د. السهلي بلقاسم | المغرب
[لقد ضحت “أوفيليا” بحياتها من أجل إرادتها الحرة، بطريقة توحدها مع ملايين البشر، الذين يفضلون الموت عن الاستسلام…]
أساطير المتاهة:
لكل متاهة دلالات رمزية وبلاغة صورية، ففي كتاب الأم العظيمة يوحي (أريك نيومان ERICH NEW MANN)* من منظوره النفسي أن المتاهة قد ترمز إلى الإغراء المجهول…
فالمتاهة تكون في أغلب الأساطير مكان غريب وجميل ومشوق ومليء بالمغامرات، إلى حد أن من يدخله يشعر بالإعجاب والدهشة ولا يرغب في مغارته، غير مدرك بأن المتاهة يصعب وربما من المستحيل الخروج منها … وتعتبر متاهة عائلة (مينو تورا MINOTAUR) التي صممها (دايد لويس DAEDALOUS) وهي عائلة من سلالة (باسيفاي PASIPHAE) زوجة الملك ( ماينو MINOS ) سلالة نصف الفرد فيها بشر والنصف الأخر حيوان الثور، من أشهر المتاهات في الأساطير الاغريقية**. يدخل ( ثيسيوبي THISIUBI) المتاهة ليقتل (المينوتور MINITOUR ) وتزوده (اريداني ARIADNE) ببكرة من الخيط ليمكنه استخدامها من معرفة طريق الخروج من متاهته…
لقد كان القدامى يعتقدون أن الأهلة تؤمن إيمانا مطلقا بالأرقام المفردة، متل (3) ومضاعفاتها، ترميزا ودلالتا على الألهات الثلاثة المتنافسات على التفاحة الذهبية. وألهات الحسن (3) وألهات جبل (اولمب) (9) ومهمات هرقل السبعة..
وفي العهد الإغريقي الجديد، قدست ثلاثة فضائل كبرى (العقيدة والأمل والإحسان)، واثنى عشر حواريا و(3) أيام بين صلب السيد المسيح وبعثه حسب اعتقاد الانجيل. وفي الانجيل العبري نقرأ أيضا، عن أيام النبي يونس (3) في بطن الحوت. لقد تكرر كثيرا استخدام الرقم ثلاثة في الحكايات الخرافية، الخنازير الصغار (3) والسندباد واخواتها. ويمثل فعل أكل التفاحة المحرمة في الكتب السماوية، وأسطورة فتح (باندورو PANDORO) للصندوق الذي يحتوي شرور العالم وعصيان (بروميثي PROMITHO ) (لزور ZOOR) بإعطائه النار للبشر..
ويربط العديد من دارسي الأساطير الاغريقية القديمة الرقم (3) إلى ما ذهب ليه عالم النفس اليهودي (سكمن فرويد SIGMONFROID)***عند حديثة عن الأناة (3) (الأنا و الأنا العليا و الأنا السفلى) بل يمكننا الذهاب إلى أبعد من ذلك في اعتقادنا بالرقم (3) في دلالاته الرمزية على (الولادة – الحياة – الموت )..
فيلم “متاهة بان”
في فيلم “متاهة بان” يستلهم المخرج المكسيكي “ديل تورDAIL TOUR” كل هذه المعاني التي جعلت من فيلمه فيلما أسطوريا محاكيا للواقع، فاز الفيلم بثلاثة جوائز أوسكار أكاديمية في التصوير السينمائي والإدارة الفنية والمكياج واختير كأفضل فيلم أجنبي في مهرجان ( بالم سيرينغر) السينمائي العالمي ، وأشاد به نقاد “سان فرانسيسكو” ونقاد منطقة واشنطن العالمي . والفيلم انتاج مشترك بين اسبانيا والمكسيك وأمريكا.
واعتبر الفيلم قطعة فنية ساحرة، حاولت المزج بأسلوب ابداعي بين العالمي الأسطوري والعالم الواقعي..
