في قصيدته الأخيرة “المنفى” لا يذهب الشاعر الليبي عمر الكدي بعيداً حين يتكئ تماماً على تجربته الشخصية ويُسجل بقلمه الخبير أدق تفاصيلها ويهتم بصغائرها كما تفرغ لتدوين كبائرها، وبدلاً من أن يتجه إلى توثيق هذه التجربة التي يُفصح عنها العنوان، بكل أفراحها وأتراحها، مسراتها ومراراتها سرداً، أختار توثيقها بالشعر – أو هكذا تجلت وفرضت نسقها – فجاءت بهيئة سيرة شعرية احتوت على كل ما يجعل منها تجربة إنسانية تستحق أن يتفرغ صاحبها لصوغها شعراً وتمثلها باللغة، وليس كذلك فقط بل شعراً نثرياً لا ينقصهُ الإيقاع، وهو الأمر الذي لم يحد من تدفقه بعد تحرره من القافية التي قد توقف اندفاع البوح الشعري وتضع امام انسيابيتهُ العراقيل أو تُدخلهُ متاهات الحشو واللغو والانصياع لبروتوكولاتها العقيمة.
من تفاصيل التجربة الدقيقة ومن المُقارنة بين الأمس واليوم ومن الاستحضار لمكانين يقع إحداهما في تخوم أفريقيا والآخر في الأراضي المنبسطة على حواف أوروبا، يستمد الشاعر مادته الغزيرة ويلتقط رؤاه، ومن تتالي الصور التي أجاد توظيفها لتعميق تأثيرات تجربته ومما رسمهُ بخبطات سريعة من قلمه، وعلى طريقة ضربات الفرشاة الرشيقة في الرسم، أهتدت القصيدة إلى خاماتها ومكوناتها، تلك التي جعلت منها قصيدة مُقنعة كفكرة وكبناء وكخطاب جمالي.
كما أسلفنا، الشاعر لا يذهب بعيداً ولا يرتكن إلى الخيال، إلا في رسم صوره وتأثيثها بكل ما هو مختلف واستثنائي يحمل خاصية المُفارقة ومفاجأة القارئ، كي لا نقول إدهاشه، فقط الشاعر يُسجل ما رأى وما سمع وما عاش، يهتم بظاهر التجربة كما بباطنها حين يصف الأشياء من الخارج ويُسميها بمسمياتها ويتناول بعض مظاهر الحياة اليومية قبل أن ينسحب إلى الداخل ليُنير مناطق الشُعور وليقول ما يحتدم في النفس من انفعالات وعواطف تُرافق عادةً تجربة المنفى القاسية حتى وإن كانت اختيارية، مع اقتناعنا بأن المنفى حالة قسرية في الأغلب، فلا عاقل يقبل بمُغادرة وطنه والانفصال عن جذوره إلا تحت ضغط ظروف قاهرة وأسباب أقوى من إرادته كالحروب والجوع في الأعم، والفرار من الطغيان والاستبداد كما في تجربة شاعرنا عمر الكدي.
القصيدة طويلة وقد باشر الشاعر بنشرها على دفعات في صفحته على الفيس بوك وبالاعتماد على ما نشره وضعنا هذه الإشارات والقراءات السريعة، وطبعاً لا يجوز أن نتحدث عن القصيدة بطريقة مطلقة أو غيبية دون أن نستدل ببعض تجلياتها، على الأقل لنبرهن من خلال النص ذاته على ما سقناه من أحكام وقراءات.
والشاعر هُنا لا يذهب بعيداً أيضاً وكأنهُ يستذكر تجربة المنفى العسيرة ويستعرض نُتفاً من حياته في القصيدة، حين يوجه خطابه إلى ذاته بالدرجة الأُولى، والمتلقي غير مُفكراً فيه حتى لحظة كتابة القصيدة وأثناءها من قبل الشاعر وغير حاضراً في ذهنه – او هذا ما توحي به – وكأنهُ يجوس دائرة لا تُفضي إلى خارجه، يبدأ بوحهُ
بجملة ها أنت ذا، وهو لا يقصد إلا ذاته المثقلة بهموم التجربة المُشبعة بالغربة.
ها أنت ذا تخرج إلى المنفى
لا تحمل من بلادك إلا حقيبة
وعلى كتفيك أربعون عاماً – هي عمرهُ وقت الرحيل على الأرجح –
من القسوة والريبة وتحمل معك أحبابك
ما تبقى من طفولتك البعيدة
تركت خلفك كل شيء
أيامك الحزينة وتلك السعيدة
لماذا ترحل في الشتاء؟
مثلما يرحل الشتاء إلى بلادك الجديدة.
