تمكن الكاتب علي مصطفى المصراتي خلال مسيرته الادبية الحافلة من نحت بطاقة له على جدار فن القصة، وكون أسلوبه الساخر الذي عرف به وشكل له هويته الخاصة، والقالب العام لأعماله يتبنى لعبة الاستدراج والمشاكسة لشخوصه بغية كشف ما يختفي في اعماقها من فضول.
البطل المتمرد
جل نماذجه وهي وان بدت على بساطتها مستكينة للضغوط يبقى الرفض كامنا في اعماقها، ونتائجه تضاف الى مكاسب الكوميديا السوداء كما في قصة، ”مسمار لموسليني” فالصانع الذي تورط في عمل سرج كهدية لموسليني لم يكن له الا خيار الاذعان للطلب، ولأنه يعيش صراعا داخليا مع نفسه المتمردة، وجد نافذة الهروب من الكابوس في مسمار يضعه في السرج مهمته اسقاط الديكتاتور من الجواد، وفي صورة اخرى يكون للرفض ضريبته المؤلمة احيانا، ففي قصة (عمك في باريس) ينتهي الطموح بالبطل الشاب الى عامل بزريبة للخنازير بباريس، قد يكون البطل من النوع الرومانتيكي الذي رسم في خياله عن مدينة الاضواء صورة الفردوس المفقود، ولكنه ينشد وجها اخر للحياة، فهل كانت محاولته مشروطة بالسخرية القاسية والانتقاد العنيف، وربما تكون الرغبة في تصحيح الخطأ تيمة جامعة لنصوص الكاتب الا ان الشخوص لا يتاح لها دوما التحكم في مصائرها الدافعة لهذه النتيجة، فهي مشوشة بالانعطافات المفاجئة، ومعاقبة أحيانا في رحلة البحث عن ذاتها .
في قصة (الدخول من الباب الخلفي) نقف عند أقصر قصة قصيرة كتبها المصراتي في ظني وعنون بها مجموعته الصادرة 2008، حتى انه تخلى عن أسلوبه المطول في السرد، وتكشف الفساد المؤسساتي في اتمام المعاملات الإدارية.
نماذج هامشية
نماذج الدخول من الباب الخلفي ظلية بامتياز، اذ لا ترغب في خوض مغامرات غير محسوبة العواقب، ربما لكونها هامشية، ولأن قناعاتها لم تتأذى بتشوهات بنية مجتمعية تسربت اليها أعراض الفوارق الطبقية، فجلال عاكف الموظف في السلك الدبلوماسي في قصة (هل يؤثر ذلك على المعاش) يرى نهايته متعلقا بمعاش تقاعدي بعد ان قدم نموذجا للإداري النزيه دون مقابل، فيرفض مثلا معاملة مشبوهة لمواطن في مشهد يسوقه النص (اما عجيبة مرة تقول حارس ومرة تقول قلم مرور، أنت حتى السيارة التي تستعملها للحكومة)، ويرد جلال (هذا موضوع اخر استعملها في المهمات، أنا لا اسافر بها الى قريتي، ولا أتفسح واتسكع بها كما يفعل غيري.. ثم انا قلم مرور) ص105، بالإضافة الى ذلك فهي مقهورة وعاجزة لا يساعدها الواقع او قالبها الذي صمم لها على اظهار كل ما لديها فمن الطبيعي ان يسكن القلق عبد القوي سلامة في قصة “مطلوب للمركز غدوة”، قائلا متوجسا في رعب بمجرد استلامه طلب استدعاء (انا راجل ماشي في حالي… الظل الظل) ص40، وهو كما يصفه جاره (انت لاتخبش ولاتنبش) ص 39، ويكتشف لاحقا ان استدعاؤه جاء بطريق الخطأ، والحاج عصفور في قصة (طار العصفور) يرتجف بعد طلب محدثه سليم حليم اخفاض صوته بقوله (هل هناك وشواش للحكومة.. هل تكلمنا على غلاء الاسعار وتأخر الرواتب.. أنا عمري في حياتي ما تكلمت على وزير.. نشبح فيهم في الصورة من بعيد، هم في حالهم وأنا في حالي) ص137.
كوميديا سوداء
ويبقى المصراتي في كل ما كتب عقاد ليبيا كما وصفه الدكتور مصطفى محمود في كتاب “حكايات مسافر“.. (اذا اردت أن تعرف شخصية المجتمع الليبي اقرا للأديب علي مصطفى المصراتي)، وهو يحيل بنماذجه ظرفية الزمن الاني الى دوائر مفتوحة من الاحالات الزمنية فعبد السميع الاكتع او ”الشاشيد” كما يصفه في قصة (الميت الذي شتم الحكومة) يجسد نموذج المخبر الانتهازي الذي (تغيرت الوان واشكال الاعلام والرايات وهو لم يتغير) ص199، ولن يغادر وظيفته (مادام هناك اناس يلعنون السلطة ولو بالهمس)، وتصل سخرية المصراتي من الاكتع مدمن التقارير بأن (أكل الزميتة مع زملائه ووقف معهم على جبل عرفات ثم كتب تقريرا) ص199، فالاكتع هو زكريا بن راضي كبير البصاصين في رواية (الزيني بركات) لجمال الغيطاني، وهو مباحث أمن الدولة الذي توسل للروائي نجيب محفوظ ان يكتب له التقارير لأنه رجل أمي. وهو الذي يصفه الشاعر احمد مطر، (فحيثُ سِـرتُ مخبرٌ/ يُلقـي عليَّ ظلّـهْ/ يلْصِـقُ بي كالنّمْلـةْ/ يبحثُ في حَقيبـتي/ يسبـحُ في مِحـبرَتي/ يطْلِـعُ لي في الحُلْـمِ كُلَّ ليلهْ!