المقالة

الإرث الاستعماري للفاشية الإيطالية في ليبيا

يونس أبو أيوب 

«التاريخ يعيد نفسه مرّتين، المرة الأولى كمأساة والثانية في شكل مهزلة».. كارل ماركس

كتاب (الإبادة الجماعية في ليبيا) للدكتور علي عبداللطيف حميده
كتاب (الإبادة الجماعية في ليبيا) للدكتور علي عبداللطيف حميده

أسفرت الانتخابات الأخيرة في إيطاليا (25 أيلول 2022) عن صعود تحالف يميني فاشيّ إلى السلطة؛ للمرة الأولى منذ سقوط نظام بينيتو موسوليني في عام 1945. هكذا أضحى الوجه الجديد لليمين المتطرف في إيطاليا السيدة جيورجيا ميلوني، التي أصبحت أول رئيسة وزراء في التاريخ الإيطالي، بعدما أدارت حملة انتخابية ناجحة، قائمة على خطاب يناهض الهجرة والأجانب، وهي من المؤمنين الراسخين بـنظرية «الاستبدال الكبير» والتهديد الوشيك لما يسمى بالحضارة الغربية، المتمثل في «أسلمة» أوروبا. الوقت وحده كفيل بتحديد ما إن كان هذا الحدث الفاصل سيتحول إلى مهزلة أو إلى مأساة أخرى. ما هو مؤكد اليوم هو أن الفاشية في إيطاليا، على الرغم من تلميع صورتها من قبل الكثيرين باعتبارها فاشية حميدة، تركت أثراً مأساوياً وسيلاً مهولاً من الفظائع، ولا سيما في المستوطنات الاستعمارية في أفريقيا. أمّا نظرية الاستبدال الكبير، فقد طُبّقت فعلاً من قبل الفاشيين الإيطاليين في ليبيا، حيث نفّذ الفاشيون الإيطاليون سياسة الإبادة الجماعية في حق السكان المحليين لتطهير الأراضي الليبية وإخلائها للمستوطنين الإيطاليين لاستغلالها.

هذا هو التاريخ الذي يستكشفه كتاب «الإبادة الجماعية في ليبيا: الشر، تاريخ استعماري مخفيّ»، الذي يتناول فيه الباحث الأكاديمي الليبي علي عبد اللطيف أحميدة الإبادة الجماعية التي ارتكبها الفاشيون الإيطاليون في ليبيا، بينما يسترد التاريخ الشفاهي لما يسميهم التيار الاستشراقي بـ«أولئك الذين ليس لديهم تاريخ». من خلال تقديم الشهادات الشفوية للناجين الليبيين من الفاشية الإيطالية -حكاياتهم الشخصية والأغاني التقليدية والشعر المنظوم- يقدّم الدكتور أحميدة وصفاً شاملاً لأهوال الغزو الاستعماري والعنف الذي تعرّض له السكان الأصليون على يد الفاشية الإيطالية في مطلع القرن العشرين، عندما تولى الفاشيون السلطة في إيطاليا سنة 1923، حيث احتاج المستعمرون آنذاك إلى تطهير الأراضي الليبية -بالقوة، إذا لزم الأمر- حتى يتمكنوا من توطين المزارعين القادمين من إيطاليا. وقد استغرقت هذه العملية الاستعمارية أكثر من عقدين (1911-1932) لبسط السيطرة الفاشية على البلاد كافة، والتي كان يلقبها الإيطاليون آنذاك باسم Quatra Sponda، أو «الشاطئ الرابع لإيطاليا».

لقد أدّت سياسة إيطاليا، والمتمثّلة في إطلاق العنان للعنف المطلق لسحق المقاومة الليبية وإخضاع السكان المحليين، إلى مقتل أكثر من 83 ألف مواطن ليبي. وتوفي حوالي 70 ألف شخص، معظمهم من المدنيين من المناطق الريفية، بمن في ذلك النساء والأطفال وكبار السن، من جراء سياسة التجويع والمرض. لقد سعت هذه السياسة المتعمّدة للقتل الجماعي والتجويع المنظّم إلى إبادة شعب وثقافة بأكملهما. تبعتها حملة ناجحة استهدفت الذاكرة التاريخية: حملة ممنهجة لمحو أي سجلّات تاريخية أو أرشيف رسمي يوثق لهذه الفظاعات، حيث قامت الحكومة الفاشية الإيطالية بقمع تداول الأخبار بشأن الإبادة الجماعية ودمّرت الأدلة المادية والتاريخية. سيستمر هذا «النسيان الجماعي المنظّم» لفترة طويلة حتى بعد زوال النظام الفاشي في عام 1943. إلا أن الكتاب لا يقف عند السرد التاريخي لوقائع الحقبة الفاشية في ليبيا، بل يعمل أيضاً على تفكيك الآليات الإيديولوجية التي تؤسس لعملية إنتاج المعرفة، من خلال إقامة صلة وصل بين الإبادة الجماعية الليبية والجذور الاستعمارية للمحرقة اليهودية التي تلتها على يد النازيين في أوروبا، والتشكيك في التأريخ الذي يحجب بشكل متعمّد ومنهجي الحقيقة التاريخية في عملية إنتاج المعرفة.

