يرحل كتاب “راصدوا الصحراء.. رحلة في الصحراء الليبية” للرحالة الدنماركي “كنود هولمبو”، بالقارئ إلى ليبيا في ثلاثينيات القرن العشرين وهى تحت حكم الاستعمار الإيطالي الفاشيستي، والكتاب صادر عن دار الفرجاني للنشر ومن ترجمة المترجم محمد بشير الفرجاني.
يصف الرحالة كنود هولمبو عبر رحلته المدن التي مر بها بداية من طرابلس ومرورا بالمدن والقرى الصغيرة ، خلال رحلته في الصحراء الليبية منطلقا من مدينة مراكش المغربية، إلى الصحراء الليبية وصولا إلى مدينة بنغازي عبر رحلة شاقة بالسيارة تعرض فيها لخطر الموت، من الحيوانات الشرسة وإلى خطر إطلاق الرصاص عليه ، ولكن لباسه العربي وإتقانه للغة العربية، واعتناقه للإسلام أنقذه خلال رحلته من الموت المحقق، فلقد كان يخبر كل من يلتقيهم من العرب وهو في طريق من المغرب إلى ليبيا بأنه مسلم وهو في طريق سفر إلى مصر ثم إلى مكة لأداء فريضة الحج ولذلك كان يجد ترحيب من العرب البدو في الصحراء المغربية وأينما مر بالقرى والمدن الليبية
الانطلاق من المغرب
في طريق رحلة الرحالة كنود من مدينة غرداية، إلى توغرت بالمغرب التقى بشيخ مغربي حدثه عن السنوسييون في برقة، وحين سأله الرحالة كنود عن السنوسييون أجابه بأنهم أتباع مذهب أوجده سيدى احمد السنوسي، وهو رجل بأس ورع وهدف السنوسيين الأوحد في الحياة ان يصلوا إلى أقصى درجة إنسانية ممكنة من النبل وللوصول إلى ذلك يؤمنون بالقسوة على النفس وكبحها على شهواتها
وحين سأله الرحالة كنود عن عددهم وحجمهم، أجابه الشيخ بأنهم كثيرون في طرابلس وبرقة وإذا كنت ذاهبا إلى مصر فسوف تراهم بنفسك إنهم يحاربون الإيطاليين بشدة
وهذه المحادثة هي وثيقة إضافة للوثائق الكثيرة، التي أوردها كثير من الباحثين وأساتذة التاريخ الليبي حول علاقة السنوسية، بحركة المقاومة الليبية للاستعمار الإيطالي والتي تنفى كل الأكاذيب والتضليل، الذى استمر لأكثر من أربعين بالأعلام الليبي حول الحركة السنوسية في ليبيا والكتب المزورة لتاريخ الحركة السنوسية خلال عهد القذافي
وفى مدينة “توغرت” المغربية يلتقي الرحالة بسكان الكهوف ويصف طريقة حياتهم البدائية البعيدة عن أي مظهر من مظاهر التحضر مستغربا من حياتهم المتقشفة البسيطة.
النسور الرومانية ترفرف فوق طرابلس
في هذا الفصل من الكتاب يصف الرحالة ببراعة ،عبوره المغرب والجزائر وصولا إلى مدينة طرابلس في عام 1930 ويصف الطريق ،بين زوارة وطرابلس بأنها أحسن طريق شاهدها خلال رحلته البرية عبر المدن الليبية، فهي مغطاة بالأسفلت ويصل الرحالة إلى طرابلس في نفس اليوم، الذى تم فيه افتتاح معرض طرابلس الذى يذكر الرحالة بأن القصد من اقامته ،هو إظهار إيطاليا كدولة رومانية في أوج عزها ومجدها فالأعلام الايطالية ترفرف على جميع الأبنية ،والشباب الفاشيستى بقمصانهم السوداء يسيرون منشدين، النشيد الفاشيستي ورسم رأس موسوليني على جميع الجدران وتحت كل رأس وضع شعار : من ليس معنا فهو ضدنا
ويصف الرحالة القسم الجديد المبنى، على الطراز الأوروبي الإيطالي وهو منفصل تماما عن الحي العربي “المدينة ” وعن الحى اليهودي، فهو ذو طابع أخاذ فالأبنية تزهو برخامها ونحاسها والفنادق الكبرى، تمتاز بأبوابها الدوارة ونخيلها ومصاعدها الفخمة والدكاكين الانيقة والحديثة
