وأكاد أجزم أنه أفضل نص أنتجه قلم جزري في القرن الجاري. أحمد فال ولد الدين
هشام الشلوي
مقدمة
من الأفكار اللافتة التي جاء بها إبراهيم السكران في كتابه، التأويل الحداثي للتراث، أن مذاهب النقد الأدبي والفلسفات الحداثية وما بعد الحداثية، هي غير ذات تأثير في العلوم الغربية التي تحتاج إلى التقعيد والضبط، كعلم القانون، فلا الهرمينوطيقيا ولا أي مذهب أدبي ونقدي مائع استطاع أن يغير في قواعد ودراسات القانون، الذي يستلزم منهجه تحديدا وضبطا للأنشطة وتفسيرا محددا ومعقولا.
وهذه الفكرة التي أسقطها السكران على علم من العلوم الإنسانية وهو القانون، جديرة بالتأمل، إذ أنها تؤكد أن هذه المناهج الأدبية والفلسفية لا تصلح عند اختبار الوقائع المحددة والتي لا يمكن فتح فضاء التفسير والتأويل أمامها بدون أفق.
كما لاحظ السكران أن المذاهب الأدبية والفلسفية الحداثية وما بعد الحداثية، هي من نوع الموضات والتقليعات، التي يهدم بعضها بعضا، ويُنسي بعضها الآخر، في متواليات لا تتوقف، أما العلوم الإنسانية المبنية على محدودية التفسير والتأويل، فإنها تتطور ولا تتغير بالكلية، ولا يهدم بعضها البعض، كما هدمت البنيوية ما قبلها، ثم هدمت ما بعد البنيوية، ما قبلها، والتفكيكية فعلت ذلك، وفُعل بها ذلك أيضا.
التوفيد والتسييس كأداتي تفسير
يتضح من كتاب السكران، أنه أجاد قراءة أدبيات المستشرقين، ثم أدبيات المستغربين العرب، وأخيرا التراث الإسلامي العربي. وهدته هذه القراءة إلى استنباط أداتين تفسيريتين بالغتي الحكمة والدقة معا.
أولا : التوفيد الاستشراقي والاستغرابي
من المضامين التي صاغها السكران بعمق، هو مصطلح التوفيد أو حضور الآخر في الذات واستكشاف أثر الوافد من الثقافات السابقة على الثقافة اللاحقة، بمعنى استبعاد أثر الوحي في التصورات الأصلية والكلية، وهو يشير بذلك إلى أسلوب عمل الفكر الاستشراقي والمستشرقين الذين نسبوا النص الإسلامي إلى حضارات ومرجعيات أخرى، بعضها يوناني وبعضها الآخر روماني، أو قالوا: إنها مستوحاة من نصوص العهدين؛ القديم والجديد، أي التوراة والإنجيل.
ثم جاء الحداثيون العرب المستغربين ليستعيروا هذه المقولات الاستشراقية دونما تعديل أو تحوير أو تفكير في هذه المقولات. واستشهد السكران بنصوص حداثية عربية كتبها أحمد أمين ومحمد عابد الجابري وهشام جعيط وعبد المجيد الشرفي وغيرهم كثير.
وفائدة كتاب السكران أنه لم ينقل المقولات الحداثية العربية المستغربة وحدها منبتة الصلة عن غيرها، بل أرجعها إلى شجرتها الأم، ونسبها إلى أصحابها من المستشرقين الأوروبيين. ووصلت فضحية مقولات الاستشراق التوفيدية، إلى حد نسبة المستشرق هنري لامنس، بكاء أبي بكر الصديق رضي الله عنها وأرضاه، حين سمع موعظة من النبي صلى الله عليه وسلم، إلى تقليد مسيحي.
فبعد أن سلب المستشرقون القرآن والحديث النبي والشعر الجاهلي والتقاليد العربية، وربطوها كلها بمنظومات وحضارات سابقة، ما بقي أمام المستشرقين إلا الشعور والعاطفة ليخطفوهما وينسبوهما إلى التقاليد المسيحية.
