تاريخ

قصر بالاحمر وعائلة شيكيتو الأندلسية في ليبيا

التحليق بأجنحة الجيلاني طريبشان (الجزء التاسع): روائحُ أندلسية … من قَلْبِ أحجارٍ رجبانية!

قرية ويفات (تصوير: عبدالحكيم أحمد سالم)
قرية ويفات (تصوير: عبدالحكيم أحمد سالم)

وطئ أبوعجيلة بطن الأخدود الكبير الذي يقال إنه يشير إلى كنز عظيم قائلاً لي إنه طريقنا الوحيد نحو مقصدنا، قصر أولاد بالأحمر، فوطئته بعده سريعاً، وما هي إلا خطوات وعرة خضتها في طريق متعرجة محاطة بجدار من الصخر على اليمين وأعشاب طويلة قاسية من الأسفل حتى وجدنا أنفسنا نقترب من ساحة أصغر ينتصب فيها منظر كان عجيباً بالنسبة لي، هو على أي حال لا ينفرد به هذا المكان دون مناطق ليبية أخرى، إذ رأيت مثيله في وديان أخرى، إلا أنني دائماً أراه يكتنز الكثير من الصفات والأخلاق والأفكار التي حري بنا نحن البشر أن نتحلى بها، تلك البطمة التي لمحتها من أعلى كانت تحدياً طبيعياً يستحق إدراجه ضمن آثارنا الطبيعية السياحية، كانت تتحدى القدر بنموها خضراء مثمرة وسط صدع صخري صلب جاف قاس بكل ثقة وصمود وشجاعة، حتى أنه يمكننا رؤية جذرها عارياً بكل تفاصيله! ألا تستحق أن تُعَيَّن رمز للشجاعة والصبر؟

شجرة بطوم قصر أولاد بالأحمر: رمز للشجاعة والصبر؟

جذر شجرة بطوم أولاد بالأحمر من قريب

وأخيراً: قصر أولاد بالأحمر

اقتربت أكثر من هذه الشجرة فوجدتها واقفة على حافة جانب من صدع كبير أصاب طبقة صخرية قسمها إلى جزأين كبيرين مع أجزاء أخرى أصغر، كما جعل المسافة ما بين جزئيها الكبيرين مجرد زقاق يسمح بمرور أي إنسان بيسر ما بينهما، صدع لا شك في أن قوة سيل الماء المتدفق من أعلى إلى أسفل على مدى قرون كان كافياً تماماً لصنعه.

وجدت أبوعجيلة يتجه نحو زقاق الصدع مباشرة فوجدت نفسه أتبعه، لكن حينما صرنا بداخل هذا الصدع سألته: أ مازال قصر بالأحمر بعيداً؟ أجابني مبتسماً: أنت الآن في وسطه! كان هذا القصر مقاماً على هذه الصخرة قبل أن يضربها السيل ويشقها إلى اثنين في يوم غابر لم يعد أحد يذكره، فلم يبق من هذا القصر إلا اسمه وحجرة من حجراته نحن ذاهبون لرؤيتها الآن!

كانت هذه الحجرة مازالت واقفة على جزء من سطح الصخرة العظيمة التي أتصور أن كان مقاماً عليها هذا القصر قبل أن تشقها المياه، مازالت تحتفظ بنافذة من نوافذ هذا القصر الذي لم يعد بالإمكان رؤيته كاملاً للأسف.

حُمْرٌ آخرون في الجبل

لم يتبق الكثير من هذا القصر إذاً للأسف، وإن كنت واثق من أنه لو جاءته بعثة أثرية لكشفت لنا الكثير مما لا نرى ولا نسمع، إلا أنه يبقى مع ذلك حاملاً لكل شروط الأثر الليبي المشمول بحماية قانون الآثار الليبي، لا تنقصه سوى لوحة “مصلحة الآثار” الدالة على ذلك، واقتناع أهل الرجبان بقيمته الأثرية البالغة لهم ولكل الليبيين.