وبكل هذا السحر يتحدث الرحالة عن البناء المعماري، للاستعمار الفاشيستي لطرابلس وعن الجنود الايطاليين وعن برقة التي يقول بأنها تعيش أحداث عنيفة نتيجة وجود البدو المتمردين الذين يقودون حربا ضد الايطاليين ويتحدث أحد الجنود الايطاليين عن البدو في جبال برقة بالقول ( لقد كنت هناك وانا اعرفهم ،إن البدو يحاربون كالجن يقودهم رجل غريب يدعى الشيخ عمر المختار، وهو عجوز ناهز السبعين، لا يترجل عن جواده أبدا، ينتقل به من مكان لآخر، وحين نظنه في مكان معين ونتهيأ للقبض عليه ،إذ به يتبخر فجأة)ص93
الضياع في الصحراء الليبية
عند خروج الرحالة من مدينة طرابلس، متجها إلى بنغازي تصادفه كثير من المخاطر التي يسردها بأسلوب قصصي جميل، ولكنه لا يمضى في رحلته وحيدا بل يرافقه الطفل الطرابلسي محمد الزنتاني ذو الاثني عشر عاما، الذى يرجوه ان يرافقه كي يسافر للعيش مع عمه في مدينة بنغازي، ويلتقى أيضا بالفندق بطالب أمريكي يطلب منه أن يرافقه إلى بنغازي وهكذا يتجهز الثلاثة، لرحلة محفوفة بكثير من المخاطر لعدم معرفتهم للطريق ونتيجة العطل، الذى يحدث للسيارة أكثر من مرة ونفاذ مخزون الماء والأكل منهم ثم ضياعهم في الصحراء ،إلى أن تأتيهم سيارة نجدة من دورية ايطالية كانت تجول بالقرب من المكان، الذى تاهوا فيه لمدة عشرة أيام كادوا فيها أن يشرفوا على الموت ،ليمضوا في رحلتهم من العقيلة والنوفيلية إلى إجدابيا ثم بنغازي ويلاحظ الرحالة بأن الايطاليين يستعينون، بالإرتيريين ولاوجود لجنود ليبيين بين قواتهم كما في مدينة طرابلس، وحين يسأل الرحالة كنود هولمبو الكولونيل دى رينكو عن سبب تواجد الجنود الاريتريين، وعدم استخدام الجنود العرب بين قواتهم كما في مدينة طرابلس يجيبه الكولونيل بأن “الإيطاليين لا يثقون بهم لانهم يتأخون مع البدو المتمردين ولكن الجنود الاريتريين يكرهون العرب وهم مسيحيون ولديهم عداوة للعرب” ،ويصف الرحالة كنود مشهد الاعدامات اليومية التي يقوم بها الاستعمار الفاشيستي الإيطالي لمن يطلقون عليهم “المتمردين البدو” والتي ينفذها الجنود الاريتريين في ساحة مدينة اجدابيا وبنغازي
بنغازي في عيون الرحالة كنود
يصف الرحالة كنود مدينة بنغازي، التي يصلها بعد رحلة شاقة في الصحراء بأنها(مدينة شديدة الشبه بطرابلس، ففي المدينتين هناك العديد من الساحات العامة التي أعطاها الايطاليون طابعا عصريا، وفى المدينتين ترى الأحياء العربية معزولة تماما عن الأحياء العصرية التي يقيم فيها الغربيين وفى المدينتين ترى صور موسوليني على كل حائط ، وفى كل يوم عند الساعة الرابعة تعزف وفرقة موسيقية وسط حديقة النخيل المسماة “البيرغو ايطاليا” ويجلس على مقاهي ومطاعم الأرصفة الحديثة الايطاليين يرتدون ثيابا انيقة وقد وضعوا الشعار الفاشيستي في عروات ستراتهم )ص193
وفى أكثر من مرحلة من مراحل سفر الرحالة كنود ،يلتقى برعاة من البدو في طريق برقة يحدثونه عن الطريقة السنوسية، التي أصبحت منتشرة بالبلاد ومنها لقاؤه مع تاجر من برقة التقاه وهو في طريقه ،إلى بنغازي وعندما أخبره بأنه رحالة من كندا
ومعتنق للدين الإسلامي فطفق يحدثه عن مؤسس السنوسية وعن تعاليم السنوسية ” إن كل إنسان هنا في برقة يعتبر السنوسي أستاذه ولكن الذين يتبعونه فعلا هم قلة لأن الايطاليين يضطهدون السنوسيين بمختلف الأشكال ص 186
وفى بنغازي يسرد الرحالة ما يقوم به، الإيطاليين من إعدامات لكل من تحوم عنه شبهة مساعدة المجاهدين “المتمردين” ،كما يصفهم المحتل الإيطالي ويصف الرحالة دور غرسياني في القمع، والإعدامات وحالة الرعب والخوف المسيطر على مدينة بنغازي تحت حكمه وفى محاولة، منه للحصول على ترخيص لمواصلة سفره بسيارته الشفروليت برا إلى مصر ومنحه غرسياني ترخيص للسفر بعد حوار وأسئلة مقتضبة عن رحلته في ليبيا وهدفه منها.
