المقالة

عثرات المطيع

11 سبتمبر.. من أعمال التشكيلي صلاح بالحاج
11 سبتمبر.. من أعمال التشكيلي صلاح بالحاج

عتبات تملأ نفس المطيع:

يمتاز الإنسان المطيع للسلطة من دون نسيان أو ملل بالتماهي معا ومُحكاة خطابها حتى يظنّ بأنّ لا شيء مطلقاً يصل إلى مقامها الأبداعي الذي لا يضاهى أو مواقفها الحاسمة أو خلودها الأبدي ساعياً بكل جهد جهيد إلى التقليل من الشأن كلّ من يختلف معها ويعاديها، بل وكل من يتجرأ أنْ يرميها بسهام نقده حتى بمجرد الغمز، ولا يقبل العبث بسلطتها أو العدوان على كيانها، فهو لا يسمع أو يصغي إلا لهذه السلطة مفتوناً بها حتى الثمالة فهي الحق المنتصر وحلم القوة، مُتحيزاً لخطابها وعلو صوتها الخالي من التأمل العملي والجاد، عاكفاً في استمرار دائم لحمايتها، ساكناً تحت هيمنتها ذهنياً وعاطفياً، لا يشك في أمرها ويتصدى لمن يخالف حقها وذلك من خلال قدرته الفائقة في تقبل الصنعة الرديئة المبتذلة من الشعارات البالغة التأثير وما تنطوي عليه من إسرافٍ في الخصومات المتطرفة والمفتعلة التي تقفل الآفاق الواسعة امام الناس في مجتمعه ومحيطه فهي بالنسبة له تمثل ضمير الأمة وعلى الناس أنْ يعترفوا بها ويخضعوا لها، وذلك من دون أن يرفع صوته بسؤال ناقدٍ واحدٍ لكي يكون خارجاً عن خرافتها وسطحيتها ومراميها البعيدة، فهو راضٍ بما قسمه له النظام السياسي الثقافي “الثوري”  وفصّله على مقاسه لذا يظلّ محاطاً به وفي رعايته في كل خطوة من خطواته، وقد أَلف ذلك واعتاد عليه وستأنس به وهام في حبه وعبادته خاضعاً للتذلل والعبودية لهذه السلطة ظناً أنّها تعطيه القوة والمنعة والعزة  حتى ينتهي به الأمر إلى الأقنية الراكدة. غاية الدهاء أنّ من يشك أو يرتاب في هذه السلطة المقدسة فهو: “خائن عميل”!

أسر الإرادة وكلمة السّر:

لا ريب فهذا الانسان عرضة لأنْ يكون ضعيف الرأي قليل المعرفة بما له وما عليه بسبب غياب رؤية متكاملة لدى مؤسسات “الدولة” ووظائفها الأجتماعية في عصرٍ تصطرع فيه قوى كثيرة ويشتبه فيه مغزى العدل والمساواة بين جميع الناس في المجتمع . فهو انسان مسلوب الأرادة والاختيار الحر والتفكر المستقل، طغت عليه هالة “القائد” فجعلته تكراراً من بعد تكرارٍ تحت الظلام المغري يعيش في حالةِ نشوةٍ مُستمعاً إلى هدير ذلك “القائد” المندفع دون ضابط  حيث عندها يدفعه الأمل للدنو من حاشيته والوصول إلى مغانم كثيرة لوّحت له السماء بها من منصب ومال دون معرفة السبيل الواضح العادل إلى اكتسابها غير التوهيم المستمر والغفلة، فكلمة القائد هي كلمة السّر وهي مفتاح سائر الفنون في التضليل والتحريف، فتظلّ صوره الفاقعة هي الدليل على التحدي الكامل لكل الناس الذين خرجوا عليه وثاروا ضده وعاجزين على التفريق بين الحق والباطل وبين النار والدّخان، ونسوا أنّه ظلّ يعيش في اذهان الناس هذا الزمن المديد، ليس هذا فحسب بل يظلّ بطلعته المتنوعة التي يحفها غموض جليل  سارياً في الأفاق وبين الروابي والوهاد، قادماً من عمق التاريخ  على أكفّ العاصفة الهوجاء حاملاً أعلام الفتوحات الوهمية وبشائر “الفاتح” الجديد نجماً متألقاً لا يخاف من أحدٍ ابداً، وفي  أمر عودته لا يشك المطيع .

