احتفظت ببعض الملاحظات بعد اطلاعي على كتاب (Fashionable Nonsense) «هراء على الموضة»، أو «هراء أنيق»، مع عنوان جانبي في الأصل “سوء استخدام مثقّفي ما بعد-الحداثة للعلم” تأليف عالمَي الفيزياء: ألن سوكال وجين بركموت، وترجمة نجيب الحصادي…
فمن العنوان الجانبي يمكن أن نلمس اتهاما أو حكما مسبقا بـ”سوء الاستخدام” تجاه مثقفي، أو مفكري ما بعد الحداثة الذين استعانوا بنظريات علمية معقدة ودقيقة في دعم أطروحاتهم الفكرية أو النقدية. وفي التوطئة الإنجليزية يذكر المؤلفان أن فكرة هذا الكتاب نتجت عن خديعة أصبحت الآن شهيرة، وتكمن الخديعة في هذه الحكاية الطريفة “قرّر أحدنا (سوكال) أن يقوم بتجربة غير تقليدية (مسلّما بأنها غير منضبطة): أن يقدّم إلى مجلة ثقافية-علميّة أمريكية مرموقة، مجلة «النص الاجتماعي»، محاكاة ساخرة [بارودي] لنوع الأعمال التي راجت في السنوات الأخيرة، ليرى ما إذا كانت سوف تنشرها. وكانت الدراسة، وعنوانها “تخطي الحدود: صوب هيرمينيوطيقا تحوّلية للجاذبية الكمية، تحشد بالأحكام اللامعقولة التي يتّضح أنها لا تلزم عما يُطرح لها من شواهد.” غير أن الدراسة قُبلت ونُشرت، وأسوأ من هذا أنها نُشرت في عدد خاص من مجلة النص الاجتماعي كرّس للردّ على انتقادات وجّهها علماء مميزون ضد ما بعد-الحداثة والبنائية الاجتماعية. وكان صعبا على محرري هذه المجلة أن يتخيّلوا طريقة أكثر جذرية في الانتقام من أنفسهم.”. ومن خلال الشغل على هذا الكمين الذي وقعت فيه مجلة رصينة يبينان أنهما لا يسعيان إلا إلى تبيين أن مثقفين كبارا من أمثال “لاكان، وكريستيفا، وإريغاري، وبوديار، ودولوز أساؤوا بشكل متكرر استخدام مفاهيم ومصطلحات علميّة: إما بتوظيف أفكار علميّة خارج سياقها كلّيا، دون تأمين أي مبرّر.. أو نثر عبارات علميّة أمام قرّاء غير مختصّين في العلم دون اعتبار لتعلّقها أو حتى معناها.”. ومن خلال هذه المجابهة الحادة بين العلم وتخومه من العلوم الأخرى المجردة خرجت ببعض الملاحظات:
كان أول ضحاياهما عالم التحليل النفسي الشهير الذي بنى نظرياته النفسية المحتفى بها على الرياضيات، وأساسا تتمحور حول الطوبولوجيا، فرع الرياضيات الذي يتناول (فضلا عن أشياء أخرى) خصائص المواضيع الهندسية – السطوح، والأشياء الصلبة، وما إلى ذلك. ورغم وجاهة ما عرضاه من التباسات عديدة في فهمه لكُنه النظرية الرياضية، إلا أني ارى أن هذا القصور لا يقلل من أهمية استنتاجاته، وبغض النظر عن التبجح العلمي الحاد إلا أنه علينا ان نحترم جهده مثلما نحترم جهد غطاس مهنته صيد اللؤلؤ غاص لساعات طويلة دون أن يعثر على لؤلؤة. وواضح أن لاكان غاص ردحا من عمره في الرياضيات وإن لم يوصله غوصه إلى العمق الذي يصله المحترفون.