المرج مقر الإدارة الإيطالية بالجبل
يذكر الرجالة كنود في كتابه بأن مدينة المرج، هي مقر الإدارة الايطالية في منطقة الجبل الاخضر وهي بقيادة الكومندان ديوديبس، الذي يقول عنه بأنه” أفكاره المسالمة كانت تصطدم بالنظام الديكتاتوري السائد في برقة تحت قيادة غراسياني فلقد كان يتم إعدام ثلاثين شخص يوميا في برقة أي ما مجموعه أثنى عشر ألف عربي كل عام عدا عن الذين يقتلون في المعارك”251
ويصف الرحالة كنود الجنرال الإيطالي ديودييس “بأنه يمتلك قلبا حارا جدا وشعور قويا بالعدالة ورافض للأسلوب البربري الهمجي، في إخضاع ليبيا للاحتلال الإيطالي ولكنه صارحه بأنه لا يستطيع إعلان رأيه، لأنه سيتعرض للقتل بتهمة الخيانة ووصف أسلوب الاستعمار الإيطالي في برقة، بانه فضيع لدرجة أن أي أوروبي تتاح له الفرصة للاطلاع على بعض مظاهره، لابد أن يشعر بالخجل لانتمائه للجنس البيض فهم يشنون في هذه البلاد حربا عنصرية تتسم بأشد الأشكال بربرية ” ص252
معسكرات الاعتقال الايطالية
يقوم كومندان المرج بنقل الرحالة إلى معسكر اعتقال البدو الذى تم انشاؤه على أطراف مدينة المرج ويبعد عنها بحوالي ميلين ويصفه بأنه” معسكر كبير يضم أكثر من ألف وخمسمائة خيمة يقيم، فيها قرابة ثمانية الاف نسمة ويحيط بالمعسكر سياج من الأسلاك الشائكة وهناك مدافع رشاشة، منصوبة على كل مدخل واقترب الأطفال من سيارتنا وهم يلبسون الأسمال البالية، ويعانون الام الجوع وكان البدو في حال لا تصدق من الحرمان والعوز وكانوا يربطون بعض الجلود على أقدامهم وكان كثير منهم يعانون المرض والشلل وبعضهم كان يسير زحفا “ص 266
وواصل الرحالة كنود رحلته من المرج إلى درنة، وفى طريقه إلى درنة يقع في الأسر بين يدى المجاهدين الذين كادوا أن يقتلوه في البداية، ولكن حين تحدث معهم بالعربية وأخبرهم بأنهم مسلم ،طلبوا منه أن يتلوا آيات من القران كي يثبت صحة إسلامه ويصدقون بأنه مسلم، ويقوم الرحالة بتلاوة سورة من القران فيعجب المجاهدين به ويقومون بإطلاق سراحه، وأخذوا منه وعد بأن يلتقى بالأمير ادريس ويوصل رسالة لهم منه عندما يصل إلى مصر ووعدهم بتنفيذ طلبهم
السجن والأبعاد
عندما وصل الرحالة كنود إلى درنة تم توقيفه ،من الإدارة الإيطالية بناء على أمر إيقاف وصل إليهم من الجنرال غراتسياني، في بنغازي ومنع من السفر برا إلى طبرق والدخول إلى مصر وتم سجنه ،مع مجموعة من المجاهدين المحكوم عليهم بالإعدام ثم قاموا بإرجاعه إلى مدينة بنغازي، وأمروه بالسفر إلى الاسكندرية بالباخرة وانتهت رحلته بالسيارة التي كان يزمع مواصلتها ،إلى مصر وقدم احتجاج للإدارة الايطالية على ذلك ولكنها رفضته ويقول الرحالة كنود بأنه ” تنفيذا للعهد الذى قطعته لأصدقائي البدو الذين أسروني في الجبل توجهت لمقابلة الزعيم السنوسي في الاسكندرية ويصف لحظة دخوله على الأمير إدريس السنوسى “بانه كان كهلا يرتدى الزى الأوروبي باستثناء الطربوش وبادرني بالقول: لقد كتبت على بطاقتك بانك قادم من برقة ؟ فأجبته أجل فقد زج بي الإيطاليين بالسجن وأنا أحمل اليك تحيات من بعض أنصاركم” ص387
وأخبره بإن الإيطاليين قاموا بأغلاق جميع المساجد السنوسية في برقة ومنعوا تدريس التعاليم السنوسية، ودار حديث طويل بين الرحالة والأمير إدريس السنوسي حول الطريقة السنوسية ومضمونها وأهدافها، ثم زوده برسالة كي يوصلها للمجاهدين في الكفرة إذا قرر السفر مرة اخرى إلى ليبيا
ويذكر الرحالة كنود بأن الأحداث تعاقبت ،في مصر مما اضطره للعودة إلى بلاده الدانمارك وتخلى مؤقتا عن فكرة العودة للكفرة والحج إلى مكة كما كان يزمع من رحلته ويبدو أنه كان للأقدار رأى أخر، حيث يذكر كاتب مقدمة الكتاب ج.ه.دريبرغ بأن الرحالة كنود هولمبو توفى في التاسعة والعشرين ،من عمره دون أن يكمل ما كان قد خطط له من رحلات أخرى في حياته ،وكانت رحلته إلى ليبيا التي كتب كثير من تفاصيلها في كتابه “راصدوا الصحراء” معبرة عن الحالة التاريخية والسياسية والاجتماعية للبلاد في ثلاثينيات القرن العشرين تحت حكم الاحتلال الإيطالي ويعتبر الكتاب وثيقة تاريخية وسياسية عن تلك المرحلة من التاريخ الليبي كتبت بأسلوب سردي ممتع وجذاب.