التحيز التام للاتجاه المتعرج:

فالسلطة المعبودة المبثوثة في الوجدان تُحسن إلى “المواطن” الملهوف وتغدق عليه بسخاء كلّ منافعها وكرمها الزائد كما في المقولة فاتحة الشهية “البيت لساكنه”، الذي حلّل السرقة  واللصوصية في وضح النهار حتى وإنْ كان على حساب مواطن آخر أفنى العمر في بناء ذلك البيت والعناية به،  فحرمان هذا المواطن من رزقه وثمرة تعبه ومن حقه في التملك والتصرف في ملكه لا يعيرها المواطن المطيع الذي أتبع طريق “القائد” أيّ أهتمام كأنه يستعجل زوال النعمة عن المالك وحرمانه منها والتفنن في ارتكاب جريمة غير أخلاقية وغير شرعية بلهفة مجبولة على الظلم والفساد براحة الضمير تفوق جوهر الظلم. لأنه أنسان مطيع فقد نعمة التفكير السليم وقدّس عقلية “القائد” الخالية من العدل والتوجيه العادل. إنّ المطيع في هذه الحالة يغذي وجوده بالذلة.

القبول التام لعنصر الهدم:

وفي المجال السياسي لا يكون المطيع جزءاً  من الطاعة وحسب، وذلك بعد أنْ أزالت السلطة من ذهنه نعمة التفكيروالتبصر في الخير وشؤون السياسة الجديرة بالتمعن والتدقيق، بل يصير عنصراً وسط الظلمات فعّال في خلق مزايا الطاعة وتدشينها وتركها تجوب ارجاء البلاد باعتبارها انصهاراً في حلم “العدل” والقوة والحق المنتصر الذي أجازه “القائد”، عندها يجدف دون رادعٍ  ودون توقف في التخريب مُغتراً مُعتزاً بظاهر العبارات البريئة المشحونة بالإلهام الانتهازي، غير مُبصرٍ لنتائجه الردئية  وعدم الأنصاف الكامن فيها مع غياب العدل والحق القانوني فيها  كـمثال  للمقولة البائسة الموصولة بالظلم في اعلى مراتبه: “شركاء لا أجراء” التي فتحت أبواب الزحف “الأخضر” الجرار للسطو على منشآت الناس وحرمانهم من مصدر رزقهم بدون حسيب ورقيب. إذ ذاك أختلط التهريج والغش بالفعل السياسي وتلاشت الحدود فيه ما بين ما هو قانوني وبين ما سطو ولصوصية.

“في الحاجة تكمن الحرية”:

وإذا اطلق “القائد” العنان للشرأو أمسك فهو يدرك أنّه من طبيعة البشر وأنّ البناء عليه بكل خدعة زائفة كانت أوحيلة ذكية أو رديف لها تقوم على عاملي الخوف والحاجة كما في مقولة “القائد” الشهيرة التي تقول: “في الحاجة تكمن الحرية”، بالإضافة إلى الطمع في نعماء “القائد” ذاته والتملق له سعياً إلى تراكم النفوذ الذي يؤدي إلى مكانة ومنزلة رفيعتين تصدر عنهما الهيبة والجبروت لاستغلال الناس واذلال الآخرين لا سيما في السلم الاجتماعي الذي شيّده ” القائد” عبر السنين الطوال وغدر الزمان. المطيع صار يعبّ الحياة بشغف وقوة وراحة ضمير وأمسى ينقل عدوى هذا الشغف لمطيع آخر فاتحاً أبواب السرقة واللصوصية. أما “القائد” فحسبه أنْ يظل هو المفتاح الأساسي للدخول في عالم الطاعة والبريء من كلّ تفصيلاتها.

الأثر القوي لخطاب “القائد”:

أما البلاد فهي متسع فسيح للطاعة وللأطمئنان مأسورة في فكرة البطولة على نحو “يا قائد ثورتنا على دربك طوالي… غالي لشعبك غالي” ومن خلال قوة الأيام والأحداث يظهر عليك  “القائد”  مثلاً في جمهوره معلناً الغاء القوانين في البلاد وفي اعلان “الثورة ثقافية” على مسمع من كل رواد الثقافة في البلاد، تصطرع فيها القوى تشبثاً بالسلطة، ثمّ وبثقة عالية يزمجر بأعلى صوته تعبيراً عن القوة والمناعة غاضباً محارباً النظام السابق حتى بعد أنْ قطع أنفاسه وهزمه هزيمة نكراء وإلى الأبد يزمجر بأعلى صوته: “دوس على الرجعي والخائن” فتصير بقدرة قادر أغنية “وطنية” تملأ الأسماع بلحنها البديع حرصاً على كلمات ” القائد” وتجسيداً لفكره “المهيب”، بينما المطيع وسط ذلك الجمع الغفير منتشياً بسحر كلمات القائد يستمع لها ويصيح صارخاً، هاتفاً “بالروح والدم نفديك يا قائدنا”، في حين يتلقى كلمات الخطاب ثمّ يردّد نفس المقولة كناية في العهد السابق وأنصاره المهزومين في الأغوار البعيدة.. ليس هذه فحسب.

