حوارات

نجوى بن شتوان: الكتابة مشيًا على أنغام «كونشيرتو قورينا إدواردو»

حاورها: حيدرة أسعد

الروائية الليبية نجوى بن شتوان (الصورة: عن منصة تكوين)
الروائية الليبية نجوى بن شتوان (الصورة: عن منصة تكوين)

ح. أ: قرأت روايتك الأخيرة «كونشيرتو قورينا إدواردو» وقد لا حظتُ أنها ارتكزت على عدة محاور سنحاول أن نتطرق لها. في البداية، يمكن أن يوحي لنا الضمير السارد بمحاولة لاستثمار الذاتي في الكتابة التخييلية، فهل اعتمدت في هذه الرواية على سيرتك الذاتية أم اعتمدت على تأريخ المعايشات التي ليست بالضرورة ذاتية؟ وكيف تنظرين إلى الكتابة التي تنهل من السيرة الذاتية، خصوصًا مع التنامي الملحوظ لتقديرها ومقرؤيتها مؤخرًا؟

ن. ش: الكتابة تنهل من الذات حتى وإن لم تكن سيرة ذاتية مباشرة، هناك سير ذاتية بمثابة قطع فنية رائعة في عالم الأدب، مثل سيرة الشاعر الأمريكي تشارلز سيميك وسيرة المخرج السويدي انغمار ويتمان والممثلة النرويجية ليف أولمان والشاعر الأمريكي بوكوفسكي وغيرها..

على الرغم من أن كتبتها ليسوا بروائيين، غير أنهم كتبوا سيرًا بديعة حوت جوانب شخصياتهم المجهولة وتجاربهم الإنسانية ولحظات هبوطهم وصعودهم.

تنجح كتابة السير كلّما شفت وصدقت ونأت عن التصنُّع والاختلاق والطوباوية.

في هذا السياق تقترب «كونشيرتو قورينا إدواردو» من أن تكون سيرة جامعة كان مناسبًا لها أن تُروى بالتماس مع سيرتي الذاتية دون فصلها عن المعايشات كما لو كنت أنا والآخر توأمين.

ح. أ: في هذه الرواية الكثير من السياسة، الكثير من الحزن، والكثير من الفاجعة. هل أردت كتابة رواية سياسيّة؟ وهل تشعرين بنوع من المسؤولية نحو الكتابة الملتزمة بالتاريخ الليبي الحديث؟

ن. ش: لا أقرر عادة نوع الرواية التي أكتبها و لا تصنيفها، أقرر كتابة ما فكرت به فقط وكيف أكتبه. فإذا ما احتوت الرواية على ما يجعلها سياسية ذلك أن لا شيء مفصول عن السياسة في وجودنا الكلي، السياسة متغلغلة فينا ولا أحسب أن شيئًا خلص منها.

التاريخ الليبي الحديث لم يُكتب في أعمال روائية معتبرة ومؤثرة. من هذه الناحية هو مصدر بكر وثريّ لمن أراد الاشتغال عليه بحنكة واقتدار، لكنني رغم ذلك لا ألزم به نفسي كمصدر أوليّ للكتابة.

ح. أ: كيف تكتبين الرواية؟ أقصد هل بإمكانك أن تخبرينا كيف تتحول لديك الرواية من شكلها البدائي كفكرة وهواجس إلى نص مخطوط؟

ن. ش: أكتب الرواية مشيًا قبل أن أكتبها قعودًا. إذا اقتنصت فكرة ما خلال المشي تصيبني فرحة غامرة، أقلّب مدى صلاحيتها للسرد، أسردها لنفسي أولاً وأنا هنا أشكر اختراع سماعات الهاتف لأنه يحميني من فضول النظارة بينما أكلم نفسي بصوت مسموع.

هناك أفكار قابلة للسرد وهناك أفكار جميلة لكنها مثل الأحجار التي تتفتت عند النحت. إذا ما برقت الفكرة في ذهني وساندها حدسي فإنها ستتطور خلال كتابتها وقد تخالف المخطط الأساسي لها لاحقًا، بل من الجيد أن تخالفه ليثبت لي أنها فكرة نامية تتدحرج و تتحول حتى تصل منتهاها.