قبل اللوحة الافتتاحية للفيلم تظهر لقطة اسبانيا عام 1944م مرفقة بصوت مجهد، يتنفس بصعوبة، كأن صاحبه يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويصدر هذا الصوت قبل أن نكتشف عبر الصورة السينمائية، أن مصدر هذا الصوت فتاة صغيرة مغمورة بنور أبيض، بمسحة من الزرقة، في حالة احتضار، ويخبرنا الصوت الخارجي عن أميرة من مملكة تحت الأرض، تاقت إلى العالم العلوي عالم السماء الزرقاء ونور الشمس، وقد هربت من مملكتها ودخلت إلى عالم البشر، وقد مسح نور الشمس الساطعة ذاكرتها السابقة.
وكمخلوقة بشرية أصيبت الأميرة بأمراض متنوعة وماتت بعد فترة، لكن أباها الملك لم يفقد الأمل بعد، في عودتها في زمن أخر…ومن المحتمل أن “ديل تور” يوحي بمشهد الولادة، الملكة ” كارمن ” من جديد في مملكة العالم السفلى، إنها مكافئة لمعانتها على مملكة الأرض.
وفي المشهد الأخير المغمور بالنور الذهبي، الذي يمثل لونا جديدا، يسمع صوت خارج الكادر يخبرنا، بأن الأميرة عادت إلى مملكتها وحكمت قرونا طويلة….
ويرجع بنا فيلم ” متاهة بأن ” بالذاكرة العريقة التي توجد في الأساطير والحكايات الخرافية، إن الفيلم ردة فعل على حرب أهلية إسبانية، يفضل أكثر الإسبان عدم الحديث عنها. إن الأسطورة والخرافة ترتقي بنا فوق الزمن الواقعي، وفيلم “متاهة بان ” ليس فيلما سياسيا، لكنه يعطي تفاعلا دراميا بين الأسطورة والواقع، ويجمعهما معا في النهاية، بأكثر الطرق السحرية تأثيرا، في رحلة عبر الأزمنة المتداخلة، بين الزمن الأسطوري والزمن الواقعي…
الاختبارات الثلاثة:
واستلهاما للمضامين الأسطورية، تكلف البطلة ” اوفيليا ” في فيلم “متاهة بان” بمهمات ثلاثة:
الاختبار الأول: يجب أن تلقي البطلة (3) أحجار في فم ضفدع عملاق مستقر بين جدور شجرة تين قاربت الموت. ويتجسد أيضا الاختبار الأول في الفيلم، حين قابلت “اوفيليا” ” ألفون” ****كانت المتاهة مخمورة بنور أبيض، فيه شيء من الزرقة، عندما تزحف ” اوفيليا” إلى شجرة التين، للعثور على الضفدع يستخدم المخرج “ديل تورDAIL TOUR” ألوان الأرض الثلاثة (الأزرق ـ الأبيض- الأخضر)
بالموازاة يعطي ” ألفون ” “اوفيليا ” قطعة من الطبشور، يتيح لها أن ترسم به بابا سحريا على الحائط، للخروج من المتاهة. والباب الذي رسمته يدخلها إلى قاعة كبيرة، وطاولة فخمة، يترأسها كائن يرمز إلى الرجل البعبع في الأساطير، كائن بلا ملابس، عيناه في راحتي يديه، كائن بلا اسم…
كما تتجاهل “اوفيليا” الجنيات اللواتي يطرن حولها لتحذيرها، حين يقع بصرها على طبق من الفاكهة يحتوي على عناقيد من العنب، تأكل “اوفيليا “حبات من العناقيد رغم التحذير المستمر..
وهو تمثيل لأسطورة (برسيفوني BRSIPHONI) الإغريقية (بروسربيتاBROSIRBITA) في الأساطير الرومانية التي أختطفها (هيدس HIDS) له العالم السفلي ونزل بها إلى مملكته ثم يأمر (زوس ZOOS) (هيدسHIDS) بإطلاق سراحها، شريطة أن لا تكون قد أكلت شيئا، لكن (هيدسHIDS) تقنع (برسيفوني BRSIPHONI) بأكل ربع حبات رمان، مما يحتم عليها أن تمضي أربعة أشهر كل عام، مع (هيدسHIDS).
