المقالة

سُؤالُ السلامِ النسوي

عنّ ببالي أن أطرح أسئلة مشروعة – وكنتُ أمضيتُ ما يُقارب العقدين في الانشغال بتوثيق سيرة مغيبة للمرأة في بلادي -، حول حزم المواثيق والمعاهدات واللوائح والعهود والتشريعات المُصادق عليها، والتي عليها ملاحظات من بُلداننا عبر تقارير الظل التي يشُوبها ما يشُوبها من تلفيق واخفاء للحقيقة (ليبيا نموذجا)، تلك المُراجعات والاقتباسات التي تُدلل على منشد السلام والأمن العالميين، والتمكين السياسي، ومناهضة العنف، والتمييز الايجابي، ووو… ألخ، جميع ما راج كنداءات وشعارات وتحديدا في الحقبة التي تلت تأسيس عُصبة الامم المتحدة وبالخصوص أيضا عقب الحربين العالميتين الاولى والثانية، عنّ ببالي أن أتساءل: هل من دونتُ سيرتهُن عرفن كل هذه الحزم الدولية أو عملن من خلالها؟ أم أن من شرعوا كل ما سبق ذكرهُ هم من عانوا من سياسات مُناهضة مُثقلة بثقافة ذكورية تعادي حضور المرأة؟، أم أن الحروب التي خاضتها بعض من دول العالم الكُبرى انتجت تلك العداوة والتمييز؟، أم أن ما جرى من تقييد ذهني وجسدي واجتماعي كان جراء التحول الى المجتمع المديني الصناعي؟

غلاف كتاب_نساء خارج العزلة

سنتذكر أنه عبر تكون مجتمعات الشرق (العربية – التركية – الايرانية) مما درسنا في نظريات الاجتماع وعلم الانثربولوجيا ولاحقا بالنسبة لي مما طالعت أو قاربت في لقاءات مباشرة مع سيدات فاعلات رائدات وحواريات في أنحاء من بلدي بعضهن خرجن من مجتمع فلاحي ورعوي وفي هذا المجتمع كُن ندا للرجال يتقاسمن الحياة وهن مُضطلعات بأدوارهن الاجتماعية والاقتصادية داخل خيامهن او كهوفهن أو بيوت الطين (الانثى هي الأصل)، كن صانعات للأستقرار مُثبتات لقيم السلام والأمن، من دونتُ وووثقتُ سيرتهن كن قد نهضن من بواكير القرن الماضي وفي لحظة الفعل كن فاعلات وفي ساعة الدفاع عن النفس والمبدأ كن مُدافعات.

ما في جعبتي أثناء اشتغالي في توثيق نهضة الليبيات والتي رافقها بالتوازي عملي الاكاديمي (الانثربولوجي – السيسيولوجي) كانت مقاربتي بأجمعها نسوية، من نساء النهضة الليبية الى راويات القصص الشعبي، كنتُ جالستُ لساعات نساء فاعلات في الزمن الصعب ومن ذلك كان ما عنونت به كتابي: (نساء خارج العزلة) و(حاملات السر)، ولا اذيعُ سرا اذا ما قلت أني لم اشعر بفارق السعي والانتماء للحياة من حيث المبدأ بين رائدات النهضة وسيدات الواحة نموذج راويات القصص الشعبي، فعند سماعي وتسجيلي لمسيرة  بعض من رائدات العلم والعمل والفن والثقافة والرياضة والنضال السياسي كان مبدأهن حُب العمل والايمان به هما معنى الوجود لديهن، وارادة الفعل كذلك، كانت القصص المُفارقة التي سمعتها من سيدات يُمثلن لي جدات وأُمهات.

قالت لي الراوية (أمنة على ددو عمرها 74 سنة) عندما كنت أذهبُ الى المدرسة الايطالية في واحتي بالجنوب الليبي رفقة أبناء الجيران من الذكور ورفيقات من واحات مجاورة، وندرسُ في فصلنا المشترك، كنا نمرُ على قلعة يُعسكر بها الايطاليون وقبلها الاتراك اللذين لم أرى نسائهن!، ولاحقا الادارة الفرنسية في الاربعينات، كنتُ أُشاهد سيدة ايطالية وابنتها، السيدة تتشمس وتجلسُ على الكرسي ولوقتٍ طويل وشبه يومي، فوق رأسها مظلة وفي يدها مروحة وهي زوجة الضابط من يعمل بالقلعة، كنت أقول في نفسي أنا أذهب للمدرسة أتعلم وأرجع للبيت أُساعد والدتي وأخوتي، وأخرج أيضا الى جداول الخضار وغابة النخيل والى حظيرة شياهنا، أني أعمل بل واُنتج وهذه السيدة تجلسُ في واحتي ولا تفعلُ شيئا، كنتُ أفكرُ في تقوية نفسي لعل الغد فيه أمل أُقوي فيه أبنائي أيضا لذلك كنتُ أحكي لهم الحكايات التي تجعلُ منهم صبيانا وبنات مملؤيين بالأمل والتطلع الى تقديم ما ينفعهم وينفع واحتهم ووطنهم، فمبدأي لا قيمة للحياة بدون العمل.

