصص، وطبعت الكلية لي منها أربع هي:
– أنيس وهدى في حديقة المنزل.
– أنا الزهرة.
– حديقة بدون حديقة.
– طبيبك النبات.
وصارت هذه الكتب الأولى ومازالت أيقونة عشق استلهم منها مشاعر التجدد في كل حين.. فالخطوة الأولى إن كانت راسخة ستمنحك ركيزة قوة تستند إليها في الانطلاق.
في عام 1994م نلت درجة الماجستير في الصحافة، وكان الانعطاف الثاني في تاريخ الكتابة عندي، فما أن بدأت في كتابة رسالة الماجستير حتى تحولت من الكتابة الإعلامية المنطلقة في فضاءات التعبير أثناء عملي بمجلة الثقافة العربية إلى الكتابة العلمية المقيدة بقواعد وقوانين مقولبة لا حيد عنها، وحينما أوصت لجنة المناقشة بطباعة رسالتي وتحويلها إلى كتاب على حساب الجامعة؛ انعتقت من قيد الجمود العلمي، وكان التحدي، فالكتابة العلمية تختلف عن الكتابة الأدبية.. وما يُكتب في البحث لا يُكتب في الكتب.. وما ينتظره المتخصص في المجال ليس هو ما يتوقعه القارئ في الواقع.. هو تحد لكل ما تعلمته أثناء الماجستير، وما أجبرت عليه أثناء كتابة الرسالة، وكان صدور كتابي المشتق من رسالة الماجستير (القيم التربوية في صحافة الطفل الليبية) هو الانطلاق الأولي في تأليف الكتب، وبفضله أطلقت سراح بحث الماجستير وأنقذته من أرفف النسيان.. وهنا استعذبت فعل إعادة الكتابة من قالب إلى قالب، وعشقت تحويل النص من بحث إلى كتاب.. وعشت إحياء المهجور من الكلم.. فالبحث الذي يُسجن في الأرفف.. يعيش غريباً منبوذاً.. ويموت بعد حين قبل أن يُستفاد منه.
تجربة فريدة أخرى عشتها حينما أصدرت كتابي (فن الاتصال بالآخرين) عام 1999م عن دار نون للتدريب والاستشارات، فهذا الكتاب كان تجسيدا لعلاقة متينة بين المهنة والهواية، ومن خلاله جعلت مهنتي هوايتي وشغفي. فهو نتاج محاضراتي في مقرر الاتصال الشخصي، وهو امتداد لمعلومات تطبيقية قدمتها في دورات تدريبية وورش عمل حول مهارات الاتصال والتواصل في عدة جهات ومراكز تدريبية ومحافل شبابية.. وأخذت أضيف من كل عام دراسي معلومة.. ومن كل دورة تدريبية خبرة.. ومن كل ورشة عمل تجربة.. وحينما تجمعت الخبرة مع الهواية وبمباركة العلم، ولد كتابي فن الاتصال بالآخرين الذي أصبح كتاباً منهجياً مقرراً على طلبة الإعلام، وربطت به علمي مع عملي، وجملته بالتطبيق.. إذ حينما تصبح الوظيفة هواية تتحول من عبء وقيد إلى مصدر للرزق الجميل.
في عام 2002م خضت تجربة مختلفة عما ألفت في فعل الكتابة.. حيث استهوتني الكتابة بالمشاركة.. وكان نتاجها كتاب المداخل الأساسية في التحرير الإعلامي بمشاركة أخي وزميلي الدكتور محمد سالم المنفي.. لم نكن نزين اسمينا يومها بدال نقطة وأكتفينا بجمالية الاسم دون ألقاب.. ورغم أن طباعة الكتاب تعطلت، ولم يخرج كتابنا للوجود إلا عام 2005م، إلا أن هذه الخطوة كانت من أجمل التجارب التي أكملنا فيها بعضنا البعض.. وخرجنا من خلالها بفكرة مشروع التأليف المشترك للمناهج الدراسية في مجال الإعلام.. ومرت الأيام ولم نشترك من جديد.. وبهت الحلم وكاد أن يتلاشى، إلا أننا مازلنا في انتظار الانطلاق.. فالكتابة بمشاركة الآخرين تقرب المسافات وتمنح التخصص تعددات يُثري بها الانتاج.