أكتب نصوصي عدة مرات ولا أبالغ إذا ما قلت بأن التعديل لدي يستمر حتى والكتاب في المطبعة. لا أمل أبداً من التعديل. بل ليتهم يدعوني أعمل في المطبعة حين يكون كتابي هناك.

ح. أ: اخترت عائلة ليبية، فيها الكثير من التنوع والشتات، أفرادها من أجيال مختلفة، نرصد التغيرات التي تطرأ على يومياتهم متأثرين بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي. تتمحور القصة حول الشقيقتين التوأمتين التي ستسرد إحداهما القصّة بصوتها الأول. لوهلة، يذكرنا ذلك بمتوالية معهودة في الأعمال الكلاسيكيّة، هل يمكن أن نقول إنّ هذه الرواية حرصت على الانطلاق من فكرة العائلة لتصوير التيه والتفكك والانسلاخ الذي حلّ بإنسان العالم المعاصر؟ في زمنٍ هو الأثرى بالحروب والمآسي والاغتراب؟

ن. ش: ليبيا بلد متعدد الأعراق وما صنعها عبر تاريخها المديد هو التعدد الذي منحها إياه موقعها الجغرافي. سيرة العائلة في هذه الرواية غير منفصلة عن الجغرافيا والتاريخ، عن سيرة الوطن الذي هم جزء منه وبالتالي هم جزء مما يحدث فيه من حوادث وتغيرات، بقوة السلطة أو بقوة السلاح، بقوة الانتماء له أو بضعفه. العائلة هي المرآة التي انعكست عليها جميع الوقائع. جزء من الكونشيرتو الذي عزفته ليبيا مع نفسها ومع المتوسط الذي تنتمي إليه.

ح. أ: تقولين إن الكتابة ولدت معك ولا تستطيعين التخلّي عنها. هل تنظرين إلى الكتابة كمشروع حياة؟ وهل ترينها وفيّة بما يكفي؟

ن. ش: ولدت الكتابة معي كما الوحمة في جسدي. كما عينيّ اللتين ترى إحداهما ما لا تراه الأخرى. كل سبيل مغاير اتخذته في الحياة أعادني إليها، كأني إذ مشيت من درب مغاير عدت إليها. كأنها الطريق الآخر الذي قال عنه الشاعر الأمريكي روبرت فروست:

“طريقان تشعّبا في غابة

وأنا اتخذت الطريق الذي لم يسلك إلا قليلًا

وهذا ما صنع كل هذا الاختلاف”

ح. أ: رأيت اللغة في «كونشيرتو قورينا إدواردو» ذائبة في صميم النص، مندمجة إلى حد كبير مع الشخصيات والزمكان دون أن تتخلّى عن الجزالة والمتانة وأحيانًا الشعريّة مما ذهب بالنص إلى مستوى جمالي شديد الخصوصية والمراوغة. كيف تنظرين إلى علاقتك مع اللغة؟ وهل تحرصين على توطيد العلاقة بين اللغة والكتابة؟ بعبارة أخرى؛ هل تهندسين اللغة أم تتركينها تتدفق على سجيتها؟

ن. ش: كل نص يختار لغته، يهندسها في داخلي ويضع رتمها، ميزاني لذلك هو حدسي. فاللغة في عقلي كالضوء للصورة، أحيانًا بعض المشاهد يكفيها ضوءٌ خافتٌ وبعضها يشبعه الضوء الحارق. أحيانًا بعض جوانب السرد تضيئها الظلال وبعضها العتمة وأحيانًا لغة مقتضبة أو سوريالية.

ح. أ: ترشحت الرواية إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، وهذا ليس عملك الأول فقد وصلت «زرايب العبيد» إلى القائمة القصيرة للجائزة نفسها عام 2017. كيف تقرأين مشهد جوائز الرواية العربية بشكل عام؟

ن. ش: كثير من الجوائز، قليل من الأدب والمال.

ح. أ: كتبت القصة القصيرة إلى جانب الرواية، وهما جنسان أدبيان يختلفان بقدر ما يتشابهان. برأيك، لماذا باتت الرواية اليوم محبّذة أكثر عند القارئ؟ هل القصة القصيرة أصعب من حيث التلقي والاشتغال حتى قل الاهتمام بها؟

ن. ش: أعتقد بأن سوق النشر هو من يقود القراءة. دور النشر تحجم عن نشر المجموعات القصصية وتحثّ في طلب الرواية. أنا على أي حال أكتبها للمتعة بيني وبين نفسي وقد أنشرها في بعض المجلات المختصة وقد أبيعها لناشر أجنبي يتكفل بترجمتها.

