النقد

تسعينيون بلا نهاية.. البحث في هوية النص التسعيني

 

احتدم الجدل مطلع الألفية الحالية حول مشروعية تصنيف الأجيال الأدبية بحسب مولدها أو بحسب قربها لعقد محدد من التاريخ، ولم يكن هناك أي شك من الجميع بأن جيل جديد أو موجة جديدة من الكتاب والمثقفين في ليبيا قد بدأ يتشكل ويظهر على الساحة الثقافية والأدبية بشكل خاص، وبغض النظر عن المسميات والمصطلحات والتصنيفات التي تم الاتفاق عليه أو عدم الاتفاق عليها، فإن المشهد الثقافي الليبي شهد حراكاً وتطوراً في الشكل والمضمون منذ ظهور هذه المجموعة الثقافية والتي أطلق عليها (التسعينيون) في محاولة للبحث عن ما يميز هذه المجموعة وما يجعلها تحمل هوية مختلفة ومتنوعة عن ما سبقها من أجيال ثقافية في البلاد تم التصالح بشأن تصنيفها تبعاً للعقود التاريخية، وتم دراسة خصائص نصوصها وشخصيتها الثقافية وترجمتها للواقع الثقافي للبلاد في الفترة التي ظهرت فيها. كما يمكن القول أن (التسعينيون) هو مصطلح نقدي لمقاربة تجربة الكتاب الجدد في المشهد الثقافي الليبي. وبحسب اعتقادي فإن أولى مراحل إثبات أو نفي  وجود جماعة ثقافية أو مشروعية أي تصنيف نقدي هو البحث عن هوية للنص المكتوب بغض النظر عن شخصيات وأسماء الأفراد الممارسين لفعل الإبداع أو النشاط الثقافي بشكل عام.

شهدت ليبيا نهاية الثمانينات وعقد التسعينات تحولات متعددة على المستوى السياسي والاجتماعي انعكست بالضرورة على الوعي العام للمجتمع وبشكل خاص على جيل عاش تلك الفترة وما قبلها ليبرزوا فيما بعد على شكل الموجة الجديدة من المثقفين الليبيين. وكما اثرت نتائج الحرب العالمية الثانية ومرحلة الاستقلال الوطني لليبيا، وحالة البلاد الاجتماعية والسكانية، على التكوين الثقافي لجيل الستينات من الكتاب في ليبيا كان لمرحلة الثمانينات بتجاذباتها السياسية والتسعينات بحالة الحصار الدولي ودخول عصر المعلومات والاعلام الفضائي على التكوين النفسي والثقافي لجيل باكمله، ويمكنني الادعاء بأن العوامل السياسية والاجتماعية التي عاصرها هذا الجيل اسهمت في تكوينه ثقافياً لتظهر على شكل كتابات ظهرت أولاها مطلع التسعينات في الصحف والمطبوعات الليبية، لتظهر في كتب في وقت لاحق مع نهاية القرن ومطلع الألفية الثالثة.

يمكننا القول إن مصطلح (التسعينيون) لتصنيف الجيل الجديد من الكتاب الليبيين لا يهدف بأي حال لتحجيم فئة من الكتاب ضمن قالب زمني يستعير أسمه من عشرية في القرن الماضي وإنما هو محاولة لملامسة هوية مشتركة لجيل المثقفين الليبيين الذي تكون وعيه الثقافي وعاصر مرحلة من التاريخ انعكست على كتاباتهم ونشاطاتهم، وساعدت عوامل أخرى من أهمها الانترنت، والفضائيات، والاعلام الجديد من نشر الكتروني ومواقع ثقافية ومدونات وصحف ومجلات على الشبكة في تنمية وعي مختلف للقضايا والاسئلة الملحة والحيوية التي تواجه المثقف الليبي المعاصر دون الوقوع في فخ تقييم التجربة الحديثة من حيث النجاح أو الفشل.

تميزت نصوص التسعينيين ببعض الخصائص العامة التي ظهرت في كتاباتهم الأولى ولعل أهمها هو ميولها للرومانسية والتجريب إلى جانب ابتعادها عن التوجيه والشعارات السياسية والاجتماعية التي ميزت الاجيال التي سبقتهم. كما مارست نصوصهم المواربة والابتعاد عن المباشرة، بل إن بعض النصوص عبرت عن حالة من البحث عن الهوية الذاتية لجيل بأكمله، كما حاول النص التسعيني الابتعاد عن الجدل والتصنيف السياسي والأيديولوجي الذي كان ابرز سمات الأجيال السابقة في الثقافة العربية إلى جانب إعادتها إنتاج الهوية المحلية الليبية المشتركة مبتعدة بقدر الإمكان عن الاختلافات الفكرية وقد يعود ذلك لحالة الاختناق السياسي التي ادت فيما سبق لتعامل الدولة مع المثقفين بطرق حادة وصادمة.

كانت للتحولات التقنية أثراً كبيراً في تطور النص التسعيني في فترة لاحقة منذ دخول الانترنت لليبيا نهاية العام 1998 والقنوات الفضائية قبل ذلك ببضعة سنوات. حيث وفرت شبكة المعلومات فرصة للأسماء الجديدة بالتواصل مع المطبوعات العربية خارج ليبيا والنشر الالكتروني عبر المواقع الثقافية المختلفة وهو ما حفز على ارتفاع نسق النتاج وغزارته والذي وصف في بعض الأحيان بالتسرع والاستعجال دون النظر لجودة النص وربما يرجع ذلك إلى محدودية مساحات النشر في البلاد والاعتقاد السائد بوجود رقابة واسعة على ما ينشر من مواد أدبية وصحفية.

