المقالة

ليلةُ ربط الأمتعة.. والاستعداد للعودة إلى أرض الوطن

عبدالعزيز الصويعي

ليلةُ ربط الأمتعة.. والاستعداد للعودة إلى أرض الوطن (الصورة: الدكتور عبدالعزيز الصويعي)
ليلةُ ربط الأمتعة.. والاستعداد للعودة إلى أرض الوطن (الصورة: الدكتور عبدالعزيز الصويعي)

> انتظمتُ في الدورة الصحافية بجريدة الـ(الغارديان) اللندنية، وذلك بعد أن أتممتُ كل الفترات الدراسية المقررة تفوقتُ فيها جميعاً وتحصلتُ على شهادات من معهد (بلاتشنتودون بارك) وجامعة (كامبردج) ومعهد (بيتمان) بلنـدن، وأنهيتُ إجراءات التسجيل في كلية الآداب بجامعة (أوكسفـورد) وتحصلتُ منها على تأشيرة الإقامة.

> تجولتُ في العديد من المتاحف التاريخية، أهمها: (المتحف القومي البريطاني) و(متحف الشمع).. وزُرتُ عدداً من مقرّات الصحف والمطابع والشركات الإعلامية، أهمها: الـ(غارديان) والـ(ديلي تيليغراف)  والـ(ديلي مِرّور)، و وكالة (رويترز) للأنبـاء، ومطابع (ويب ويست لندن) ومركز (الجمع التصويري) بلندن.. وتحدثتُ وتناقشتُ وتحاورتُ مع العديد من المثقفين والإعلاميين والطلبة والأساتذة الجامعيين، حول مجمل القضايا التي تتعلق ببلدي ووطني وديني.. ولم أترك أية فرصة سُنحتْ لي، إلاّ ونهلتُ ما يفيدني منها. فأضفتُ إلى مخزوني المعرفي السابق كمّاً هائلاً من المعلومـات والانطباعات والمشاهـدات والملاحظات المفيـدة..

رغم كل ذلك..

> وقفتُ أمام المرآة الإنكليزية، فوجدتُ (أنا) هو (أنـا)، لم يتغيّر في ملامحي شيء، ولم تتحرك في أعماقي السواكن والثوابت. فلا أزال ذاك (الصويعي، البدوي، الليبي، العربي، المسلم)، فلم تتمكن الحضارة الغربية ولا التقنية الأوروبية ولا العلوم العضوية من استنساخ وتغيير هذه الكتلة الطينية-الرملية التي تحتويني.. وعندما رأيتُ في تلك المرآة أن الأمانة لا زالت على حالها، قرّرتُ إعادتها إلى أهلها سليمة من الشوائب والعوالق. فربطتُ أمتعتي، واستعديتُ للعودة.

> تعودتُ -منذ زمن- أن أستشف ملامح التطور والحضارة من بعض الدارسين في الخارج، من خلال تصرفاتهم وحرصهم على استخدام بعض الألفاظ الأجنبية عند الحديث، كأنّ العلامة المميزة للمتحضرين والمتعلمين في الخارج هي: (هيللو، وتشاو، وباي باي، وأوكي..)، وكأنّ سمة المتعلم في مدارس أوروبا هي (ربطات العنق الفاخرة) و(قمصان بيير كردان).. وكأنّ دليل التحضر والتمدن هو (رقصة السلو، وتشا تشا تشا، والروك أند رول).. وكأنّ عبير الثقافة والعلم لا يُشم إلاّ من خلال (رائحة الشانال المخلوطة برائحة الشمبانيا).. وكأنّ علامات الرقي لا تظهر إلاّ في سهرة مع (فتاة حمراء من لندن) أو (صبية بيضاء من باريس) أو (راقصة شقراء من مدريد).. ولكنني استنتجتُ -أخيرا- أن هؤلاء هم كالطبل الأجوف، الذي لا يكتنز في جوفه غير الفراغ رغم صوته الرنان.. فلا ثقافة ولا علم ولا تطور ولا حضارة ولا رقي ولا تقدم، ما لم نتحصن بالانتماء إلى وطننا وقومنا وديننا. فلا شيء يمنعنا من أن ننهل من العلوم ما يقوي رصيدنا العلمي والمعرفي والثقافي والحضاري، في إطار ما تقره العلاقات الإنسانية دون انبهار زائد وتأثر مفرط بما يفعله الآخرون. وعندما تأكدتُ أنني لستُ منهم، ربطتُ أمتعتي، واستعديتُ للعودة.