وما الذي يغير السوق؟ مجموعة قصصية عربية تفوز بجائزة نوبل!

ح. أ: كيف هي علاقتك بالشعر؟ ومن هم شعراؤك المفضلون؟

ن. ش: علاقتي بالشعر قديمة وأظنني أميل للشعر العربي في قديمه أكثر من حديثه. أحب الاستماع للشعر ولا أميل لقراءته ولا يروقني الشعر منزوع الموسيقى أو المغرق في الغموض والخالي من بصمة قائله. أحب أيضاً الشعر المترجم ترجمة جيدة. ولا أستثني من الإعجاب الشعر العامي بأي لهجة كان إذا ما توفر فيه ما أحب.

ح. أ: يقول إيتالو كالڤينو: ما المرفأ الذي يمكن أن يستقبلك بأمان أكثر من مكتبة رائعة؟.. ما هي المكتبة الرائعة بالنسبة لك؟ وهل يمكن أن نتسلّل إلى مكتبتك ونعرف بعضًا من الكتب التي لا تكفين عن اللجوء إليها؟

ن. ش: إلى الآن أنا بلا مرفأ، المكتبة تحتاج أرضًا واستقرارًا وأنا بلا أرض وبلا استقرار. مرتحلة من مكان لمكان. كتبي التي تركتها في ليبيا تنام في صناديق قرب شاطئ البحر، ربما تلفت من النسيان والرطوبة وربما سأضطر للقول لأهلي: تخلّصوا منها.

باتت مكتبتي افتراضية مناسبة للتنقل والترحال. تخلصت من أجمل ما معي من كتب. أعطيت فلاحاً في جنوب ميلان كتاب ماركيز «رائحة الجوافة» كنت قد طبعته على الورق لمجرد أنه يجب علي التخلص من الوزن الزائد قبل صعود الطائرة.

فرح الفلاح بالملزمة الكبيرة ووضعها على الموقد قائلًا إنها هديّة ثمينة تساعده في إضرام نيران المدفأة في الشتاء؛ لقد تدفأ الفلاح بماركيز ذلك الشتاء. شعرت بالأسف، لكن طوابير فحص المسافرين في المطار أنستني الأمر.. آخر حقيبة من الكتب تنازلت عنها لصديق يتعلّم العربية.

ماذا لو كان لي مكان، لكانت جدرانه رفوفًا للأدب العالمي… لكتب الفلسفة والتاريخ، لكتب الأنثروبولوجيا والحضارة والتراث العربي والإسلامي وأدبيات الفيزياء وتاريخ العلم. والصوتيات والسينما. لو كان لي مكان.

ح. أ: تقولين: بعد غاليانو وماركيز، لا يدهش عقلي سوى الفيزياء وطريقة خلق الله لليبيين. إذا اعتبرنا رواياتك بمثابة إجابة على الشق الثاني، فما الذي يدهشك في الفيزياء؟ كثيرًا ما يُعتقد أن الأدب والعلم في حرب وعداوة؟ وهل تفكرين في خوض تجربة الكتابة في مجال الخيال العلمي؟

ن. ش: الفيزياء تقوم على الخيال الواسع وأنا أحب الخيال، الفيزياء لا تؤمن بالمحددات ولا بالحدود. حرة ومنطلقة إلى مناطق تتجاوز العقل المنطقي.. تحتفي باللامعقول وتتعايش معه ولا تؤمن بالمحاكمات. أنا أريد مساحة من الوجود لا تنشط فيها المحاكمات.

هل سأكتب رواية خيال علمي؟ ربما توصلني محاولة التجريب إلى هناك. لا أستطيع الجزم.


منصة تكوين | 20 فبراير 2023م.

مقالات ذات علاقة

إبراهيم الكوني: الصحراء وطن الرؤى السماوية وإلا لما كانت مبدع الديانات (2 ـــ 4)

المشرف العام

الكاتبة والناقدة الليبية د. فريدة المصري: الأدب الليبي يحتاج إلى جهود المؤسسات لاستعادة حضوره عربياً وعالمياً

المشرف العام

مفكرة المترجم: مع نجيب الحصادي

المشرف العام

اترك تعليق