فأين من بنوه الآن؟ إن تسمية قصر أولاد بالأحمر تعني بالعربية الفصحى قصر أولاد بني الأحمر، فنحن في لهجتنا الليبية لا نبقي من كلمة “بن” أو شقيقتها “بني” إلا على حرفها الأول نلحقه بالحرف الأول للاسم التالي له، تلك عادتنا، فأين هم بني الأحمر اليوم؟ حينما وقفت أمام أطلال هذا القصر تذكرت “حسن الأحمر”، كاهية الحاكم القرمانلي لليبيا من 1795 إلى 1832: يوسف القرمانلي، أي كبير موظفيه المدنيين، كما تذكرت عائلة الأحمر في مدينة الزاوية، فهل هؤلاء يعود أصلهم إلى الرجبان؟ قبل التفكير في إجابة هذا السؤال علينا أن نتأكد: هل عاش بني الأحمر فعلاً في الرجبان؟ إذا كان كذلك، هل مازالت لهم بقية اليوم في الرجبان؟ توجهت بسؤالي هذا إلى أبي عجيلة فاستبعد، إلا أنه أعلمني بوجود قصر أحمر آخر في قرية شكشوك الجبلية غير البعيدة، فإذا استثنيا تسميته بهذا الاسم للونه الأحمر (وهذا على أي حال احتمال محتمل) هل يمكن أن يكون بُنَاتُه أبناء عمومة حُمْر تاردية؟ أم أنهم حُمْر تاردية أنفسهم هاجروا إليها بعد انهيار قصرهم الرجباني؟ أنا لم أزر قصر شكشوك الأحمر بعد، لكنني علمت فيما بعد بوجود قصر أحمر آخر لحراسة مصادر المياه في وسط بلدة “ويفات” الجبلية التي ينتسب إليها كل من يحمل لقب “الويفاتي”، كما يوجد بذات هذه البلدة ضريح “أبي الأحمر”.

لكن المفاجأة التي هزت مكتبتي وما اختزن من معلومات تاريخية في ذاكرتي هو ضريح “أحمر” آخر في حي يوجلين، أحد أحياء مدينة جادو الجبلية، فبالإضافة إلى أنه يؤكد لي أن الحمر يتركزون في الجبل الغربي يقال إنه ضريح رجل صوفي عالم من علماء المغرب من بني الأحمر، وأنا حينما أقرأ عن شخصية ليبية أصلها من المغرب أصنفها فوراً على أنها من الأندلسيين الذين طردوا من الأندلس بعد سقوط آخر ممالكها: مملكة غرناطة.

فبعد سقوط هذه المملكة سنة 1492 نزح الآلاف من الأندلسيين هرباً إلى أقرب أرض إسلامية آنذاك التي لم تكن سوى شمال غرب أفريقيا، ثم في 22/09/1609 طرد ملك إسبانيا فيليب الثالث ما يزيد عن نصف مليون إسباني هم آخر من بقي من مواطنيه من أصول أندلسية بالرغم من أنه حفاظاً على حياتهم وأملاكهم رضوا وآبائهم دخول المسيحية ظاهرياً وتغيير أسماؤهم العربية إلى إسبانية، لكن كل هذا لم يقنع الملك الإسباني آنذاك، إذ تجمعت لديه أدلة كثيرة على أنهم مازالوا مسلمين يتظاهرون بالمسيحية، فقرر أن يطردهم عن آخرهم، فلم يجد هؤلاء مرة أخرى من ملاذ إلا أقرب الدول الإسلامية لهم: المغرب والجزائر وتونس.

إن الليبيين يعممون فيسمون كل من يصل أراضيهم من جهة الغرب بالمغربي، مثلما هو الحال تماماً مع عرب المشرق، فلا يستطيعون التفرقة ما بين الليبيين والتوانسة والجزائريين والمغاربة، وهكذا يصنفوننا جميعاً في خانة “المغاربة”، في زيارتي للأردن سنة 1998 ثبت لي أن الكثير من العائلات الأردنية التي تحمل لقب المغربي ليبية الأصل، كما ثبت لي أن الكثير من العائلات والأولياء الصالحين التي تحمل لقب مغربي في ليبيا هم من الأندلسيين المطرودين، أو من الجيل الثاني أو الثالث لهم ممن أقاموا في المغرب أو الجزائر أو تونس قبل هجرتهم إلى ليبيا، وفي الوقت الذي مازال تاريخ وأسماء عائلات هؤلاء الأندلسيين معروفاً جيداً في دول المغرب الإسلامي الثلاث، لم يدون تاريخهم جيداً في ليبيا حتى الآن للأسف، فظلت سيرهم مجرد إشارات هنا وهناك مدسوسة تحت اسم عائلي أو مبنى أو أطلال، إنني لم أعرف عن هؤلاء الكثير، لكن كأمثلة مؤكدة لوجودهم في ليبيا.

تعد العائلات الليبية التالية على الأقل من أصل أندلسي:

• لندلسي (طبعاً!)