> إنتفضتُ، حتى تساقطتْ كِسفُ الثلج العالقة بالقشرة الرملية، فبانتْ الكتلة على حقيقتها صافية نقية، وصدر منها وهجُ الصحراء وحرارةُ (القِبلي) تُلهبُ المرآة الإنكليزية، وتملأ جو الغرفة دفءاً وسخونةً.. حدّقتُ ملياً في تلك المرآة، فتراءت لي شخوصُ كل من قابلتهم وتعاملتُ معهم من غير بني جلدتي، فلم أجد من بينهم (سعيد) ولا (عِيشة) ولا (مسعودة).. واسترجعتُ جولاتي في مدينة الضباب (لندن) و(أوكسفورد) و(ريدنغ) و(بامبري) و(كونفنتري)، وسحتُ في براريها الخضراء.. فلم أجد فيها (طرابلس) ولا (العزيزية) ولا (بئر الغنم) ولا (الجوش) ولا (بدر) ولا (تيجي).. ودخلتُ عدة منازل عامرة بأهلها، وعدة منازل خالية من أهلها، مثل منزل (شكسبير) الشاعر الأديب، ومنزل (تشرشل) السياسي الرهيب! وبحثتُ خلالها عن منزل أختي (حليمة).. و(حوش عمي بلقاسم).. وشقة (داداي مبروكة).. فلم أجدها. وتسكعت في شوارع (أوكسفورد ستريت) و(ماري لوبون ستريت) و(كينسنغتون ستريت).. وبحثتُ خلالها عن (شارع عمر المختار) و(شارع ميزران) و(شارع جمال عبد الناصر).. فلم أجدها. وشاهدتُ برج ساعة (بيغ بين) و(تاور بريدج) وقصر (باكينغهام) وقصر (البرلمان) البريطاني، وكباري نهر (الثامز).. وبحثتُ من خلالها عن (السراي الحمراء) و(الأربع عرصات) و(ميدان الغزالة).. فلم أجدها. وعندما لم أجد كل ما بحثتُ عنه، كسرتُ المرآة الإنكليزية، وربطتُ أمتعتي، واستعديتُ للعودة.

> شاهدتُ معظمَ البرامج التلفيزيونية، وحفظتُ أغاني (جون ترافولتا)، واستمتعتُ بأشرطته المشهورة، وترجمتُ أغنية (باي ذي ريفرز أوف بابلون) التوراتية لـ(بوني إم) التي تهين العرب وهم يرقصون على أنغامها. وتابعتُ باهتمام زائد مسلسل (كروس رودس) الاجتماعي، وبرنامج (مَبِّتْ شُو) الفكاهي.. واستمعتُ لموسيقى (الجاز) و(صيحات الأوبرا) وسمفونيات (بيتهوفن) و(موزارت) و(باخ) وموسيقى القِرَب الأسكتلندية.. وعندما لم أجد فيها (المرزقاوي) و(المجرودة) و(الحضرة) و(الكسكا) وفرقة (كاباو).. قفلتُ (التلفيزيون) الإنكليزي، وربطتُ أمتعتي، واستعديتُ للعودة.

