طيوب عربية

يا جابري إلى أين؟!

من أعمال الفنان محمد الشريف.
من أعمال الفنان محمد الشريف.

طوفان | نص: عبود الجابري (العراق)

لديَّ ما أقولهُ عن السفينةِ

عن أوّل من جلس على قيدومها

وغمر الماءُ قدميه

لديَّ فكرةٌ عن خشبها

والمسامير التي تآكلت في قلبه

فكرةٌ غامضةٌ عن حيرة النبيّ

حاملاً في جيوبه، وصايا الحالمين بالغرق

حنينَهم الموجعَ إلى التراب

عندما يخونُهم الماء

لديَّ كذلكَ فكرة حزينةٌ

عن الحمامةِ التي تمضي إلى البرِّ

ولا تجدُ أثراً لشجرة الزيتون

لديَّ حزنٌ قاتلٌ

على الولد الذي تنكّر لأبيه

وأوى إلى الجبلِ

كنتُ أريد أن أسأله فحسب،

عن حزنِ أبيه

عن آخر جملة لم يقلها

آخرِ أغنيةٍ ترنّم بها

 قبل أن يملأ الماء فمه ويموت

تشرين الأوّل 2022


لا يتركنا الشاعر عبود الجابري في حيرة التكهن، تراه أي سفينة يقصد، إذ أنه من العنوان (طوفان) يحيلنا إلى ذاك الطوفان، ثم هو يأتي بها مُعرفةّ (السفينة) هذه التي يشي بسيرتها من أول السطر (لديّ ما أقوله)، ويؤكد هوية، (أول من جلس على قيدومها).. بلا تفكير تأتي تلك (السفينة) إلى مخيلتنا أو ربما نرسم لها صورة ونحن نواصل القراءة، ربما تأتت تلك الصورة من قراءتنا لحكايتها في سور (القرآن)، والكتب المقدسة. يأخذنا الشاعر إلى ساحة (مفتوح فضاؤها) وهو يؤكد أنه:

 لدي ما أقوله عن السفينة،

عن أول من جلس على قيدومها …

وغمر الماء قدميه..

ترى أي ماءٍ هو الذي غمر قدميه؟ هل هو الماء الذي فاضت به السماء وتدفقت به الأرض وغمر كل شيء؟ ها هو هذا الذي يقول شاعرنا الجابري، أنه يعرف هويته: (أول من جلس… وغمر الماء قدميه).. يراقبه شاعر من وراء ضلفات الزمن المتراكبة، يكشط رسومها ويعري رقومها ليقرأ، (لديّ فكرة عن خشبها…)، كأن هذي الصورة لا تغرينا، الخشب الذي ظلّ نبيّ وصحابه يؤكدون به (تفردهم) ليصنعوا (السفينة)، ولكن (والمسامير التي تآكلت في قلبه)، تآكلت المسامير في قلب الخشب، بعد أن كانت هي  التي التأمت بها الالواح، أم تحيلني الصورة  لمعنى موجع  عن هذا النبي، الذي كانت المسامير  تنغرس في قلبه، حتى أنها (تآكلت) من وجع روحه وحزنه، كأن الشاعر هنا يدق المسامير في قلوبنا، كأنه قرأ ما وراء الحكاية فرأي (فكرة غامضة عن حيرة النبي)، ولما الحيرة؟ سؤال يقفز ولكن، (هذا النبي) (حاملا في جيوبه، وصايا الحالمين بالغرق)، كأننا في متن رواية جديدة، الشاعر في سرد حكاية (الحالمين بالغرق) يقلب المعادلة ، وينشئ رؤية للنجاة، ويتساءل مع (حيرة النبي)، عن هؤلاء الذين أيقنوا وآمنوا، ولكن حين السفينة انداحت على الغمر، هل كان الاختيار موجعا حد أنهم (حالمين بالغرق) وأن هذا النبي (حاملا في جيوب) وصاياهم، وأيُّ وصية تنبت في قلب حالم بالغرق، كأنهم حين اختاروا السفر معه، كان ثمة حنين يَمُضهم، وأحبابا خذلوهم، وأن ذاك الإيمان الذي حملوه في قلوبهم لا يشبع جوع أرواحهم لحفنة تراب.

الشاعر العراقي: عبود الجابري
الشاعر العراقي: عبود الجابري

ثمة أسئلة تنبق من صور القصيدة- الحكاية، والنبي في جيوبه حاملا وصايا (الحالمين بالغرق) و(حنينهم الموجع إلى التراب)، يبذر الشاعر أشواكا في قلوبنا وأسئلة ممضة ترهقنا.

لماذا وهم الراكضون بإيمانهم، أو الذين يكافئون على إيمانهم بالنجاة من الغرق، الغرق الذي عرفوا أنه آتٍ، لأن (النبي – أخبرهم)، هل راودت قلوبهم غبطة النجاة، أم مزقت أرواحهم ذلة الخيانة، خيانة الأهل والأصدقاء والأرض؟!