في عام 2003م شددت الرحال إلى قاهرة المعز بين أحضان أم الدنيا في رباط علمي مقدس أبغي منه نيل درجة الدكتوراه في الإعلام البيئي.. واخترت فندق المنظمة الكشفية العربية مقراً لسكني لأكون وسط أخوة وأخوات عرب تجمعنا أواصر الأخوة الكشفية.. وخلال هذه الفترة الزاهية أتيحت لي الفرصة، وبرعاية المختبر الكشفي العربي، وبتشجيع أخي الكبير القائد فتحي فرغلي لإصدار أربعة كتب ضمن سلسلة الأدلة الكشفية في التربية البيئة وهي:
– دليل نظام التقدم في المجال البيئي للأشبال والزهرات.
– مشعل الأشبال.
– مشعل الكشافة.
– مشعل الكشاف المتقدم.
وبقي مخطوط دليل القادة والقائدات في التربية البيئية مخطوطاً إلى يومنا هذا.. ومازال ينتظر الصدور رغم حصوله على جائزة التأليف والبحث العلمي من مكتب المرشدات العربي عام 2019.. وكانت هذه الكتب التدريبية النواة الأولى التي بنيت عليها البرنامج التجريبي الخاص برسالة الدكتوراه.. كما كانت التجربة الأولى في التأليف المقنن الهادف المرتبط بفكر وأسلوب ونظام تُحسب فيه كل كلمة بميزان، فأضافت لي هذه التجربة رؤى بعيدة المدى تحول المألوف إلى مستجد يجذب الانتباه.. إذ حينما تتحول الاهتمامات إلى إنجاز يصبح للعمل الجامد وجه جميل من الإبداع، يفتح العقل ويفسح الصدر ويع ويحيل الواقع إلى حلم زاهي سهل التحقيق.
تتوالى حكاياتي مع كتبي، فلكل كتاب قصة وحكاية.. وحكايتي مع كتابي المدلل (طيارة ورق) أي حكاية.. إن قلتُ عشق فهذا لا يكفي.. وإن قلت انتماء فلن أفيه حقه.. فلهذا الكتاب الف حكاية بدأت منذ نعومة أظافري وبدايات تفتحي على الحرف، فهو تجميع لرسائل كنت اتبادلها مع صديقات لي في أرجاء وطننا العربي الجميل عندما كانت هواية المراسلة لها (شنة ورنة) كما يقولون.. ولكن كتابي المدلل عانى الأمرين من محاولتي نشر غير موفقة، الأولى عندما كتبته بعد تخرجي مباشرة باسم (كنوز من ألعابنا الشعبية) لكنه ضاع منى عندما قدمته للنشر، واستولى عليه أحد الأشخاص وادعى كتابته، لكنني استرددته بحكم محكمة، وخزنت مخطوطه في أدراج النسيان، وعندما أخرجته المرة الثانية قدمته بعنوان (النقيزة) وفي هذه المرة أُسيئت طباعته، وولد مشوهاً، فأوقفت توزيعه، وأودعته مخازن التلف، لكنه ظل قابعاً في خاطري كحلم جميل ينتظر التحقق.. إلى أن سافرت إلى القاهرة بلد الثقافة والعلم، وتعرفت على ناشرين وأصحاب مكتبات عريقة، فطبعت الكتاب على حسابي الشخصي، وأشرفت على طباعته لحظة بلحظة، ومنحته اسم (طيارة ورق) لأطلق جناحيه محلقاً عبر سحائب احلامي.. فحينما يتحول الحلم إلى فعل تتحقق الأماني وتتحول إلى واقع جميل بإمكان الأنامل تلمسه.
في عام 2006م نلت درجة الدكتوراه في الإعلام البيئي وكان من توصيات لجنة المناقشة تقديم البرنامج التجريبي الذي طبقته إلى جهات الاختصاص في ليبيا لاعتماده كمشروع وطني للتربية البيئية.. وكان لي الشرف أن وافقت الهيئة العامة للبيئة عليه وتبنت المشروع وقدمته إلى اللجنة الشعبية للتعليم آنذاك لينطلق المشروع من بنغازي ويبدأ الانتشار في بعض المدن الليبية الأخرى.. وهنا كانت التجربة الأخرى في التأليف المنهجي حيث ألفت ثلاثة كتب في التربية البيئية:
– دليل المعلمين والمعلمات في التربية البيئية.