الراوية (امنة على ددو) هي نموذج لعشرات الراويات اللاتي قابلتهن من واحة براك بالجنوب الليبي وأدينُ لهن بالكثير اليوم وغدا، منهن الراوية نفيسة الزروق (77 سنة) من دافعت عن رفيقاتها حين تطلع إليهن مُتحرشاً جندي فرنسي ومن يومها صار اسمها (الفارسة نفيسه) وهي راوية الشعر وهي الام والحاضنة لأخوتها الاصغر سنا، عملت من أجلهم حتى صاروا رجالا، خروجها وعملها اليومي قياساً بسياقات الزمان والمكان يظل مُلفتاً كانت لا تختلفُ كثيرا عن ما نسميه اليوم (سيدة الاعمال) تنتجُ في بيتها الاكسسورات الشعبية وأطباق الاكل وتعرفُ حساب ما تبيع وما تشتري، وفي زمن يقاربُها كانت السيدة حميدة العنيزي أصيلة بنغازي من وصلت نهارها بليلها ساعة البلاد مُرقمة كأفقر بلد في العالم ترزح تحت الاحتلال الايطالي ثم الادارة البريطانية، وهي من حملت على عاتقها ان تكون جسر العبور لكل سيدة مكافحة، بدأت بالعلم والمعرفة فقد تعلمت داخل وخارج البلد و افتتحت المدرسة والمنظمة المدنية التي استقطبت فيها كل امرأة متطلعة لبناء وطنها في زمن العزلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حميدة العنيزي من شجعت السيدة خديجة الجهمي لتكون الصحفية والرائدة الاعلامية ومسؤلة أول مجلتين في تاريخ البلاد عن المرأة والطفل، عدا مشروعها التنويري الاصلاحي عبر قيادتها لجيلين من النساء، وكانت عائشة زريق رائدة التنمية الريفية في شرق البلاد، ثم مُساعدتها لاول رائدة في غرب البلاد لتصير صنوها، عائشة كانت تكتب للصحافة وتُعد البرامج الاذاعية وهي المعلمة وسكرتير جمعية النهضة النسائية، من ضمن جهودها وهي تتنقل في الارياف أنها لم تكن المُرشدة للفلاحات فقط بل كانت تأخذ معها السبورة الوبرية وتعلم الفتيات القراءة والكتابة حين كانت المدرسة الرئيسية مقصية عن المدن والقرى الصغيرة.

سنتذكر السيدة صالحة ظافر المدني من تعلمت الابتدائية في المدينة المنورة كليبية من أُسرة مُهاجرة كما تعلمت اللغة الايطالية على يد مُستشرقة بادلتها تعلم اللغة العربية كان ذلك سنة الحرب العالمية الثانية والطائرات تقصف روما، عقبها عادت صالحة ومباشرة الى الراديو لتذيع بيانها الاول 1947 داعية الفتيات لكسر جدار العزلة، فحتى وإن كانت البلاد معوزة فقيرة فإنه بالارادة والتصميم نخلق واقعا افضل، جمعتهُن وكانت رئيسة لاول جمعية نسائية خمسينيات القرن المنصرم وكانت لها أيضا مواقفها الوطنية الشجاعة، هي المعلمة القدوة لكثير من أجيالهن… هن كثيرات يتزاحمن في الذاكرة اليوم، هل سنتذكر مناضلات السبعينيات في الجامعة الليبية (طرابلس – بنغازي) كن طالبات طليعيات رفضن الزج بهن في ترويج مباديء نظام شمولي ديكتاتوري رفضن ان يكن واجهة اكذوبته في تحرير المرأة، والساعة ساعة تأسيس للبلاد المدنية الديمقراطية، بل ومواصلة لما شرعته الرائدات في نحتهن على صخر الواقع، فاطمة التايب من سجنت نتاج موقفها السياسي وانتمائها الحزبي، فوزية خريبيش من تجرأت ساعة لم يجرؤ احد لتخاطب ديكتاتور البلاد ان يكف سلطته العنيفة عن الحركة الطلابية المُستنيرة،… كيف لي أن أواصل طرح أسماء سيدات الوطن وسيرتهن صانعات حريته وسلامه مُنتزعات لحقوقهن كمواطنات، في ذلك الحديث يطول ولا ينتهي… ولكن والساعة هذه التي نحن فيها علينا أن نعرف وندرك أننا لسنا الاوائل ولسن فقط من شق عليه المسير عبر طريق صعب، ولعل ما حققتهُ النساء منذ تحول فبراير 2011 سيكتبهُ التاريخ لهن منذ المشاركة النضالية لحظة الثورة ثم المشاركة السياسية التي سجلت حضورا في مقاعد برلمانيها ولجنة دستُورها اذا ما اشرنا الى جهود في مغاربية نسوية تدعو للمناصفة وهو ما ادرجته اجندة الامم المتحدة لعام 2030، لذلك يجذر بنا المثابرة والعمل مادامت التشريعات واللوائح والمواثيق الدولية معنا وايضا العالم ومُتغيراته ففيها ما يزرع الامل بأن النساء صرن في الواجهة رئيسات حكومات ووزيرات و شاهِدُنا بارز كمثال في اكثر من جزء من العالم (الافريقي والاسيوي واللاتيني)… يا نساء العالم واصلن المسير لعل الطريق طويل وعسير ولكنه سيكون في طوعنا لو ملكنا اقداما راسخة وعقلا يحمل مشروعا يُثابر عليه وبمزيد من الوعي المعرفي بالحقوق المتمثلة في التمثيل النيابي والسياسي والقضائي، وبالنسبة للسلام والامن فلم تكن النساء في تاريخهن غير رديفات للسلام اينما حللن وأقمن ولن يحل سلام دونهن.

_______________________

(*) مداخلة جرى إلقاؤها بالاحتفال السنوي بيوم المرأة العالمي الذي أقامه مكتب تمكين المراة – بعثة الامم المتحدة بليبيا (يوم 9 مارس 2016 تونس).

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

فضيلة الكلام

عادل بشير الصاري

تلك آثارنا تدل علينا .. فانظروا بعدنا إلى الآثار

المشرف العام

مسرح ليبيا الشنابو

عبدالوهاب قرينقو

اترك تعليق