• القرقني، من جزر قرقنة التونسية، من أصل أندلسي رفيع يعود إلى بني هود الذين كانت لهم مملكة في سرقسطة الأندلسية

• النائب، من طرابلس القديمة (هل انقرضت هذه الأسرة بالفعل؟)

• الجمل، من طرابلس القديمة (فرعها في صفاقس مازال مقيم ومازال يعرف أصله الأندلسي)

• دريرة، من طرابلس القديمة (فرعها في صفاقس مازال مقيم ومازال يعرف أصله الأندلسي)

• الطشاني، من تاجوراء، من طشانة التي مازالت تحتفظ باسمها هذا في الجنوب الإسباني ذاته!

• عزوز، من درنة

• بن حليم، من درنة

وهكذا تراكمت لدي قناعة بأن هذا الصوفي أحمر جادو أو والده أو جده أو أحد أجداده ليس سوى أندلسي فر بحياته ودينه من الغرب الإسلامي، ثم انتشر أحفاده ما بين شكشوك والرجبان وويفات وجادو والزاوية وطرابلس وربما في مدن ليبية عديدة أخرى لا أعرف عنها شيء حالياً

وحُمْرٌ من الأندلس

لكن التقاء كلمتيْ “المغرب” و”بني الأحمر” في اسم هذا الصوفي اليوجليني لا يفتح أمامي سوى طريق واسعة معبدة ومستقيمة ووحيدة الاتجاه نحو ليس الأندلس الذي خسرناه قبل قرون من خسارة فلسطين وإنما إلى آخر ممالكه الإسلامية بالذات: مملكة غرناطة أو مملكة بني النصر التي عُرِفَت في مصادرنا التاريخية باسم ثالث كذلك: مملكة بني الأحمر! هذه المملكة التي إن تركت لنا مجرد رائعة قصر الحمراء لكفاها خلوداً في التاريخ! إذ صوّت العاهل الإسباني الحالي الملك خوان كارلوس وزوجته الملكة صوفيا لصالح اختيار هذا القصر ليكون ضمن مجموعة عجائب الدنيا السبع الجديدة التي يجري الاقتراع عليها حاليا في جميع أنحاء العالم!

وهكذا، فلو أن لبقايا قصر بني الأحمر في الرجبان من فضل غير الحفاظ على اسم بني الأحمر في بلادنا لكفاها قيمة أثرية وتاريخية، طالما أن هذا الحفظ يضيف لجبلنا بُعْداً أندلسياً لا أعتقد أنه أخذ حقه من الدراسة بعد، وهكذا، لو أمعنا البحث في التراث الأندلسي الليبي ونقبنا في وثائقنا المعرضة للزوال للأسف فمن المحتمل جداً أن نكتشف أن قصر بالأحمر ما هو إلا أثر أندلسي بناه أحفاد آخر أسرة ملكية حكمت يوماً آخر ممالك المسلمين في الأندلس، إنني هنا أتمنى على طلاب تاريخ جبلنا وكلياته أن يعطوا لهذا البعد أهمية جادة في دراستهم الجامعية وحتى العليا بدل الالتهاء بتاريخ مُدُن بعيدة عنهم قد لا تكون أكثر عراقة من رجبانهم.

وحُمر طرابلس

ربما كتأكيد نهائي على صحة وجود أحفاد أسرة بني الأحمر الأندلسية في ليبيا هو هذه الحادثة الحقيقية التي وقعت لي في تسعينيات القرن الماضي حينما توليت مهمة مكتب شؤون المتدربين في معهد متوسط بطرابلس، في صباح أحد أيام بداية عام تدريبي جديد، وبما أن من ضمن مهامي كان جمع وترتيب ملفات متدربي المعهد دخل عَلَيَّ الأستاذ معمر، مدرس اللغة العربية لأحد فصول السنة الأولى راغباً في أن يتأكد من التهجئة الصحيحة للقب عائلة أحد متدربيه، كان لقبه مكتوب هكذا: شكيتو، وسؤاله كان ينصب على مدى صحة كتابة حرف الواو فيه، فإذا كان اللقب مصدره الشكوى – هكذا بدأ الأستاذ حديثه مازحاً – فإن الشكوى لغير الله مذلة! وهكذا يجب ألا يُكتب حرف الواو في آخر هذا الاسم! حينما رجعت إلى ملف المتدرب وجدت اسمه ينتهي آخره بواو، وكذلك الحال مع باقي أوراق ملفه الرسمية، المفاجأة هي أن بعض هذه الأوراق يضيف حرف ياء بعد الشين، أي يكتبه هكذا: شيكيتو، هنا أقر الأستاذ بوجود خطأ قديم في كتابة اسم هذا المتدرب عليه أن ينتبه إليه، فما كان مني إلا أن اقترحت أن نستدعي المتدرب ونتأكد منه شخصياً من معنى اسمه وطريقة كتابته، حينما حضر أعلمنا بأنه عائلته من أصل طرابلسي قديم، وأنه الآن من سكان حي رأس حسن الطرابلسي، أما بخصوص اسم عائلته فقد نطقه لنا هكذا: شيكيتو، أي بالياء والواو، لكنه أحبط حوارنا فوراً حينما أخبرنا بأنه لا يعرف أي معنى لاسمه! فظل أستاذ اللغة العربية على رأيه بأن هذا الاسم هو من الشكوى، اعتراها مع الزمن تحريف كبير في كتابتها.