الاختبار الثاني: يندفع الرجل الشاحب نحو ” أوفيليا ” مثل الوحوش وهو يطاردها، مع إنها تخرج عبر الباب السحري فإن ” ألفون” يذكرها بأنها أخفقت في الاختبار…
يعطي “الفون” “اوفيليا” فرصتها الأخيرة ، بإعطائها ساعة رمليه ، مع التحذير بأن عليها أن تعود قبل أن تسقط أخر حبة رمل. وبما أنه أصبح لها أخ رضيع يأمرها “الفون” أن تعود الى عالمها السفلي، فيطاردها، لأنه ليس لديه بديل لفقد سليله الوحيد. وكلا من “الفون ” و “اوفيليا” مهتمان بالرضيع، تريد أن تتأكدا أنه سيهتم بضمان حياة أخيها، بعد أن تعلم أنه المراد به، هو أن يكون قرينا بشريا…
الاختبار الثالث “العودة المجيدة “
الأميرة “اوفيليا ” ترقص.. رغم علمها إنها لن تستطيع العودة إلى مملكتها الأسطورية يطلق النار على “اوفيليا” لأنها ترفض العودة إلى العالم الأسطوري. تموت “اوفيليا” في ليلة اكتمال البدر وفي الوقت المناسب للعودة إلى مملكتها الأسطورية، مع إنها أكلت حبات من العنب ونجحت في الاختبار الحاسم ورفضت أن تسلم أخاها الرضيع.
بعد موت “اوفيليا ” ينتقل بنا المخرج “ديل تورDAIL TOUR” في فيلمه “متاهة بان ” إلى مجموعة ألوان الأحمر الذهبي والحداء الأحمر والسترة الحمراء والبشرة الحمراء، محاكاة لأسطورة ذات الوشاح الأحمر. (دوروشيDOROTCHI) في أسطورة الساحر (اوزOUOZ)
ومع موت “اوفيليا ” البشرية، الموت المشبع بالولادة، يعبر المخرج “ديل تورDAIL TOUR” باللقطة البيضاء الممزوجة بالزرقة. إنها نهاية الأسطورة وبداية الواقع … في لقطة محاكية للقطة البداية، لقطة القفز إلى المستقبل….
الواقع الإسباني..
لكن ما علاقة هذه الأسطورة الخرافية، بفيلم تجري أحداثه في إسبانيا بعد ثماني سنوات من نهاية الحرب الأهلية الاسبانية؟
في تلك الفترة الزمنية سعى أنصار الجنرال ” فرانكوا ” ***** القوميون إلى الحفاظ على إسبانيا كمملكة، وهزموا المواليين الذين طالبوا بجمهورية إسبانية …
وفي فيلم “المتاهة بان” يستلهم معاني المتاهة والخرافة، فالمتاهة هنا تجذب انتباه واهتمام” أوفيليا” لأنها تستحضر خلفية مألوفة لها من الحكايات، ما يجعل منها دروسا وعبر وفرص للاختبارات والخيارات الصعبة…. فنحن نكتشف من خلال الفيلم بأن “أوفيليا ” هي تجسيد للأميرة التي هجرت مملكتها وانتقلت إلى عالم البشر، وإذا كان لها أن تعود إلى مملكتها، يجب أن تولد من جديد، من خلال الخضوع إلى سلسلة من الاختبارات لأثبات جدارتها..
*ERICH NEW MANN: عالم نفس شهير كتب عن الطقوس والأساطير والفن كما أشار إلى كيف تم تمثيل المؤنث كآلهة ووحوش وشمس وقمر…
** سلالة (باسيفاي PASIPHAE) : سلالة وحوش لهم جسم كائن بشري وأس وحش وتقول الأسطورة الاغريقية القديمة أن السلالة نتجت عن ممارسة جنسية بين زوجة الملك “مينوس ” والثور..
***(سكمن فرويد SIGMONFROID): عالم وطبيب نفسي معاصر شهير..
****الإله ألفون : اله من الهة الحقول والقطعان في الاساطير الرومانية، مخلوق يشبه نصفه الخرفان، ذات القرون الكبيرة لكن الاسم الذي اطلقه المخرج “ديل تور” على فيلمه متاهة الإله ” بان “لم يكن “متاهة ألفون” لأن الإله “بان” أكثر شهرة، خاصة عند الجماهير الإنجليزية.
*****(فرانكوا): جنرال عسكري قائد لانقلاب عسكري سنة 1936م للإطاحة بالجمهورية الاسبانية الثانية الانقلاب الذي أدى إلى حرب أهلية إسبانية مريرة، كان الجنرال يقود فيها فلول المتمردين… قبل أن يتحول إلى حاكما قويا لدولة إسبانيا