ستيوارت ديبيك – أمريكا | ترجمة: مأمون الزائدي
على طول الضفة الخضراء للنهر، على سطح الماء رأى الفون1 انعكاس صورته العارية فأمسك بمجرى التيار.
ربما كان التيار من أطبق عليه، فلف معصمه كحبل مغمور تحت الماء. حبلاً من القنب الباهت لزجاً بطحالبه، من نوع الحبال الذي تركت أخدوداً على أكتاف الحضارات، حبلاً يسّخر العبيد ويربطهم بالأحجار العملاقة للأهرامات أو يربط أعناق الأسرى أثناء سوقهم إلى سوق النخاسة، حبلُ مشنقة، حبلاً لربط المتمردين بعمود الجلد، والساحرات والمهرطقين في المحرقة، ولتكبيل المجانين كما لو كانوا حيوانات، حبلاً يتدلى منه المنتحرون عند مفارق الطرقات، حبلاً يضع به الفاتحون مراسيهم مثل شصٍ في حلق العالم الجديد، حبلاً لا يمكن حتى لهوديني العظيم أن يفك عقده.
حاول الفون بعضلاته البارزة أن يقاوم التيار، فيما سحابة من الزبد تنفجر بصمت وتعلوه، كما لو كان عالقاً في هبوط سمكة وحشية، بعض المتغذيات على القاع بلحية من المجسّات وعيون جاحظة تبتعد عن كهفها تحت الماء ولكنها ترفض أن تنجرف نحو أشعة الشمس الرقيقة.
ناضل الفون ساحباً نفسه، فتجعدت الضفة تحت قدميه وكأنها نسيج يفقد شكله من سحب خيطه المفكك. نسيج من نباتات البوط والقصب والسرخس وزنابق الماء، تمتزج ببطء معاً حتى يختفي التمييز بينها في تشابك أخضر. ظل يسحب فيما أخذت الضفادع والسلاحف تقفز فارة من مملكتها المدمرة، حشرات اليعسوب التي تحوّم أضاعت المكان الذي فقست فيه. واصل الشدّ، بعيداً إلى الحقل الذي برغم أشجار الأرز فيه، بدأ يتحرك مثل سجادة فارسية تحت بيانو كبير.
استنفذ الشد والسحب قواه تحت عين الشمس المتألقة -ليس بالطريقة التي تجعله يعرق ويلهث من أجل التنفس. وبدل ذلك، امتلئ بالنوم المفاجئ والنعاس، وانهار بجانب القيثارة الصغيرة التي أسقطها كي يمسك مجرى التيار. وبينما كان يغوص في النوم، بدأ الحقل أولاً ثم ضفة النهر يرتخيان تدريجياً، ويستعيدان شكلهما المعروف. عادت السلاحف والضفادع إلى أماكنها، واعتلى اليعسوب الهواء المتلألئ. وبدأ الفون يحلم.
انتشر حلمه عبر النهر المتجمع حيث انعكست صورته قبل أن يبددها. وفي حلمه، كانت امرأة شابة تستحم وسط زنابق الماء، كان الحلم نفسه أكثر تعرضًا وهشاشة من انعكاس صورة جسده العاري. أخذت رعاشيات2 تنغمس وتحطّ فيه لبرهة بارقة. أسراب كالحور الأسطورية الطائرة من ذباب مايو وبراغش الماء تصنع غمّازة على سطحه الهادئ، في حين توسعت الدوائر من حيث قبّلت الأسماك الصغيرة المتقافزة جانبه السفلي المظلم. نسيم معطر برائحة الأرز داعب أوتار القيثارة، مصدراً لحناً موسيقياً. طيور صائد السمك والبلشون الأزرق وأبو قردان تحلّق وتهبط على الأرض، وتتبختر حول جسده المسفوح بتلك الخطى المتمايلة كدمى المسرح التي تميز طيور الماء. لم تفلح في إيقاظه حتى الضحكات المجنونة للطائر الغواص والتي تردد صداها المخيف في أنحاء النهر.
التيار الذي كان يمسكه صار الآن يتدفق من قبضته، متحرراً بين أصابعه مثل جديلة تنفلت على ظهر عذراء.
1-كائن ميثولوجي نصفه إنسان ونصفه ماعز.
2- ضرب من حشرات اليعسوب
* هو قاص وشاعر أمريكي من أصل بولندي (من مواليد 10 أبريل 1942). يقيم في شيكاغو بولاية إلينوي. نشأ في أحياء ليتل فيليج وبيلسن في شيكاغو في الخمسينيات وأوائل الستينيات. تخرج من مدرسة سانت ريتا الثانوية في كاسيا عام 1959 وحصل على درجة الماجستير في الآداب من جامعة لويولا في شيكاغو. مارس التدريس لمدة أكثر من 30 عاما في جامعة ميشيغان الغربية، وحاز على عدة جوائز.