– الطريق البيئي الأخضر: لمرحلة التعليم الأساسي.
– الدرب البيئي الأخضر لمرحلة التعليم المتوسط.
وغمرتني السعادة الفائقة في هذه التجربة الجديدة لأنها التوصية الثانية بالنشر في تاريخي العلمي.. فالمثابرة هي السبيل الأمثل لإطلاق سراح الأفكار من سجن المكتبات.
استمرت معي تجارب التأليف المختلفة.. ففي كل تجربة إضافة لتاريخي.. وفي كل تجربة انطلاقة في مجال جديد.
في عام 2011م كانت الانطلاقة المختلفة مع كتابي (الموروث الثقافي الليبي وتأثيره في أنماط التفكير السياسي) فهذا الكتاب يمثل انعطاف مميز في مسيرة كتاباتي.. لا لتوقيت صدوره وإنما لفكرته.. فهو تجربة مختلفة في مجال تحويل الكتابة العلمية الجامدة إلى كتابة ثقافية منفتحة.. فحينما خرجت الجماهير إلى الساحات في 17 فبراير انتابني هاجس بحثي نابع من خوف تأثير المتغيرات الحادثة على أنماط تفكيرنا.. وانعكاساتها على مكونات الموروث الثقافي الخاص بنا.. خفت من وقوعنا في مأزق الغراب وفقدان هويتنا الذاتية.. فلن نكون بعد 17 فبراير مثلما كنا قبلها.. ولن يجد الباحث الذي يريد عقد المقارنات بين عهدين ما يستند عليه من معطيات قبل تأثرها بالمتغيرات.
وفي حديث مع المهندس نجيب الصبيحي أطال الله في عمره، والاستاذ صلاح بو شويقر رحمه الله، ظهرت فكرة بحث يرصد مكونات الموروث الثقافي الليبي ويقيس انماط التفكير السياسي قبل تأثره بالمتغيرات الحادثة في الساحات.. وتحمسنا معا للفكرة وأخذت على عاتقي أمانة الإنجاز، وكان ما كان.. لكن هذا البحث افرز نتائج مثيرة أوضحت حقيقة تفكير الليبيين وأحلامهم وطموحاتهم، وهي نتائج لو تدارسها متخذي القرار بجدية في وقتها ما كنا نسقط في الوضع الذي نحن فيه الآن.. فهو بحث يرقى بنتائجه وأفكاره إلى مرتبة الكتب المستقبلية.. وتحمل صفحاته طموحات شعب وأحلامه وتوقعاته وأفكاره وموروثه وما يحلم به.. هو يحمل في طياته نظرة مستقبلية نابعة من واقع حقيقي قبل أن يتغير ويتبدل من حال إلى حال… فالكتابة العلمية في زمن التغيرات يمكنها أن تحول الشعارات إلى علم كفيل بحفظ أوضاع نخاف أن تغيبها متغيرات الزمن.