كلمات تحفل بالغلو وتفرط فيه:

نعم مطيع آخر متفتح القريحة خاض معركة  كلمات “القائد” بالترنم بها من باب الحبّ في الطاعة والتعبير السخي لكلمات “القائد” الساحرة الملئية بالعداء الصخاب “للعهد البائد” وتذاع كأغنية يستمع إليها المواطن المطيع أكثر من عشر مراتٍ في اليوم  ويسمعها الشعب في مكبرات الصوت في الشوارع والميادين وفي البيوت والحقول والجامعات، فإنْ حدث وقال القائد المُبدع  “أكرم الرجعي”، فالمطيع سيقول مرددا دون وعي : “أكرم الرجعي” كما يريد “القائد التاريخي” وما على المطيع سوى الترديد العمياني؛ قائدٌ من صفاته أنّه لم يعرف يوماً كيف يعمل على تحصين كرامة الشعب ومصالحه العليا للعيش في وطن يزدهر ويتطور رغم جميع رطانته المدوية عن العدل والمساوة، أليس عجيباً أنْ يستأنس المواطن المطيع للذائذ الهلكة والتدمير منافحاً عنها لا يستطيع التخلص منها ؟ بل كيف مازال يستمتع بالانكسار بعزيمة وإصرار وكأنّه رافض الانفتاح على الحياة ؟ 

السؤال بين الحيرة والشبهة؟

  • فهل هذا الإنسان، الذي أقدم على تقبل وتكرار ما يقوله “السلطان”، يؤمن فعلاً بما قيل له وشاهدته واستمع اليه وبكل هذه السهولة من دون أيّ اعتراض أو سؤال واحد يرفعه في وجه ما يقوله سواء هذا ” القائد المُبدع” أو أية قائد آخر على وجه التقريب؟
  • هل ذهنية هذا المطيع خالية من التفكير والتأمل فيما يستمع إليه أو يقرأه أو يشاهده عبر وسائل الإعلام أو عبر أيّ وسيلة أخرى كمواقع التواصل الاجتماعي في هذه الأيام المليئة بالتنافر والتباعد فهي تشبه الماء الذي يفر من البنان؟
  • هل هو مسلوب التفكيروالإرادة والتروي والتمحيص والفهم ومن ثمّة ترك للسلطة تفكر له ونيابة عنه وترك ” للقائد” ولهذا التفرد العجيب في سلطانه حيوية التفكير والإغراق في الغفلة حتى وجد بعد أنْ الزمن فن تاريخه أنّ أمانيه عاث بها التخبط كسراب في بيد قاحلة.
  •  وأن الوطن يعجّ بالرطانة الهوجاء، بمعزلٍ عن ايامه العسيرة وما اصابه من وهن،  في مهاجع ” النت” وفي مهاجع الفراغ الوطني الهش والدعوة إلى نهب المال العام والتمادي في نهبه وسرقته بكل السهولة بل وفيض من الاستهتار والضياع.
  • ففي وسط الزحام هذا والعبث بمستقبل الأجيال القادمة ومستقبل البلد الذي يُساق دون بصيرة إلى المجهول؛ ففي شؤون الكلمات نكاد نستبين بأنّ: هذا البلد في خطر ومُهدد بإهماله الواضح وتركه مفتوحاً للعبث وعقوق الزمان والركض خلف التوهم من أجل التعلق بوهج “القائد” والتعجيل بعودته دون يلتفت هذا المطيع إلى إنّ هذه العودة هي مجرد ظنون وأحلام تتدافع كي تقفل أبواب التأمل العملي المفتوحة أمام هذا البلد كي ينمو ويزدهر وهو مطمئن في اتجاه العناية والتحرر من الركود الطائش وليس المهلكة المحققة.  
  • أليس في غياب الإرادة الجماعية “الوطنية” تغيب” الدولة العصرية “وتغيب مشكلة الحياة ذاتها؟ عافية البلاد رهينة بالتصرف بمنطق العقل والتعقل وليس بالانغلاق والاستخفاف المتكبر، فإنّ العافية هذه ليست مزحة ولا يمكن تجاهلها فهي تزكي في انفسنا الأختلاف بين أطوار التاريخ المتفاوتة والثقافة العميقة والعرف النبيل وتزكي في عقولنا تذوق الحرية والتسامح وبناء طبائع الفضيلة والتباهي – بكل الحق – بالوطن.

مقالات ذات علاقة

كلام عن البداوة والسياسة في ليبيا

عزالدين اللواج

سَقِيفَةِ الإيْطَالِيْ

يوسف القويري

أنـا مراهــق

عفاف عبدالمحسن

اترك تعليق