المقالة

رمضــان.. بــلا صائميــن..!

من ذكريات الدراسة في أوكسفورد

الدكتور عبدالعزيز الصويعي

من ذكريات الدراسة في أوكسفورد (رمضــان.. بــلا صائميــن) ..! (الصورة: الدكتور عبدالعزيز الصويعي)
من ذكريات الدراسة في أوكسفورد (رمضــان.. بــلا صائميــن) ..! (الصورة: الدكتور عبدالعزيز الصويعي)

عندما يُذكر اسم شهر الصيام المشتق أصلا من (الرمض والرمضاء) نتخيل حرارة الصيف، حتى وإن كان الفصل شتاء! أما هذا (الرمضان) الذي صمته هنا في بريطانيا فهو ليس ككل (الرمضانات).

فقد كان في اعتقادي أن الصيام في الجو البارد أمرٌ في غاية السهولة. غير أنني اكتشفتُ العكس. حيث أن البرد هنا شديد جداً، والجسم البشري يحتاج فيه دائما لسعرات حرارية. أضف إلى ذلك أن كل مَن حولي ليسوا صائمين، ولا يحترمون -عن جهل- صيامي. فالناس -كلهم- يأكلون أمامي ويشربون، وينفخون في وجهي دخان سجائرهم، ويسكبون في بطونهم السوائل الساخنة كالقهوة والشاي وعصير الطماطم، ويستفزونني -دون قصد- بكل المغريات.. علاوة على أن الجو العام لبلادهم ليس رمضانياً بالصورة التي تعودتُ عليها. فلا توجد في مدنهم صوامع يُرفع منها آذان المغرب، ولا تنطلق فيها مدافع الإمساك والإفطار. ولا يمكن في فَجْرِهم تِبْيَانُ الخيطِ الأبيض من الخيط الأسود، ولا يوجد فاصل محدد بين نهارهم وليلهـم، ولا تظهـر فـي سمائهم الأهلّة. بل أن الاعتماد -كل الاعتماد- على الإمساكية المطبوعة التي يوزعها سنوياً المركز الإسلامي بلندن.

كل هذه الأعذار كانت بمثابة سهام مسمومة تترصّد النفوس الضعيفة التائهة هنا، وتصيب الكثير منها. كأن “العم رمضان” غير مسموح له بالدخول إلى بلاد (الكَفرة)! أو كأن الإسلامَ حكرٌ على أرض المسلمين (بالوراثة)! أو كأن الله تجلى في علاه يفتح عيناً هناك ويغمض عيناً هنا! أو كأن الصيامَ لم يُفرض على كل من شهد الشهرَ سواء كان في قلب مكة أو في ساحة (بادنغتون)! تبارك الله عمّا يعتقدون، وتنزّه الإسلام عمّا يدّعون.

كنتُ أمارس هوايتي في الرسم كلما جلستُ على طاولة المقهى الواقعة في الدور التحت أرضي للمعهد. وذلك برسم كل ما عنَّ لي من خطوط على المنديل الورقي الأبيض. وكانت الفتيات العاملات تراقبنـي بنظـرات خفية، ثم يلتقطن -بعد خروجي- تلك المناديل ويحتفظن بها. بذلك كنّ يبجلنني عن سائر الطلبة. إذ يقدّمن لي القهوة في فنجان من الفخار مع ملعقة معدنية ومنديل ورقي جديد، بدلا من الأكواب البلاستيكية والملاعق الخشبية المؤقتة التي يتناولها كل الطلبة باستثناء المدرّسين.

لاحظ زميلي الطالب العربي الجديد عبد الحميد اهتمامَ فتيات المقهى بي. وسألني عن ثمن قهوتي المميزة، فذكرتُ له أنها بنفس القيمة التي يدفعها كلُّ الطلبة: (40 بنس). فطلب مني أن أصحبه يـوماً إلى (السوبـر ماركت) لأختار له فنجاناً أنيقاً يسلّمه إلى فتيات المقهى، ليقدّمن له فيه قهوته كل يوم، ويصير مميزاً مثلي!

كان زميلي الجديد يملك سيارة خاصة من نوع (فولكس فاغن). وكان يعرض عليّ مرافقته عند خروجنا من المعهد بدلاً من انتظار الحافلة. وكنتُ سعيداً بصداقته، لأنه كان مثقفاً، ومن بلد عربيّ عريق، ويعرف الكثير عن بلدي وشعبها.. وقد ذكر لي -ذات مرة- أن أحد أصدقائه المقرّبين بعث إليه قيمة (خمسة آلاف دولار) كهدية متواضعة، قال عنها أنها (قهوة) فقط! وهذا يعني أنه ميسور الحال.