ساهمت التقنية الحديثة بالتواصل عبر الانترنت للتسعينيين بتطوير تجربتهم وإنضاجها. فهم أول جيل تعامل مع تقنية المعلومات بوعي انعكس باطلاعهم على آخر الأعمال الأدبية والثقافية على المستوى العربي والعالمي، بل إنهم ساهموا في تأسيس وادارة مواقع صحفية وثقافية وأدبية على المستوى المحلي والعربي، ولعل أول موقع ثقافي ليبي قام بتأسيسه أحد ابرز كتاب (التسعينيون) وهو موقع بلد الطيوب الثقافي، للكاتب رامز النويصري. كما ساهم تعاملهم الايجابي والفعال مع تقنية المعلومات في ظهور إصداراتهم خارج ليبيا وذلك تجاوزاً لحالة من الركود على مستوى النشر في البلاد خلال التسعينات وحتى السنوات الأولى من القرن الحالي. ولا أبالغ بالقول أن الحراك والضجيج الذي أحدثه التسعينيون على شبكة المعلومات الدولية ساهم في تحفيز جميع فئات الكتاب والصحفيين الليبيين للحاق بهم والتعامل بشكل فعال مع الانترنت والنشر الالكتروني وذلك في فترة قياسية.

إلا أن ما يؤخذ على تجربة التسعينيين هو غزارة إنتاجهم في فترة قصيرة نسبياً وهو ما وصف في بعض الأحيان كعلامة على التسرع والاستعجال وعدم النضج، بالنشر دون الاهتمام بقيمة النص وجودته. وأعتقد أن هذه الصفة تشكل ظاهرة عامة على مستوى الثقافة العربية مردها لعاملي سهولة النشر الالكتروني من جهة والرغبة الجامحة والطموحة للحصول على انتشار واسع في الداخل والخارج وذلك كسراً لحالة الاحتكار والتهميش التي عانى منها المثقف الليبي من قبل المؤسسة الرسمية في البلاد والمشهد الثقافي العربي في بلدان أخرى. إلا أن غزارة الإنتاج النسبية أتاحت مساحة للتجريب والحضور على عدة مستويات جعل من تأثير الجيل الجديد ملموساً على حالة النشر الثقافي في ليبيا والبلدان العربية.

تميز النص التسعيني بالتنوع من حيث الشكل على الرغم من استمرار هيمنة الشعر كوسيلة للتعبير إلا أن النتاج الأدبي والسردي من قصة قصيرة ورواية أصبح أكثر حضوراً وذلك تماشياً مع الموجة السردية السائدة في الثقافة العربية والعالمية. وأتاح السرد مساحة للكتاب الشباب لتجاوز بعض من المحرمات والممنوعات إما على المستوى السياسي والاجتماعي على الرغم من ظهوره في قوالب رمزية وخيالية أو باللجوء إلى عرض اليومي والمعتاد، لذا يمكن القول بأن التسعينيين لم يكسروا الحواجز السياسية والاجتماعية في ليبيا بشكل واسع، وإن كانت التقنية الحديثة وفرت فرصة لهم لكسر احتكار الدولة ورقابتها والمشاركة في منابر ثقافية كانت تصنف ضمن حدود الممنوع في البلاد، وهو ما شجع المثقفين الليبيين للمطالبة بمزيد من الحريات وفتح مساحات أرحب للتعبير والابداع والخروج من حالة التهميش الممارسة على المثقف الليبي وهو ما دفع الدولة لممارسة سياسة الاحتواء من خلال المؤسسات الثقافية الرسمية التي قدمت برامج داعمة للكتاب، إما من خلال طباعة ونشر الأعمال الإبداعية أو تبني المشاريع الثقافية التي ساهم التسعينيون في تغذيتها وإثرائها.

لا يستطيع أي متابع للمشهد الثقافي الليبي خلال السنوات العشر الماضية أن ينفي وجود حراك وتطور على عدة مستويات ثقافية كان العلامة الأبرز فيها تنامي حضور جيل جديد من الكتاب والمثقفين، بغض النظر عن المسميات أو المصطلحات التي استخدمت لاختزال هذه التجربة الحديثة، والتي كانت ابرز سماتها التنوع والتجريب وإعادة إنتاج الهوية الليبية، واحتضانها لمنجزات الحداثة وما بعدها على المستوى التقني والإعلامي. ويمكنني القول بأن التسعينيين اثبتوا مشروعية وجودهم واستمرارهم وتمكنهم من مواصلة وتطوير التجربة الثقافية والإبداعية بفاعلية، امتداداً لأجيال سابقة ساهمت في تأسيس الهوية الثقافية الليبية المتميزة.

مقالات ذات علاقة

نظريات تطلب فخاخها .. (قراءة في قصيدة”ايدلوجيا أنثى” للشاعرة سعاد سالم)

المشرف العام

بن يتمحص.. جزر ممكنة

نادرة عويتي

رواية موشومة بالموروث النسائي الليبي

إنتصار بوراوي

اترك تعليق