ويبدو الشاعر واضحاً تماماً ولم يلجأ إلى أية حيلة كتابية كالتجريد أو إقحام للرمز كما لو أن الموضوع لا يحتمل أية مواربة ولا يُقال إلا جهراً بهذه الطريقة، ثُم يقول ها أنت ذا كما لو أنهُ يقصد شخصاً آخراً غيره لا يعنيه أمره:
ها أنت ذا تصرخ في المطارات
أنا لاجئ فاقبلوني
تنام في العنابر مع لاجئين عابرين
تسمع أحلامهم وكوابيسهم بكل لغات الأرض.
أُناس لفظتهم أوطانهم بفعل الاستبداد والجوع والحروب، يجد الشاعر نفسه وهو العابر وسط كل هؤلاء العابرين الذين يؤثثون منفاه، هكذا وجد نفسه وسط هذا الخليط الذي لا يتكرر ألا في المنافي أو في الملاجئ مطروحاً ببينهم بلا خصوصية ولا أسرار، وحين تصير لهُ غرفته الخاصة في الملجأ وامتلك هاتفاً تأبى الفجائع إلا أن تُلاحقهُ إذ يقول وكأنه يخاطب شخصاً آخراً غيره وكأنهُ في لا وعيه يُحاول التنصل من تبعات هذه التجربة وتداعياتها ليكون شاهداً عليها، فقط شاهد دون التورط في تبنيها.
حين صارت لك غُرفة
تسكُن فيها وحيداً
وتصطحب هاتفاً لا يرن
وإذا رن يرن بالفجيعة
هكذا وصل نعي الجيلاني
عندما مات ساجداً
وهو يطلب من ربه أن يقبضه
كفاني مما ابتُليتُ به
أيُها الواهب خذ وديعتك.
عندها تذكر صرخته
“ما الذي جئت تفعله في بلاد لست تعرف فيها أحد؟
والجُملة الأخيرة مأخوذة من قصيدة الشاعر الليبي الراحل جيلاني طريبشان “مرثية العُمر الضائع” إذا ما أسعفتنا الذاكرة التي نكتب بالأتكاء عليها.
وإذ يستعيد شاعرنا اليوم صرخة جيلاني طريبشان التي أطلقها ذات يأس، تصير صرختهُ الخاصة، لأنها تُمثل حالته وتنطبق تماماً على تجربته التي عاشها طريبشان قبله حين اغترب في إيرلندا ونفى نفسه أو نفتهُ، حيثُ لا يطاله غبار الديكتاتوريات والقمع، وتُخبرنا القصيدة أيضاً – والقصائد تفضح الشعراء وتبوح بأسرارهم – عن الأعمال التي تعاطاها في غربته لكي يعلم من ليس لديه علم أو يظُن، وبعض الظن سذاجة، أن المنفى جنة والغربة نزهة، وأن المعاناة فادحة والمغترب يمشي على جمر لا يراه ولا يحسه غيره.
وتعود مثلما كنت دائماً
مشجباً يُعلق عليه الآخرون أحزانهم
وبئراً عميقة للأسرار
تُنظف المراحيض يوماً
ويوماً توزع الجرائد
وأحياناً تنقل الأنقاض
أو تُغلف الورود والنباتات
وتطبخ ليأكل معك الآخرون.
كثيرون عبروا منفاه، أفغان وصوماليون وعراقيون وإيرانيون وأكراد ونيجيريون وغيرهم، ولم يُفوّت الشاعر الفرصة واستمتع بكل هذه الصداقات العابرة والرفقة المؤقتة بما فيها تلك المُضمخة برائحة الأُنثى.
ولأنك وحيد وكتوم
تُطعمك حواء قات الصومال
وتسقيك أم عادل من حزن العراق
ولا تدري ماذا أحبت فيك الفتاة البوسنية
هل لأنك تُضحكها حتى حدود الشبق
أم لأنك تُشبه أباها القتيل ؟
في غياب شعبك
استمتع ولو لبرهة
برفقة عابرة.
غير أن كل هذا الأُنس الظاهري الذي يحياه الشاعر لم يمحو غربته الجوانية المتفاقمة وتأبى الذاكرة العنيدة إلا أن ترتحل به إلى هناك حيثُ جذوره الأولى، وشُعور الفقد لا ينفك يتردد صداه مدوياً في روحه الهشة وأرواح الغرباء هشة دائما ولا تصمد أمام الصدمات وما أكثرها فما بالك بالشعراء منهم لأن هشاشتهم مُضاعفة.
وتبقى وسط الزُحام وحيداً
تتذكر بلادك كما تتذكر أمُك الغائبة
تبدو أحياناً من بعيد حانية – أي البلاد –
وغالباً ما تبدو ذئبة ضارية
تفتقد الأصدقاء والأماكن الأثيرة
تفتقد رحلة البحث عن الكمأ
وتين أجدادك الأخضر والأسود
تمر الأيام بلا قمر يطل عليك
تفتقد الجبال والغيوم الشحيحة.