فلاعب الجمباز كل ما يفعله تحكمه قوانين رياضية وفيزيائية وهو لا يفهم فيها شيئا. وهذا لا يمنعنا من الإعجاب والتصفيق له رغم أنه لم يقدم أي خدمة ملموسة للمجتمع سوى الترفيه. فلتكن تحليلات لاكان نوعا من الترفيه الفكري. لكن من جانب آخر يظهر لاكان من خلال بعض اقتباساته المشوشة مثل الساحر الذي يستخدم خدعا بصرية لإبهار جمهوره باستخدامه خدعا علمية للغرض نفسه، وفي ثنايا الكتاب نجد الوصف نفسه لمفكرين كبار بنوا صروح أطروحات مفصلية في النقد، مثل: البنيوية أو ما بعدها، أو السيميوطيقيا، أو النقد النسوي أو تيار ما بعد الحداثة عموما، والذين يوصوفون في هذا السياق بكونهم يعكرون بركة الماء كي تبدو عميقة.
لقد أسعفت مصطلحات الفيزياء الكثير من ظمأ لغة النقد الأدبي الذي كان يصوغ نظرياته دون العثور على مصطلحات مناسبة أو دقيقة، ولن نستغرب ذلك لأنه كان للخيال دور كبير في ابتكار الكثير من النظريات والقوانين الفيزيائية التي اعتمدت على الحدس والمخيلة الذكية قبل أن تؤازرها التجربة بقدر كبير من الوجاهة. ولا ننسى أن بور قال في إحدى محاضراته وهو يحاول شرح وقدة فيزيائية: أحتاج إلى لغة الشعر كي أشرحها أفضل. حين أحس بعجز لغته العلمية في توصيلها.
من جانب آخر يرى مؤلفا الكتاب أنه لكي تستخدم القواعد العملية في مجازات الكتابة في علوم إنسانية مجردة لابد أن تكون ملما تماما بدقة الأطروحة العلمية، رياضية أو فيزيائية، كي تعتمد عليها في توصيل فكرتك بدقة في سياق النقد الأدبي أو الفكر النسوي أو التحليل السوسيولوجي أو الفكر السياسي، أو على الأقل إيضاح المبرر المنهجي الذي جعلك تعتمد على قاعدة رياضية أو قانون فيزيائي. فهل من الضروري أن يكون المفكر أو الناقد ضليعا في النسبانية مثلا كي يسحبها على مجالات أخرى في السياسة أو الاجتماع أو النقد، أم تكفي جرعتها الارتيابية كي تجعله يتخذ موقفا من الحقيقة أو اليقين الذي يسم أحيانا هذه الحقول التأملية دون حتى خضوعها للتجربة أو الاختبار العلمي. من ضحايا هذا الكتاب المفكرة النسوية أريجاراي التي اتكأت على الرياضيات لتحليل طبيعة الجنس أو عملية الحيض، والتي وصفاها بالتجرية الفاشلة، ولكن لا يمكن ازدراء محاولتها والسخرية منها بهذا الشكل، على الأقل لأن حقل العلم نفسه زاخر بالتجارب الفاشلة والاستنتاجات المحبطة التي شكلت جزءا من تاريخه ومن قدرته على التجاوز.
هل من الممكن أن يذهب بنا هذا النهج الاستجوابي ــ الذي يصدر عن جدل بين مفكرين يحاولون إخضاع مجالاتهم لمرجعيات علمية، أو يشككون في جزمية العلم، وبين علماء يدافعون عن حقلهم بضراوة، ــ إلى أن نعتبر استخدام الشعراء أو العشاق لمجازات القمر لا مبرر له، أو هراءً، طالما لا يعرفون طبيعة القمر الجيولوجية ولا مجاله المغناطيسي ولا وجهه الآخر القاحل…. إلخ.
