محمد عكره النويري
أرى الرّزايا لا تُبارز إلا ماجدًا، ولا تغتال إلا حازمًا، وإنّي كلّما شيّعت طرفي نحو الهمل والسّوقة من النّاس لسبر أخبارِهم، والوقوف على أحوالهم؛ وجدتُهم في حال سِلمٍ مع الدّهر، ومُعافاةٍ من نوائبه وأكداره، وكلّما أدرتُ طرفي نحو أولي الهمم الواثبة، وأرباب العزائم المتوقّدة؛ رأيتُ صروف الدّهر قد عَرَكَتْهُمْ، وسهام الرّزايا لم تُخطئهم .. فكأنّي بالدّهر قد أوصى نوائبه أن تأنف من مُصارعة كلّ وضيعٍ دنيءِ الهمّة خالِيَ البالِ، وأن تُمعِن في مطاردة كل ماجدٍ قَرِمٍ حتّى تكدّر عليه هناءَهُ، وتنغّص عليه صفوَهُ، أو أن تثنيه عمّا تَعَنّى له وصمد إليه في سبيل حيازة الفضائل واجتناء المكارم.
وإنّ أحقّ النّاس بالمجد وأكثرهم التصاقًا به من لازم الكتب واتّخذها أنيسَهُ، وعانق الأقلام وجعلها مِجَنّهُ، فهذا الصّنف من النّاسِ إنّما تُصبّ عليهم الهموم وتُرمى نحوهم النّبال جُزافًا دون عدٍّ ولا كيل، حتّى تستحيل هذه الأدواء دواءً لطيب عاقبتها، وحتّى تصير هذه الهموم وقودًا يُعين على مواصلة المسير، وملازمة الصّبر!
ولمّا كانت أنفس هؤلاء متعلّقة بالكتب متشوّفةً أبدًا للكتابة عمدتْ الرّزايا إليهم من هذا الباب، وولجتْ عليهم من هذا المدخل، أيْ أنّها صيّرت مطالعة الكتب ومنادمتها قناةً يمرّ بها المرء على أطلال روحه وبواعث وجده، فكانت بذلك سببًا لتمكّن الهمّ بعد أن كانت سبيلًا للسّلوّ والأُنس!
فهذا شأنُ المطالعة، أمّا الكتابة فإنّها كانت لهم لا عليهم، وذلك أنّ مُنادمة الأسفار إن عُدّتْ تَرَفًا في حقّ من بَرَتْهُ الهموم وأضنته الأوهام، فإنّ تسلّح المنكوب بأقلامه واعتصامه بصحائفه إنّما هو إعلامٌ للنّوائب بالمبارزة، وكأنّ الكاتب حين يمسك قلمه كالفارس حين يُشهر سيفه في معمعة الحرب متوعّدًا به عدوّه، وكأنّ صحائفه التي صيّرها سوادًا بعد بياضٍ كالتُّرسِ يوم الهِياج يدفع به المقاتل سهام أعدائه وضربات سيوفهم، وكأنّي بالمهموم -وقد شفّه الجوى وأضناه النّوى- وهو يعمد إلى قلمه فيخطّ به وجعه ويرسم به ألمه؛ إنّما هو بذلك ينفض عن قلبه ما علق فيه من الزّغل والأسقام، وكأنّي بأثقاله وهي تنحسر عنه وتتلاشى مع كلّ حرفٍ يخطّه، شيئًا فشيئًا، فلا يأتي الكاتب على آخر شيءٍ دوّنه إلا وفؤاده قد خلص من الهمّ، وبَرِءَ من الوجعِ.
وإنّ صاحب الدّواة والقلم ليتنزّل عليه في ساعة المنازلة من الوحي والإلهام ما يُنسيه مرارة الفقد ومنغّصاته، وإنّ في تنزّل التراكيب البديعة البِكر على المُتيّم لَسلوًّا وبردًا في فؤاده لا يربو عليه أيّ ظفرٍ، ولا يدانيه أيّ وصلٍ، متى ما تمكّنت الكتابة من قلب المرءِ، وصارت له شغفًا وولهًا.
وإنّ من فرط تعلّق هذا الصّنف بالكتابة أنّه يحفل بالمصائب إن أناخت ببابه ولازمته، فلا تجده يتبرّم بها بل تراهُ مستبشرًا يهشّ في وجهها بشاشة المُمحِل في البيداءِ بالمزنِ، ولعمري إن لم تكن الهموم والأحزان لأرباب القريض والنّثر غيثًا وفتحًا لهم فأيّ شيءٍ يكون لهم كذلك؟!
وإذا كانت الأحزان لها كلّ هذه الحظوة عندهم لِمَا يتنزّل عليهم ساعة الحزن من الوحي والإلهام فما ظنّك بحالهم ساعة الفرح والمسرّة، وإنّي لأحسبهم ينشدون الأنس ويتشوّفون إلى الحزن ليس لشيءٍ سوى حبّهم للكتابة لَمّا كان الفرح والتّرح وقودًا لها، مضرمًا لجذوتها.
ومن ذلك أنّك تجد المُدنف منهم لا يطرقه إن زاره الوسن طيفٌ لصنو روحه إلا نادرًا، وإنّما يرى رسائله وكتبه، هذا مع كثرة لقياهما وطول تزاورهما، فليت شِعري ما أعوزه أن يرى وجهه وأن ينعم بوصاله في منامه بعد أن جفاهُ في يقظته؟!
أكان ذلك من نوائب الدّهر وحلول الرّزايا عليه؟
أم أنّ شغفه بالكتابة يربو على شغفه بمتيّمه؟
وهل يعقب هذا العوز الذي جرّه عليه حبّه للدواة والقلم؛ بغضًا لهما وإدبارًا عنهما فيحقّق بذلك مُنى النّوائب وغرضها؟
أم يكون ضنّ الطّيف بلقياه في المنام مورثًا بغضًا لصاحبه لخُلفه وبخله في المنام واليقظة؟
بلى .. وكأنّي به يُعاتب طيف متيّمه: فيما أذقتنا وِصالك حتّى استعذبناهُ فلفَظْتَنا؟!!
ورحم الله الفرزدق حين أنشد:
وَلَجّ بك الهجرانُ حتّى كأنّما
تَرى الموتَ في البيتِ الذي كنتَ تألَفُ!
وغفر الله لي حينما كذبتُ فقلتُ:
ألا رُبّ ظبيٍ أرّقَ الصّبَّ غُنْجُهُ
ورُبّ نُفورٍ صيّرَ المرءَ غانِما!