وفي حين تتحدّى هذه الدراسة المركزيةَ الأوروبية في المجال الفكري الغربي، إلا أنها لا تتوقف عند نقد النظريات الاستعمارية للمعرفة والتاريخ، بل تتخطاها نحو استعادة التاريخ والإرادة الفعلية من خلال وضع تصور لرواية متباينة ومضادة، عن شعب وثقافة ومجتمع صمّموا على استعادة صفة الفاعل خارج الأطر المؤسسية المهيمنة للنظام السياسي الحديث. أجل، إلى جانب تفكيك المركزية الأوروبية المتفشية التي تميز البحث الأكاديمي حول دراسات الإبادة الجماعية، يفضح المؤلف شح الدراسات التاريخية بشأن موضوع الإمبريالية الإيطالية والعنف الشديد الذي مارسته لإخضاع السكان المحليين في المستعمرات الأفريقية. هذا التناقض الصارخ وحده، رغم وفرة الدراسات حول الفاشية الإيطالية، أمر مذهل في حد ذاته. ومع ذلك، ربما يمكن تفسيره، وفقاً للمؤلف، بأسطورة «الناس الطيبة»، وهي الصورة النمطية التي سوّق لها الإعلام والسينما والأدب، ومفادها أن الإيطاليين هم في الأساس أناس طيبون غير قادرين على ارتكاب فظائع من هذا النوع على غرار ما اقترفته القوى الإمبريالية الأخرى، أو حتى الأنظمة الفاشية الأخرى.

يبدو الأمر كما لو أن الفاشيين الإيطاليين لم يُؤخذوا على محمل الجد أبداً على عكس المعاملة التي حظي بها الحزب النازي في ألمانيا. فحتى منتقدو موسوليني صوّروه في كثير من الأحيان على أنه لا يعدو أن يكون إلا مهرجاً أو مجرد ديكتاتور مبتذل، بدلاً من كونه يمثّل تهديداً إيديولوجياً فعلياً كقائد لحركة سياسية قائمة على أساس سمو العرق الأبيض الأوروبي على ما سواه، وعلى العنف والغزو الاستعماريين. في الواقع، كان النازيون الألمان أنضج وعياً وأقوى بصيرة، عن ما سواهم من الساسة والمفكرين الغربيين، بخصوص حقيقة الحركة الفاشية في إيطاليا منذ البدء، إذ اعتبر القادة النازيون أساليب الاستيطان الناجحة للفاشيين الإيطاليين، على الرغم من العنف المفرط الذي اكتنفها، نموذجاً يحتذى لما سيقومون بتنفيذه من إبادات جماعية على الأراضي الأوروبية لاحقاً. لقد قام النازيون الألمان بالفعل بزيارات ميدانية لليبيا، على أعلى المستويات، ونشروا كتباً ونظّموا مؤتمرات وندوات حول التجربة الاستعمارية الإيطالية في كل من ليبيا والحبشة (إثيوبيا). هكذا، قام القائد العام لقوات الأمن الخاصة، هاينريش هيملر، بزيارة رسمية لليبيا عام 1939 ليقف بنفسه على النتائج التي تحققها السياسات الفاشية على الأرض الليبية.

إن تجربتَي الإبادة الجماعية الإيطالية والألمانية مرتبطتان إحداهما بالأخرى، ولا يمكن للمرء أن يفهم إحداهما بالكامل دون الأخرى

لكن، من خلال إبراز هذه الحقائق التاريخية الهامة، لم يقتصر الدكتور أحميدة على التأسيس لعلاقة يتعذر إنكارها بين الإبادة الجماعية الاستعمارية والإبادة النازية ليهود أوروبا وأعراق أخرى اتهموها بالدونية، بل من خلال هذا الجهد التأريخي الهام، يدعو الباحثين في دراسات الإبادة الجماعية، والقراء على حد سواء، إلى التعامل مع المحرقة اليهودية من منظور جديد، أي إسقاط النموذج الفاشي الإيطالي للإبادة الجماعية في المعتقلات الليبية، وهو الأصل، على السياق الأوروبي وتطبيقه على التجربة الأوروبية للإبادة الجماعية ليهود أوروبا وباقي الأعراق الأخرى في مرحلة لاحقة: «قبل معتقل أوشفيتز، كانت هناك معتقلات إبادة في العقيلة والسلوق والبريقة والمقرون (…) في رأيي، إن نظرية الإبادة الجماعية التي وُضعت في أوروبا قصيرة النظر بل خاطئة برمتها» (ص 10). إن تجربتَي الإبادة الجماعية الإيطالية والألمانية مرتبطتان إحداهما بالأخرى، ولا يمكن للمرء أن يفهم إحداهما بالكامل دون الأخرى. ومع ذلك، حتى يومنا هذا، لا يزال مفهوم الفاشية الإيطالية المعتدلة رواية، بل أسطورة مقبولة على نطاق واسع لإرث موسوليني، ولا تزال الحالة الليبية غائبة، بل مغيّبة حتى في ثنايا الكتب الحديثة عن الإبادة الجماعية المنسية.