لكن من ناحية أخرى، المؤلفان يحددان موقفهما من فلاسفة ومفكرين يستخدمون هذه التمثيلات المبهمة من باب استعراض سعة إطلاعهم، أو قمع القارئ بعمق غير حقيقي في كتاباتهم، مستعينين بأمثلة تستحق التوقف، ما يجعلهما يسمان هذا النتاج الذي نقل الفكر أو النقد إلى مناطق أخرى، بأنه هراء على الموضة، أو مجرد تصميم لأزياء جديدة ومؤقتة تبهر الملاحِظ بغرابتها دون حتى أن يفهم حس المغامرة أو الشطح فيها.
هل من الممكن أن نلمس أغلوطة رجل القش في مثل هذه المقاربات التي تنتقي حالات القصور أو الضعف في بعض االسرديات الإنسانية وتهمل نجاحاتها أو مكامن قوتها في أجزاء أخرى، وهي نجاحات يدين لها التطور الملحوظ في النظرة الشاملة إلى علوم السياسة والاجتماع والنفس، وفي مجالات الكتابة النسوية والنقدية وغيرها.
ما الذي يجعل كتاب (المكان والزمان والجمال الذي ينشر الفوضى) عن العلاقة بين فيزياء إينشتاين ولوحات بيكاسو مهما؟ ألا يكمن سر المقارنة والتأثر والتأثير بين عالم فيزياء وفنان رسم في كونهما تعرفا على عالم الرياضيات نفسه (مينكوفسكي)؟، هل من الممكن أن نعتبر ثورة بيكاسو في الرسم التي استلهمها من البعد الرابع مجرد هراء لأنه لا يفهم تماما معنى هذا البعد الرياضي رياضيا وفيزيائيا. (لوحة آنسات أفينيون) خصوصا، التي تعرض شظايا متزامنة من منظورات متعددة.
حقيقةً، المؤلفان لما يتطرقا إلى الفن في الأساس، وركزا على من يعتقدان أنهم يكتبون بأسلوب علمي رصين اعتمادا على ابتكارات العلم، ويبهرون قراءهم دون أن يفهموا شيئا بشحنهم لهذا الغموض العلمي بمزيد من الإبهام. ألا يمكن أن نتعامل مع كل هذا النثر في العلوم الإنسانية بنظرة الإلهام نفسها التي استفاد منها فنانون عظام لم تكن لهم الدراية الكافية بما زودهم به العلم من طفرات في الخيال، وفي الموسيقى الكثير من الأمثلة، فوفق ما يقر به كونديرا استخدم الموسيقي سترافنسكي بكونه قوانين رياضية في مشروعه ليجعل من الموسيقى نتاجا موضوعيا، وترتب عن هذه الفتوحات قفزة مهمة في النقد الفني في ما بعد. “يحكى أن موسورغسكي وبينما هو يعزف سيمفونية شومان على البيانو، توقف قبل فصل التنمية وصاح: هنا تبدأ الرياضيات الموسيقية. كما يذكر كونديرا في كتابه (الوصايا المغدورة).
لو أن هذا التبجح العلمي (وهو لا يخلو من التواضع أمام الغموض) استُخدِم ضد بيكاسو أو دالي أو سيزان أو شومان أوسترافنسكي الذين استفادوا من وحي الرياضيات في ابتكار نقلات مهمة في مشاريعهم، فماذا سنكون خسرنا؟
أرى في خطاب الكتاب تعصبا متطرفا وضربا من احتكار العلم، مثل احتكار رجل الدين للنصوص المقدسة كاختصاص أصيل، وقمع المجتهدين أو الهواة من التطرق إلى أمر لا يفهمونه أو كما تقول أريجاري، يحولون “العلم إلى أنا أعلى جديد” في صدد نصيحتها للنساء بألا “يقبلن أو يوافقن على وجود علم كلي محايد“.
الكتاب يصفي حسابه مع مابعد الحداثيين بهدوء وحذاقة ، دون أن يستطيع إخفاء سوء الطوية والرغبة في انتقام مشيد فوق صرح موضوعية متبجحة، ويظهر ذلك بداية من اسم الكتاب المستفز والتعميمي.
بوابة الوسط، الثلاثاء 03 مايو 2022