> غُرمتُ بشراء صحيفة (الغارديان)، وتابعتُ أخبارها ومواضيعها، خصوصاً المتعلقة بوطني. وتطاولتُ على حل شبكات كلماتها المتقاطعة الصعبة. ولم أمنع نفسي من التفرج على الصفحة الثالثة لصحيفة (الصن)، ومتابعة أخبارها القصيرة والمثيرة للغرائز. ولم أنقطع أسبوعاً واحداً عن شراء مجلّتَيْ الـ(بي بي سي) والـ(آي تي في). وعندما لم أجد من بين الصحف صحيفتَيْ (الفجر الجديد) و(الجهاد)، ولم أجد من بين المجلات مجلّتَيْ (الوحدة العربية) و(كل الفنون)، طويتُ كل الصحف الإنكليزية، وربطتُ أمتعتي واستعديتُ للعودة.

> أصغيتُ للإنكليز وهم يتكلمون، ورأيتهم كيف يجاملون ويبتسمون، وعرفتُ ماذا يأكلون ويشربون ويلبسون، وكيف يرقصون، وإلى متى يسهرون، وكيف يشتغلون، وماذا يبيعون ويشترون.. وسرتُ معهم في الشوارع، ودخلتُ معهم الأسواق، وجلستُ معهم في الـ(هايد بارك)، وتفرجتُ على حيوانات (ريجنت بارك).. وحضرتُ معهم مراسم الملكة (إليزابيت الثانية)، وأطعمتُ معهم الحمام في ميدان (ترافلغار سكوير).. وشاهدتُهم يحتفلون بعيد (إستير) و(الكريسماس).. وانزلقتُ معهم على جليد (الفروزن).. وعندما رفضتُ أن أكون قرداً مقلداً، ربطتُ أمتعتي واستعديتُ للعودة.

> احترمتُ في الإنكليز تمسّكَهم بعاداتهم وتقاليدهم، وتشبثَّهم بماضيهم. وأكبرتُ فيهم حرصَهم على المواعيد، وتقيّدَهم بالنظم العامة في الشارع والبيت والمدرسة وأماكن العمل. واستعرتُ منهم عادة النظر إلى السماء واستطلاع الأحوال الجوية، والاستعداد لأي طارئ. وقدّرتُ فيهم حبّهم الشديد للتعرف على ثقافات وحضارات الغير.. واستغربتُ كثيراً من رباطة جأشهم وصبرهم وتحملهم مشقة الانتظار في الطوابير عند ركوب الحافلات، وفي الأسواق والمصارف، وفي جميع أماكن الزحام. واحترمتُ فيهم تأنيهم الزائـد قبل دخول الشوارع الرئيسية عند قيادة سياراتهم الخاصـة.. وأعجبتُ جدا برحابة صدرهم عند الحديث معهم ومناقشتهم، فكانوا يسمعونني بكل اهتمام، ودون مقاطعات متشنجة، حتى وإن كنتُ أنتقدهم.. وعندما تأكدتُ من أنهم احترموني في شخصي، واحترموا بلدي ووطني وديني وعقيدتي وثقافتي وتاريخ أمتي وحضارة أرضي.. صافحتهم بحرارة، وربطتُ أمتعتي، واستعديتُ للعودة.

> ورغم أن أمتعتي كانت كلها حقائب من النوع المألوف لدى المسافرين المعاصرين، إلاّ أنني -عند ربطها- كنتُ مشحوناً بمشاعر وأحاسيس غريبة. حيث لم أستطع التخلص من طريقة والدي القاسية عند ربط أمتعته على ظهور الدواب. فربطتُ أمتعتي بربطةٍ كما لو كانت (ربطة حرّاثي) بخيوط (المقط) وحبال (الحلفا)..!

> عدتُ إلى بلدي ولم أدرس “الأدب الإنكليزي” ولكنني درستُ “تاريخ ليبيا القديم”.. عيد فطر مبارك للجميع وإلى اللقاء.

مقالات ذات علاقة

حكمة من الأدب الصيني!!

ناجي الحربي

لا لطرابلس العاصمة.. نعم لطرابلس المدينة

المشرف العام

 غموض بناء الدولة الدستورية الليبية!

المشرف العام

اترك تعليق