بيد أنه، وعلى الرغم من إسكات السلطات الفاشية لصوت التاريخ، والحال لا يزال كذلك حتى يوم الناس هذا، من خلال فقدان طوعي للذاكرة وسطوة الإيديولوجية على صيانة الأرشيف والمحفوظات التاريخية، إلا أن التاريخ الشفوي وشهادات الناجين من المعتقلات كلّ ذلك يمكّن الباحث من ردم هذه الفجوة التاريخية. توفر هذه السردية الشفوية مصدراً لا يُقدّر بثمن للمعلومات التاريخية عن الحالة الليبية. من الإنجازات الهامة لهذا الكتاب أنه تمكّن، من خلال ما يشبه التنقيب الأحفوري في الذاكرة الشعبية والتاريخ الشفاهي، من الكشف عن هذه القصص الدمعية التي سجّلها الليبيون بلغتهم العربية الأم. لقد ظلت هذه الروايات الشفوية مطمورة بشكل منهجي لفترة طويلة. وبفضل شهادات الناجين ظهر التاريخ الأصلي للإبادة الجماعية التي اقترفها الفاشيون الإيطاليون في حق الشعب الليبي. كما يطلعنا هذا الكتاب على سياسات ليبيا ما بعد الاستقلال في عام 1951 وتاريخها المضطرب من النظام الملكي إلى الجمهورية ثم الجماهيرية، حتى الانهيار الكامل للدولة الليبية في عام 2011 مع الانتفاضات العربية. على الرغم من أن الاستعمار الإيطالي لليبيا كان قصير الأجل نسبياً (1911-1943)، إلا أن وحشيته الشديدة تركت ندبة عميقة في العقل الجمعي الليبي وألقت بظلال قاتمة على تاريخ الدولة الليبية ما بعد الاستقلال. ولربما يمكن إرجاع جذور الروح المعادية للاستعمار وأشكال التدخل السياسي الغربي في ليبيا، وبخاصة خلال نظام القذافي، تحديداً إلى هذه التجربة الاستعمارية المريرة.

أمّا بخصوص بناء الدولة الحديثة، فالحقيقة هي أنه، على غرار الأقطار الأخرى التي مرّت بتجارب استعمارية عنيفة مماثلة، تم فرض الدولة القومية الحديثة من خلال فوهة البندقية. لقد قوّض إرثها من الوحشية والعنف شرعيتها في نظر السكان المحليين، على الرغم من شعارات التقدّم والتحديث التي ما فتئت ترفعها الأنظمة السياسية على اختلاف مشاربها. ويمكن إرجاع أحد الأسباب الكامنة وراء الإخفاق المزمن للجهود الدولية الفاشلة في بناء الدولة، وفي نهاية المطاف ترسيخ السلام في ليبيا ما بعد 2011، جزئياً إلى عدم إدراك هذه الحقيقة التاريخية الهامة. إن نظرة نقدية لجوهر الدولة القومية وإرث الماضي الليبي، على المستويين المجتمعي والمؤسسي، لبداية جيدة لفهم الأسباب الحالية والهيكلية لانهيار الدولة بعد انتفاضة السابع من فبراير 2011.

بالنظر إلى الزلزال السياسي الأخير في إيطاليا مع العودة التدريجية للحركات الفاشية في أوروبا وأماكن أخرى من العالم، فقد حان الوقت لعمل أكاديمي بارز يسلط الضوء على الإرث الفاشي والإبادة الجماعية المنسية في ليبيا إبان الاستعمار الفاشي الإيطالي، ويدحض أسطورة الفاشية الحميدة. هذا بالضبط ما نجح في إبرازه كتاب أحميدة.


* دكتور في علم الاجتماع السياسي، باحث زائر في جامعة نيو إنغلند، الولايات المتحدة. سابقاً، المستشار السياسي لممثل الأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا

الأخبار؛ الثلاثاء 29 تشرين الثاني 2022

مقالات ذات علاقة

أجيال المدينة

سالم الكبتي

شجرة اللوز الخزاينية ويوم الزينة!!!

رضا محمد جبران

مثقفون ليبيون.. واقع رقمي آني

خلود الفلاح

اترك تعليق