توفيد التوفيد
يلفت السكران انتباهنا إلى أن فكرة التوفيد الاستشراقية ليست حادثة في التاريخ الإنساني، بل هي قديمة، وأنها آلية قديمة استخدمها أعداء الرسل والأنبياء في ردهم وجدلهم، مثل ما جاء في قوله تعالى في سورة الأنعام (حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) حيث أن المجادلين من أعداء النبي صلوات الله عليه وسلامه، ينسبون ما جاء به من الوحي إلى أساطير قديمة، يدعون أنهم يعرفونهم وأنهم على علم بها.
وكانوا يقعدون بطريق من أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليقولوا لهم : إن ما يزعمه محمد ليس إلى أساطير الأولين ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۙ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ فالتقنيات والآليات والمفاهيم كلها واحدة في كل زمان ومكان، تتغير اللغات وتتغير الوقائع، لكن النتيجة واحدة.
التسييس كأداة تفسير للتراث
وهي آلية عمد إليها المستشرقون أولا، ثم استعارها منهم الحداثيون العرب، ترمي إلى صبغ وتلوين التراث الإسلامي الموضوعي من قرآن وسنة، بصبغة سياسية غرضية حزبية تنزع عنه قيمته الأصلية وترده كله إلى تناقض وتضارب المصالح، ومن ثم تطويع هذه النصوص لتلك الأغراض السياسية. كمحاولة المستشرق الألماني ثيودور نولدكه القول في كتابه تاريخ القرآن: إن اختيار خليفة رسول الله، سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لسيدنا زيد ابن ثابت لكتابة وجمع القرآن، كان بسبب صغر سنه، وأنه سيكون بذلك طيع له ومتبع لأوامره، وذلك خلاف لو اختار أحد الصحابة من كبار السن لهذه المهمة.
تعقيب على التأويل الحداثي للتراث
في ظني المتواضع أن موضوع التأويل الحداثي للتراث في كتاب السكران ينتهي عند الصفحة ستة وتسعين ومئة، أي عند الفصل الثالث من الباب الثالث المعنون “مناقشات” وبدءا من الباب الرابع وحتى نهاية الكتاب، فقد أغرقنا الكاتب في نقاشات عقدية مستفيضة، متعلقة بالمعتزلة والحنابلة ومحنة الإمام أحمد حنبل، مع غمز ولمز في حق الأشاعرة.
واستفاض المؤلف في الرد على الجاحظ الذي قلل من شأن محنة الإمام أحمد بن حنبل، حيث ادعى الجاحظ أن الإمام أحمد لم يتعرض للتعذيب الشديد حتى يقول بخلق القرآن، وأن ابن حنبل أقر مرارا أمام الخليفة العباسي المعتصم بخلق القرآن.
ثم أفاض المؤلف مرة أخرى في الدفاع عن الإمام أحمد ابن حنبل وعن صبره وجلده وإصراره على موقفه من فتنة خلق القرآن.
وفي ظني أن المؤلف لو أفاض وركز على نماذج استشراقية أخرى، وأكثر من الاستشهادات منها، وربطها بالمستغربين العرب، خاصة وأنه أبان لنا في كتابه عن قدرته الكبيرة في قراءة الطرفين، أي المستشرقين ومن لهج بلسانهم من العرب، لكان أفيد وأنفع من الغرق في التفصيلات العقدية التي أكل عليها زمننا وشرب.
ولا يغيب عن ذهني أن المعتزلة تحديدا كانوا نماذجا للمستشرقين والمستغربين العرب على حد سواء، من جهة إعلاء شأنهم بوصفهم سدنة العقل في تاريخ الإسلام، لكن الغرق فيهم، خرج بالكتاب عن حد المعقول.
ولست متأكدا حقا إن كان المؤلف له هدف سياسي مكنون وراء هذا التركيز المفرط على محنة ابن حنبل، الذي واجه المعتصم الخليفة العباسي، وثبت على موقفه العقدي من مسألة خلق القرآن، واُمتحن امتحانا عظيما، وثبت في وجه سلطة سياسية طاغية، أرادت نزع اعتراف من ابن حنبل بخلق القرآن.
وكأني بالمؤلف أراد التعريض من ركن بعيد بما يجب أن يكون عليه علماء بلده، أمام السلطة الحاكمة فيها، خاصة أن المؤلف عرّض بمواقف بعض علماء الحديث الذين داهنوا في فتنة خلق القرآن، كشيخ البخاري علي المديني ويحي بن معين. والله تعالى أعلم.