في عام 2019م صدر لي كتابي (دليل الباحث العلمي) وهو الكتاب الذي احتفي به كلما لامست عيني غلافه، وله الحق في هذا الاحتفاء. فهو كتاب أنجز في زمن الحرب.. والكتابة في زمن الحرب تختلف.. لأنها فعل يحول الخوف إلى إصرار.. ويصنع من الرعب يقين بالسلامة المتمناة.. وهذا ما عشته مع كتابي (دليل الباحث العلمي).. فهذا الكتاب بدأ كمشروع لتأليف كتاب منهجي.. وانتهى بتأليف كتاب عاطفي.. فبين كل كلمة وكلمة ذكرى.. وبين كل سطر وأخر دمعة.. وبين كل صفحة وصفحة شوق لوطن تركته أقدامنا قسراً.. بدأت بتجميع بياناته قبل اندلاع أصوات الرصاص.. وسطرت مخطوطه الأول بين أصوات القذائف المدوية.. ورائحة البارود المتسللة من فرجات نوافذنا المتربسة بالخوف، وتراقصت أحرفه مع تراقص الشموع الموشكة على الذوبان.. وعندما عشنا تجربة النزوح المريرة حملته معي أنوء بثقل أوراقه وأخاف عليها من الفقدان.. وفي ديار الغربة انتهيت من كتابة أحرفه وأودعتها لوعة الحنين ولهفة العودة للوطن.. كنت أدفن الخوف والألم والحزن في صفحاته وأطمئن النفس بأن الوطن بخير وإنما هي سحابة صيف (معججة) وستنقشع.. كنت أهرع إليه كل فجر لأمسح بأحرفه مرارة غربتي.. فكان لي الوطن.. وكان لي السكن.. فالعلم مثل الحب في زمن الحرب بلسم لكل كرب.
في عام 2021 انتهينا أنا وزوجي السفير والتربوي والضابط المتقاعد (إسماعيل الصديق بن إسماعيل) من تأليف كتابنا المشترك (اسم ومسمى: رحلة في أصول الأسماء) بعد قرابة ثلاث سنين من العمل المشترك، فكان كتابنا أجمل هدية للأهل نقدمها تساعدهم في اختيار أسماء أبنائهم بحيث يكون الاختيار على بينة من المعنى، وعلى معرفة بتاريخ من يحمله مثله، وهو يحتوي على أكثر من ألف اسم جميل له معنى، وله تاريخ… كتابنا قدر له أن يُكتب في زمن ثورة المعلومات التي أحاطت بنا من كل مكان، وتعددت مصادرها وتنوعت، وتشعبت تفصيلاتها وتعددت، فأحببنا من خلاله أن نجمع بعضاً من هذه المعلومات معاً، ونضعها بين يدي القارئ الكريم، في شكل موسوعة ثقافية تعتمد على ربط معاني الأسماء بكل مسمياتها في رحلة عابرة للمعنى، نستنطق منها التاريخ تارة، ونستلهم الحاضر في معظم الأحيان. واستخلصنا عبر كل اسم سنهديه لأبنائنا قيماً أخلاقية خالدة لتكون الأخلاق عنواناً لهم، ودليلاً لترسيخ ثقافة إنسانية راقية، يسعد بها حامل الاسم، ويتباهى به بين الأقران، وبكل هذا الثراء الجميل من معاني الأسماء ومسمياتها؛ غدا كتابنا بسطوره وكلماته ملحمة بهية في حب الأهل والأوطان.. اليوم وصلتنا البشارة: (كتابنا الآن تحت التجليد والتجهيز النهائي، وسيكون بيننا بعد حين).. فالكتابة بمشاركة رفيق الحياة هي رباط مودة ورحمة تجملها ولادة كتاب مدلل يخلد لحظات الصفاء.
وصلت الآن إلى كتابي الحالي الذي سأحتفي به وأنا احتفل معكم باليوم العالمي للكتاب: (السر في الكتابة الصحفية) هو كتاب سر راودني منذ زمن وانتهيت الآن من تأليف فصوله، واحيل حالياً صفحاته المكتوبة بقلم القلب إلى صفحات مطبوعة بأحرف الكومبيوتر، واستعد لإخراجه وتجهيزه للنشر، بداخل كتابي أودعت أسرار أربعين عاماً من العمل في الصحافة وفي التدريس الإعلامي، لذلك فهو كتاب منهجي يحمل في قلبه ذكريات ونماذج وكتابات عمر بأكمله، ففي كل موضوع منه علم ومعرفة، وفي كل جزء منه نماذج وأمثلة، وفي كل فكرة منه تجربة وخبرة.. هو سري الأكبر.. وهو زهوي الأجمل… فالسر الجميل عندما تبوح به للأخرين تحييه وتجمله بألق البوح المنفلت من قلب الحب.
هذه هي حكاياتي التي تجسدها كتبي قرة العين لي أحببت مشاركتها معكم في هذا اليوم المميز الذي يحتل فيه الكتاب صدر القلب وأعماقه.