عندما أهدتني -مشكورةً- روايتها الأولى (الباغ)، وكان ذلك في عام 2017، كنت حينها في البحرين، وسعدتُ جداً بهذه الهدية…
تأملتُ العنوان محاولةً التنقيب في حصيلتي من لغتنا العزيزة وما وصلت لحلٍ فعدت إلى الجوجل أبحث في مغاليق اللهجة العُمانية ووجدت أنه البستان. وأسعدتني الفكرة، لما لا؟ لما لا نتعرف على لهجات بعضنا البعض.. أبتهجُ كثيراً عندما أقرأ حواراً بين أبطال الرواية باللهجة العمانية وأحاول فهمها من السياق العام للحدث وأنجح في ذلك وأسعد وأمتنُّ للكاتبة لأنني -ككاتبة- أفعل هذا وأراه مهماً لبثّ بعض الخصوصية لروح النص.
ودخلتُ عالم (الباغ) الرواية الكبيرة التي أسرتني ونقلتني لبقعة أحبها من وطننا العربي وزادت هذه المحبة وتعمقت بعد أن تعرفت عليها من خلال ذلك الإنجاز الروائي الهائل.
ثم جاءتني (دِلشاد) أيضاً من البحرين هديةً من بنتي عايدة. وهذه المرة كنت عرفت (دِلشاد) وأخبارها وكانت قد وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2022م.
طبعاً استبقتُ وصول الرواية إليّ وعرفت دلشاد -أحد أبطال الرواية- وهو اسمٌ بلوشي أتعرّف عليه لأول مرة والفضل للكاتبة العمانية الكبيرة الأستاذة (بشرى خلفان) التي أتاحت لقرائها السفر في انثروبولوجيا المجتمع العماني بتعدد سكّانه من عربٍ وبلوش وبانيان وغيرهم واختلاف ثقافاتهم في تلك الفترة التاريخية التي تقع فيها أحداث روايتها (دِلشاد)، وهذه فرصة جيدة للتعرّف على بعضنا كشعوب تسكن هذه البقعة العزيزة الممتدة من الخليج إلى المحيط.
(بشرى خلفان) تكتب نصوصاً عميقة متشعبة الحكايات، متوغلةً في تاريخ بلادها، وفي جغرافيتها، التي تعرَّفنا عليها ومشينا فيها بأعيننا وقلوبنا ونحن نقرأ حكايات الجوع والعطش ومعاناة يوم كامل يعيشونه ببعض كِسَرْ الخبز وحبة تمر وشيء من القهوة.
سلَّمتنا الكاتبة لأبطال حكايتها فتناوبوا قصصهم الواحدَ تلو الآخر، يسلّمون أعمارهم وما جرى عليها إلى قاريء (بشرى خلفان) فيبكي معهم ويضحك كثيراً ويحزن كثيراً، ويفرح كثيراً أيضاً، كل أبطال الرواية يتناوبون قصصهم بعضها من بعض.
دلشاد وابنته مريم ابنة نور جيهان وحفيدته فريدة وسنجور جمعة وحي لوغان بتعاسة أهله وشدة فقرهم وعَوَزهم وبيت لاماه وعالم الثراء والشبع وقصص فردوس وجبروتها، وما مويزي، وعبد اللطيف تاجر السلاح ابن تاجر السلاح والكثير من الوجوه والأسماء. ستتعرف عليهم كلهم وسترتبط بهم، وبخطواتهم على رمال بحر مسقط ومطرح وأسواقها، واختلاط البشر من كل حدب وصوبٍ فيها والاستعمار ما جَرَّه على منطقتنا من ابتلاء.
أحاطت بشرى خلفان بكل هذا فأنجزت ونجحت وأرَّخَتْ لحقبة صعبة من تاريخ بلادها عانت فيها الفقر والجوع وتسلُّط المستعمر وحال الإنسان في هذه الدوامة. نسجت الأديبة بشرى خلفان قصصاً في منتهى الإنسانية فيها الكثير من المعاناة وبعض عواطف خَجِلَة لا يبوح بها أبطالها، وموانعهم لا حصر لها أولها الفقر وتفاوت الحال وليس آخرها التعب، تعب الحياة وتعب السعي اليومي لسد الأفواه الجائعة ورغم ذلك فالقلب ينبض ويرسل الإشارات وقد لا تصل إلى أصحابها.
تركتُ قلبي مع مريم وفريدة جَزِعَاً وخائفاً عليهما لكنَّ الكاتبة وعَدَتْ بأنها عائدة بالمزيد عن سيرتهما، سيرة الشبع هذه المرة.
رواية كبيرة وكاتبتها الأستاذة (بشرى خلفان) دخلت -في رأيي المتواضع- نادي الكبار، كبار الروائيين في عالمنا العربي واسمها بينهم محفورٌ وسيبقى وبكل استحقاق وجدارة، فهنيئاً لها.