عندما عرف العالم الراديو مع العشرية الثانية للقرن العشرين بفضل المخترع الإيطالى ماركونى (1874 -1937)، كانت ليبيا المستعمرة الإيطالية، الدولة العربية الأولى التى جال فيها ذلك المخترع لأجل إنجاز مهمة تأمين الاتصالات اللاسلكية للقوات الإيطالية، ومع ثلاثينيات القرن ذاته ستُفتتح أول محطة راديو بطرابلس سيعمل بها مذيعون ليبيون تحت إدارة أيطالية، رغم أن الراديو كجهاز متاح أنتشارا بين الناس تأخر حتى الخمسينيات.
مع منتصف الخمسينيات، وقد تحقق الاستقلال الليبى (1952) ستكون محطتا الإذاعة فى طرابلس وبنغازى كوادر وإدارة بقيادة العناصر الليبية، إلا أن ذلك لم يمنع من مشاركة مستزيدة من عناصر عربية خبيرة فى المجال، خاصة مع قلة العناصر النسائية، فقد حضرت الإعلامية عفاف زهران ضمن البعثة التليفزيونية وعملت بعقد هيأتهُ وزارة الإعلام ووزيرها الصالحين الهونى، الذى رأى فى ذلك تطويرا لقطاع الإعلام المحلي، عفاف القادمة من إذاعة الشرق الأوسط إبان ازدهارها وفورتها، ستكون قارئة الأخبار رفقة الإعلامية عائدة الكبتى، التى ستكون أول قارئة ليبية للأخبار بالتليفزيون، لأربع سنوات ستقيم عفاف زهران بحى «سوق الجمعة» من أجمل ضواحى طرابلس المزدانة بالمزارع، وفى حديث جمعنى مؤخرا بالإذاعية القديرة عائدة، تذكرت رحابة وانفتاح عفاف على الحياة بطرابلس، إذ كانت تسألها عن بعض بضائع أحبت أن تقتنيها وتعرف اسمها باللهجة الليبية، وكانت «زهران» مُحبة للمخلل (الطرشى)، فكان أول ما بحثت عنه بدكاكين طرابلس، ثم دعتها عائدة إلى حفل زواجها فوافتها وأعجبت بالتقاليد وطقوس النساء فى تلك المناسبة السعيدة، ووثقت لذلك بصورة التقطتها مع والدة العروس، عائدة الكبتى عاصرت وتعرفت أيضا على أستاذة اللغة العربية بكلية التربية بجامعة طرابلس الكاتبة والباحثة «نعمات أحمد فؤاد» التى رأت فيها تلميذتها «الكبتي» نموذجا للمعلمة المنفتحة على طلابها، و«نعمات» من ستساهم أيضا بخبرتها فى تأهيل جيل إعلامى جديد، كقراء يجيدون اللغة العربية. الإعلام الليبى سيدخله أشهر إذاعى مصرى: جلال معوض (رفقة زوجته الفنانة ليلى فوزى)، وأمين بسيوني، ولاحقا سيحضر الإذاعى الكبير أحمد سعيد، الذى قدم إلى ليبيا مع بداية السبعينيات.
وكانت الشهيدة الراحلة الإعلامية والشاعرة سلوى حجازى ممن عملوا ضمن بعثة التليفزيون العربى بالإذاعة الليبية مع أول السبعينيات (1973)، وإن كانت فترة قصيرة، إلا أنها أطلت بصوتها الشجى الناعم على الجمهور الليبى، وظلت باقية فى ذاكرة جيل عاصرها، وما زالت صورها توثق عملها وجولاتها ببعض المدن الأثرية الليبية رفقة المخرج عواد مصطفى، وقد أنجزا حلقات لبرنامجهما المشترك للتليفزيون المصري، المذيعة الرائدة ببرامج الأطفال بمحطة ماسبيرو رحلت عن متابعيها ومحبيها فى فبراير ١٩٧٣ فى جريمة غادرة ارتكبها العدو الصهيونى حين أسقط الطائرة الليبية بوينغ 727- المتجهة بركابها من طرابلس مرورا ببنغازى إلى مطار القاهرة الدولى- على أرض سيناء، والتى كان من ركابها 108، وزير الخارجية الليبى صالح بويصير، والطبيبة فاطمة بوقعيقيص.
ما جعلنى أكتب هذه الاستعادة لعقود مرت من عمل الإذاعة الليبية تقارب القرن، ومن ساهموا وساهمن تاريخا فى ازدهارها من الليبيين والإخوة العرب، فساعة عملت بمهنة القراءة مذيعة لأكثر من عقدين من الزمن، كان أول تعليق سمعته ممن استمعوا إلى أدائى أنى أملك خامة صوت شامية أو مصرية!، وأنى ذكرتهم بمذيعات عربيات أصواتهن تشابهُ مديحة مدفعي، عفاف زهران، سلوى حجازى، من أتقن مهنتهن وحملن أخلاقيات عمل أخلصت لدورها وشكلت ثقتها بمتلقييها حضورا، وإلماما بألف باء مهنتها، وتطويرا لأدواتها، فى زمن كان أول الخطو والتأسيس..فهل تراجعنا عن كل ذلك؟!