بعد سنوات من هذا الحدث، وبينما كنت أتصفح الطبعة الثانية من الكتاب التاريخي الكبير “الحوليات الليبية” للقنصل الفرنسي بطرابلس من 1878 إلى 1884: شارل فيرو ذهلت حينما علمت من صفحة 260 أن اسم أمير بحر الأسطول البحري الليبي سنة 1681 هو: محمد شيكيتو! فإذاً هذا الاسم ليس خطأ مطبعياً أبداً، إنه جزء عريق من تاريخ طرابلس، تعود جذوره “كما هو” إلى 328 سنة، وبما أنه أمير البحر الليبي لسنا في حاجة إلى كثير من الجهد لنكون واثقين من أنه كان يقيم في طرابلس طالما أنها كانت آنذاك عاصمة ليبيا ومقر قيادتها السياسية والعسكرية وأسطولها البحري، كما لا نحتاج إلى جهد إضافي لنتوقع أنه كوَّن أسرة طرابلسية عريقة صار متدربي السابق أحد شبابها!

لكن ما خفي من تاريخ هذه الأسرة كان أعظم مما كنت أتوقع! فالمصدر السابق يضيف إلى سيرة “محمد شيكيتو” أنه كان “علج من أصل إسباني”، وعلج في طرابلس لا تعني ما قصده وزير الإعلام العراقي الأسبق “محمد سعيد الصحاف” وإنما تعني ذلك الطرابلسي ذي الأصل غير العربي المسلم، وكان من الممكن أن تتوقف دهشتي إلى هنا طالما أن تاريخ طرابلس يعج بأعلاج مماثلين طاب لهم المقام في هذه المدينة فاستقروا بها وأسلموا وحسن إسلامهم بل وقدموا له ما زاد عن غيرهم، إلا أنني منذ أيام فقط، وبينما كنت أفتش في بطون الكتب لإنهاء هذا المقال وصلت إلى قائمة بأسماء أمراء دولة بني الأحمر الغرناطية، فإذا بي أفاجأ بأن اسم الأمير الـ19 لهذه الدولة الأندلسية الأخيرة الذي حكم 4 سنوات من 1451 إلى 1455 هو الأمير “شيكيتو”! ابن محمد الـ11 ابن محمد الثامن!! فإذاً لم يخطئ أبداً المصدر الفرنسي حينما قال إن أمير بحر طرابلس “محمد شيكيتو” من أصل إسباني! كان عليه فقط أن يضيف إنه من أصل أندلسي قديم، فإسبانيا ورثت الوضع القانوني لمملكة بني الأحمر الأندلسية، وصار مواطنوها إسبان فيما بعد، بل يبدو أن والديْ محمد شيكيتو ذاته إسبانيي اللسان! إذ يبدو لي أنه من أبناء أولئك الأندلسيون/الإسبان الذين لجأوا وأقاموا في طرابلس بعد أن طردوا من إسبانيا سنة 1609 وتفرقوا ما بين دول الشمالي الغربي الأفريقي بتهمة أنهم مازالوا على دينهم الإسلامي بالرغم من أنهم غيروا أسماؤهم إلى أسماء مسيحية إسبانية وأتقنوا القشتالية (كاستيليان، اللغة الإسبانية الحالية) بعد أن نسوا العربية، يبدو أن محمد شيكيتو هذا عاد بقوة إلى أصله العربي المسلم في طرابلس، وما توليه منصب أميرالية البحرية الليبية إلا جزء لا شعوري من نفسه دفعه دفعاً للعودة إلى أمجاد أسرته العريقة في الحكم والجهاد الإسلامي في منطقة حوض غرب المتوسط!!

أفقت من هذا الفيلم السينمائي بامتياز على صوت أبوعجيلة يعلمني بحكمة الانتقال إلى الأثر التالي الذي انتقاه لي لهذه الرحلة!

03/03/2009

مقالات ذات علاقة

رمضان 1917

بدرالدين المختار

أهرامات الحطية: شاهد على الحضارة الليبية المهملة

المشرف العام

يوم جليانة

محمد العنيزي

اترك تعليق