وهكذا يستحيل الماضي على بساطته إلى سوط وتغدو الأشياء مصدراً لعذاب الشاعر وسبباً لأرقه إذ لا ينفك يحضر في الذاكرة بكل كثافته وثقله كما لو أنهُ حدث بالأمس أو يحدث لحظة تذكره، وما يراه المُقيم المستقر ببيئته عادياً ومألوفاً يتخذ صورة الثمين والجوهري لأنهُ مفتقد عند الشاعر ولعله بكتابته وتوثيقه بالشعر يستدرجه أو حتى يقبض عليه ويجعلهُ حاضراً بذات قوة افتقاده ولربما وجد في ذلك عزاءً لافتقاده وتعويضاً عن غيابه وخلو حياته منهُ.
تستمر القصيدة الطويلة والمتكونة من 660 سطر تقريبا، وهي أطول قصيدة في الشعر الليبي حتى الآن، في حدود ما اطلعنا عليه، تستمر في استجلاء التجربة والغوص في حيثياتها الدقيقة ونفض تفاصيلها التي يمر بها كل مهاجر تقريبا ً مع بعض الاختلافات، فالإقامة في معسكرات المهجرين الجماعية و إجراءات الحصول على الإقامة الدائمة والوقت المتسرب بلا هوادة والمعونة الأجتماعية وصعوبة الحصول على عمل ثابت وعراقيل الانخراط في المجتمع الجديد والتأقلم مع نمط العيش، أشياء إجبارية على المهاجر الحديث أن يمر بها كطريق مرصوف بالأشواك.
والقصيدة عبارة عن سرد شعري – لو صح التوصيف – يحكي قصة أحد هؤلاء الذين دفعت بهم الظروف القاسية إلى الأرتحال بحثاً عن الحرية في المقام الأول وطمعاً في حياة كريمة، وهنا نجد مثالاً جيداً لذوبان السرد في الشعر واندغام أحدهما في الآخر.
ولم تستثني القصيدة خاصية الوصف كما لو أنها قصة قصيرة لا قصيدة واتخذت منهُ أيضاً طريقاً لبلوغ غايتها، واحتوت إلى ذلك على صور شعرية رائقة جاءت في هيئة برقيات سريعة وومضات مُفاجئة، فلنقرأ معاً ما كتبهُ الشاعر عن مناسبة حصوله على الإقامة ومغادرته لمعسكر السكن المختلط.
يودعك الهولنديين بحفلة صغيرة
سيفتقدونك عندما تنشب الخلافات بين اللاجئين
سيفتقدون حِنكتك في ترويض المتخاصمين
وكل ما تعلمته وأنت تتوسط بين قبائل سريعة الصهيل.
ولنضع خطين تحت جُملة سريعة الصهيل والتي هي لوحدها قصيدة ثُم نقرأ هذه الفقرة ونكتفي بها تعريفاً إضافياً للشعر.
والشعر حادي والأيامُ قافلة.
فكيف ستكون الرحلة بلا حادي وبلا أنيس بل بلا زاد والطريق طويل ومُضني.
أذا كان الوطن هو المنفى
يُصبح المنفى هو الوطن.
وهي مقولة شعرية تُلخص الكثير وتقول الكثير بأقل قدر من الكلمات.
في اليوم التالي تجد في بريدك
رسالة من الملكة تعتذر لك عن الإزعاج
بسبب جنازة زوجها
آه ليس هناك أقسى من الظلم إلا اللطف المُفاجئ.
حدث هذا عندما خُصصت للشاعر شقة تقع بالقُرب من الكنيسة التي دُفِنﹶ فيها الأمير كلاوس، ألم نقُل أن القصيدة عبارة عن سرد شعري وإلا فكيف كُنا سنقف عند هذه الحادثة وغيرها من الأحداث إن لم يكُن كذلك، ثُم فلنتأمل في السطر الأخير من هذه الومضة أو الخبرية لنكتشف سر الشعر وبساطته.
ولا ينسى الشاعر وهو في بلاد الفن أن ينهل من تراثها القديم والحديث المُتاح في المعارض والمتاحف وحتى في الساحات والشوارع فيزور بيت الرسام فيرمر ويقف عند تمثال هوغو دي خروب مؤسس القانون الدولي، ويتعرف على رامبرانت وفان جوخ ويتأمل تمثال باروخ سبينوزا، بل ويُحاور بعضهم من خلال القصيدة كما لو أنهم أسلافه.
وحين يتخلى عنهُ الشعر ويعجز عن كتابته، وهو الذي يجد فيه مُتنفساً وبلسماً لأوجاع الحياة، في فترة من فترات منفاه يستعيض عنهُ بالشعر المُتاح على الدوام.