جدا جدا، (القصائد) فخاخ تغريني بالاقتراب وتهيء لي مسربا مواربا للمعنى، ولكني حتما سأنزلق ككل مرة في مهوى عميق، وها أنا أغرتني سطور القصيدة وهذي الرؤية التي نبضت فيها، ولكن ها أنا أحاول النجاة!؟

ولكن النجاة في السير قدما، والقبض على المعنى، أو حتى محاولة الاقتراب من مكمن السر – الإبداع، ثمة وشاية عن قلب مكسور (يدعي القوة) وعن روح بلا هوية، لذا فهذا النبي، قرأ تلك القلوب والأسئلة التي تغمرها بالشك، ويفتك بهم.

حنينهم الموجع إلى التراب،

يتصاعد الشك،

(عندما يخونهم الماء)

والشاعر – الرائي، يواصل سرد أمثولته، ويحاول قراءة هذا الحنين اللافح، ها هو يؤجج نهم الحزن:

(لديّ كذلك فكرة حزينةٌ

عن الحمامة التي تمضي إلى البرّ)

الشاعر يمشي في إثر الحكاية التي نعرفها، والحمامة التي جاءت بالبشارة فحملت غصن زيتون طري مثقل باخضراره. لكن الشاعر هنا، لا يغشنا بالفرح لأن لديه (فكرة حزينة)، ولا تسأل شاعرا لما يحوّل البشارة إلى (فكرة حزينة)، لأن الحمامة (ولا تجد أثرا لشجرة زيتون) …

يا للوجع.. حتى شجرة زيتون عجفاء تحمل غصنا طريا ربما، لا تجدها هذي الحمامة حتى أثر شجرة لا نجده، لقد بحثت وطافت ورفرفت… ولم تجد (أثرا لشجرة زيتون)، ما يربك في القصيد، أنها تظهر مثل فاتنة تبذل محاسنها، ولكن حين الاقتراب يتكشف حسن باذخ في الروح، هكذا تضمر القصيدة التي تشي صورها بوضوح فكرتها، ذاك الحسن المخفي، ذاك المعنى الذي لا يتأتى إلا بالاقتراب الحارق، حين تقبض الروح على بعض المعني:

(لدي حزنٌ قاتلٌ

على الولد الذي تنكّر لأبيه

وآوى إلى الجبل) …

ها أنا أمام صورة واضحة.. ربما عن شاعر هو عبٍود الجابري، الذي يقف بحيرته وحزنه (على الولد)، الولد الذي نعرفه في حكاية النبي (نوح عليه السلام)، ذاك الولد الذي لم يؤمن برسالة أبيه، ولكن ذاك النبي هو (أبٌ). حاول أن يقود (ولده) للنجاة، هو حتى لم يطلب منه الإيمان بالإله الذي ظلّ هو كرسولٍ يدعو للإيمان بوجوده، كان النداء من قلب الأب، الشاعر يدرك هذا الألم.

لذا يرى أن هذا الولد (تنكر لأبيه).. لأنه (آوى إلى الجبل) موقنا أن (الجبل سيعصمه) ونسي أن لا حِمَىً أحَنُ وأقدر على الصون من (قلب الأب).

تري ما الذي يريده شاعر في الألفية الثالثة، من ولدٍ في حكايةٍ نقرؤها في كتاب مقدس؟ عن نداء حارق من قلب أبٍ، وعن ابن لاهٍ ومفتخر بفتوته وموقن بأن الجبل الصلد سيأويه ويحميه، ولكن الأب – النبي مدركٌ أن (لا عاصم اليوم)، إلاّ قلب أبيك أبها الولد.

أعترف أن الغرابة تلتحفني، شاعرٌ حديث يفتح بوابة الزمن، يريد أن يلتقي هذا (. الولد الذي تنكر لأبيه)، لما!؟

(كنتّ أريد أن أسأله فحسب، ….)

ترى ما هذا السؤال الذي ينخر في قلب شاعر، حتى يجازف بالعودة آلاف السنين فقط ليسأل هذا الولد:

(عن حزن أبيه

عن آخر جملة لم يقلها

آخر أغنية ترنّم بها ….)..

هل يستطيع ولد (تنكر لأبيه) أن يجيب عن سؤالٍ/ عن حزن أبيه/ لو أنه أدرك عُشرا مما في قلب الأب من حزن، لكانت يداه امتدتا وتشبثا بهذا الحب، هذا سؤال لن يجيب عنه، قد يجيبك عن آخر جملة لم يقلها.. أقول قد، وأخمّن، ترى سيقول: أحبك يا أبي، أم يكتفي بتلك الجملة (سآوي إلى….)

وأي أغنية ستكون في قلب ابن جاحد لنعمة الأب؟!

(قبل أن يملأ الماء فمه ويموت)..

ترى في تلك، حين تحقق اليقين بالهلاك، تراه ذاك الولد، أيقن أن قلب أبيه هو الملاذ الآمن … تراه هذا الأب – الوطن.. وأن النجاة هنا …وليست في أي مكان!!؟

ترهقني هذه المحاولة في قراءة القصيدة، وكأني مع الشاعر في تحدٍ، إذا!! هذه محاولتي وأنت أيها الشاعر، يا جابري إلى أين ؟!…

مقالات ذات علاقة

ما بين الخصب والحرث، وردة

المشرف العام

مقالي غضبة فنّــــــية في حق أدب الطفل

حسين عبروس (الجزائر)

حركة كوش ماجد عدوان سودانية

نعمان رباع (الأردن)

اترك تعليق