وبعد قرابة الشهر من ربط العلاقة الحميمة مع ذاك الأخ العربي الأنيق دائماً. كنا عائدين من المعهد إلى القريـة التي نسكنها بواسطة سيارته، حتى أوقفهـا أمام السوق الكبير، وطلب مني الدخول معه لاختيار الفنجان المتفق عليه. فذكّرته بأن غداً قد يكون أول أيام شهر رمضان المبارك، وطلبتُ منه إرجاء مسألة الفنجان إلى ما بعد العيد. وقلتُ له مبتسماً: (رمضان كريم.. وكل سنة وأنت طيب)، وانتظرتُ منه عبارة (الله أكرم) أو (وأنت طيب).. إلاّ أنه صفعني بالقول: (ماهو.. أنا أصْـلُه.. موش حأصيم هالسنة)، وتحجّج بأنه (طالب علم)، وطالب العلم يعتبر (مجاهدا) والمجاهد مُستثنى من (الصيام).. علاوة على أن الأكل عند العجوز التي يقيم في بيتها غير مناسب للصائم.. وحالة البرد لا تشجع على الصيام.. وغيرها من الأعذار كالتي تعودتُ على ذكرها لأبي عندما كنتُ أتلقى الدروس الأولى في الصيام.

عرضتُ عليه أن يحلّ عليّ ضيفاً كريماً طيلة شهر رمضان المبارك. فاعترض بحجة أنه لا يريد تحميلي مصروفات إضافية، خصوصا وأنا طالب مغترب. فذكّرته بأن صديقه بعث له (قهوة) بخمسة آلاف دولار، حسبما ذكره لي بعظمة لسانه، وطلبتُ منه إنفاق جزء منها على نفسه حتى يباركها الله.. وهكذا كلما أوجدتُ له حلاًّ، إلاّ ورفضه بحجج واهية. مما جعلني أمزق الصفحات الأولى من صداقتنا المبكرة، وصارحته بذلك، ثم نزلتُ من السيارة، وأقفلتُ بابها بعنف لأظهر له احتجاجي عليه وغضبي منه.

وفي مساء نفس اليوم أعلن المركز الإسلامي بلندن أن غداً (الخميس) أول أيام شهر رمضان، كما كنا متوقعين. وفي الصباح نزلتُ إلى مقهى المعهد التحت-أرضي عنوةً، فوجدتُ (عبد الحميد) يجلس على الطاولة، متفاخراً بفنجانه الجديد، وهو يحتسي منه القهوة الساخنة بسعادة ظاهرة.

كان عبد الحميد أكبرَ مني سنًّا. وهذه إحدى أسباب لومي عليه. وفي نفس فترة الاستراحة توجهتُ إلى (عبد العزيز) الجالس على الأريكة وسط بهو المعهد، وقد أشعل سيجارة لتوّه. جلستُ بجـواره، وسألته بحنق عن سبب إفطاره في شهر فرض الله فيـه الصيـام. فضحك ورَدَّ علي بكل برودة وصفاقـة: (بنات.. يا أخي.. بنات.. إنكليزيات زي القُمَر..). هذه بدعةٌ جديدة تختلف كثيراً عن حجج عبد الحميد، ولكنني لم أفهمها جيدا، فاستوضحته: (ما بهن البنات؟) فقال وهو يميد بجسمه ورأسه، ويفتح ذراعيه: (لا أستطيع الصوم وهن يحطن بي من كل جانب).

لم أستطع  إخفاء غضبي من هذا المنغمس في الملذات. فانهلتُ عليه بعبارات، كثيرها من النوع الجارح. حتى لاحظتُ تغيّراً واضحاً في تصرفاته وملامح وجهه. وانقطع عن التدخين، إلى أن ذابت سيجارته وكادتْ أن تحرق إصبعيه، فرمى (مصفّيها) على الأرض وداس عليه بحذائه الجديد اللماع، ولم ينبس ببنتِ شفة، ولم يرفع عينيه في وجهي مطلقاً، وأنا لا زلتُ أمطره بوابل من عبارات اللوم. حتى سمعنا صوت الجرس معلناً بدايـة الحصـة، فدخلنـا الفصول. ولم نلتق إلاّ يوم الاثنين، أي بعـد ثلاثـة أيام. ففـاجأني بالقـول، وهو مشرق الوجـه: (إنتَ فين يا أخي.. والله بحثت عنّك.. كان قصدي أبشّرك..). سألته -وكأنني أكمل معه كلام اليوم الأول- عن البشارة التي يقصد، فاسترسل في حديثٍ فيه شيء من المرارة، ولكنه لا يخلو من الإحساس بالسعادة، حيث قال: (والله يا أخي.. كلامك ذاك اليوم.. قطّع قلبي مثل السكاكين.. وأثر فيّ واجد واجد.. وأصبحت من باكر صايم.. والحمد لله..).

هذا ما حصل بالضبط مع عبد الحميد وعبد العزيز. وشتّان بين الاثنين. فليس العيبُ في من يخطـئ ويتوقف عن الخطأ، فخيرُ الخطّائين التوّابون، وإنما العيبُ كلُّ العيبِ في من يخطئ ويصّر على مواصلة الخطأ. وفي النهاية فأنا -عندما أقوم بهذا الصنيع- لا أدّعي الوصاية على الدين. فالدين له ربٌّ يحميـه مثلمـا حمـى بيته من أصحاب الفيل. ولكنني -على الأقـل- أتحتُ لنفسي فرصةَ اختيار جلسائي في المستقبـل.

مقالات ذات علاقة

“المسرحية” في (شط الحرية)

يونس شعبان الفنادي

مسامير لغرض الإصلاح

المشرف العام

شهيد سوء الفهم

جمال الزائدي

اترك تعليق