لا شعر في هولندا يُحلق في السماء
الشعر على الأرض يتفتح ليلكاً
الشعر في المروج الخُضر
وفي امتلاء ضروع البقر
وفي العيون الخُضر والزُرق
في القرميد الأحمر اللامع تحت الشمس
وفي القطارات الصُفر وهي تشُق الحقول
والقنوات المائية يسبح فيها البجع
وفي الجسور حين تُغلق وتنفتح
وفي المباني القديمة.
وهي تتأمل قامتها في الماء.
وهكذا إلى أن يُعدد الشاعر كٌل مظاهر الشعر الذي يُمكن رؤيته وتلمسه وحتى تذوقه واستنشاقه, وما حاجة الشاعر للشعر المكتوب المُدون والشعر الهولندي المتمثل في جمال الطبيعة ومظاهر الحياة اليومية منثوراً أينما تلفت المرء، حيثُ يضعنا الشاعر في هذا الجُزء من القصيدة في بؤرة البيئة التي عاش فيها حيناً من الدهر وهو المتعطش للجمال وللفن وكأنهُ أراد أن يُشركنا نحنُ القُراء في مُتعته / تجربته ففي مُشاركة الفرح فرحة مُضاعفة وفي تقاسم البهجة بهجة إضافية.
ومن تدفقها واندفاعها بوتيرة تتصاعد حيناً وتنخفض أحياناً أُخرى حافظت القصيدة على إيقاعها الخاص، ولم يُجهد الشاعر نفسه في استدراج إيقاع ظاهري بواسطة الكلمات والقافية والوزن، بل آننا نكاد نُجزم أن القصيدة وُضعت هكذا دون كثير إعداد وتخطيط وأنها ابنة لحظتها وسليلة مشاعر جياشة وانفعالات حادة، وهذا ما يُفسر بساطتها وتلقائيتها وحتى حرارتها وصدقها إذ لا غموض فيها ولا إبهام، وهذا أهم مفاتيحها بتصوري.
وحين تشتد غُربته ويضيق عليه الوطن بما رحُب، يُشيد وطناً بديلاً في الذاكرة ويصير كل شيء وطنا وتصير الذكريات البسيطة والعابرة وطناً إذ يستذكره في العديد من المظاهر لا سيما تلك التي تواكب الأفراح.
وطني في الأغاني
في بحة الزُكرة
وفي أنين الناي
في حشرجة المزمار
وفي نحيب المرسكاوي
في صوت الغيطة وهي تُدرج العريس
في المالوف حين تُسكرهُ الدفوف.
إلى أن يقول:
في دُخان البخور
وفي أغاني الحصاد
في أهازيج الحرب في الزغاريد
في حمحمة الخيل
في الدرابيك حين يلتصق بها التمر
في صرخة المكلوم من البُكاء
في أغاني العلم وفي أغاني الختان
وفي صلاة الاستسقاء ودُعاء الفجر
في خرير الماء وهدير الموج.
ولا يتوقف الشاعر عن شعرنة تجربته التي استمرت لحوالي عشر سنوات قبل أن يقول كل ما في باله ويُفرغ كل ما في نفسه، كما لو أنهُ بهذا البوح اللانهائي والتداعي الحُر للأفكار الذي ضمنهُ ما لهُ وما عليه، يتخلص من ثقل كان يرزح تحته، ليودعه في ذمة الورق في ذمة التاريخ ويُصدﱢرهُ إلى القارئ ليُشركهُ في أمره.
ومن حُسن حظ الشاعر أن منفاه لم يدُم طويلاً وانتهى بانتهاء حكم الفرد في ليبيا، حيثُ صار بمقدوره العودة إلى الحضن الأول وربط نفسه بالجذور من جديد، وفعلاً رأينا الشاعر يُحيي أمسية شعرية احتفائية بصالة معرض طرابلس الدولي بعد الثورة وهو ما كان حُلُماً عسير التحقق، قبل أن يحزم حقائبه ويشُد رحاله ليعود إلى منفاه شبه الأختياري هذه المرة إلى حيثُ شعبهُ الطيب، فراراً من ديكتاتورية الفوضى والقبلية، وهرباً من تخلف شعبهُ الأول.
ومؤخراً أصدر الشاعر ديواناً شعرياً ضمن منشورات مجلة المستقبل الليبية، أطلق عليه اسم “منفى” ضمّنهُ هذه القصيدة بعد أن قام بنشرها مُجزأة بموقعه على الفيس بوك، ويأتي هذا الديوان بعد أربعة دواوين شعرية أصدرها الشاعر في طبعة واحدة عن وزارة الثقافة في ليبيا.
هذا كل ما هُنالك ..