المقالة

أيام في طرابلس

مصطفى محمود

السرايا الحمرا - قلعة طرابلس (الصورة: عن الشبكة)
السرايا الحمرا – قلعة طرابلس (الصورة: عن الشبكة)

أغل الخمور ما كانت معتقة..

كلما زاد عمر النبيذ في الدنان زاد سعره.. هكذا يقول المدمنون.

والحضارات شأنها شأن الأنبذة كلما ضربت بجذورها في الزمن زادت عراقة ونبلا.. وكذلك المدن عظمتها بتاريخها ونصيبها من تقلب الأحداث.

كان هذا ما خطر لي وأنا أتمشى على شاطئ طرابلس.. فكل ذرة رمل كانت تقول لي هنا تاريخ تحت أقدامي حيث تلمع أصداف البحر.. من أغوار الزمن السحيق.. منذ عشرة آلاف سنة.. تقول لنا خريطة العالم القديم.. كان هذا الشمال الإفريقي مسرحا للفيلة والغزلان والزراف والثيران والأسود والنمور.. وكان الليبيون الأوائل يعبدون الشمس والقمر ويصنعون الأسلحة من الصوان ويصنعون الأوانى الفخارية من الطين المحروق ويستعملون الوشم.

ويمضى شريط التاريخ بضعة آلاف أخرى من الأعوام.. فأرى رسل خوفو يأتون إلى عذا المكان خطابا يبحثون له عن عروسة ليبية يتزوجها، ليأمن بهذا الزواج غارات الليبيين ويتفرغ لبناء هرمه الذي كان يحتاج لعشرين سنة من العمل المتواصل..

ثم بضعة آلاف أخرى ويخرج من هنا رجل اسنه «شيشنق» يغزو دلتا النيل وعكمها 200 سنة ونعرف أسرته بين الفراعنة بالأسرة الثانية والعشرين.. ثم يأتي الغزاة كأرجال الجراد. ويرتفع صليل السلاح ويتخضب ذلك الشاطئ الهادئ الجميل بالدم.

وتمضى مواكب خلف مواكب.

الإغريق.. الفينيقيون.. العرب.. الإسبان.. الأتراك.. الطليان.. الانجليز.. وأساء مدوية.. الإسكندر.. بطليموس.. عمرو بن العاص.

وجيوش بعد جيوش تصبح تراباً.. الرياح.. وأطماع تذروها الرياح.. ومدن تدفنها الرمال..

هنا بقايا قوس ماركوس أوريليوس.. وهنا حمامات وأسواق رومانية.. وفى بلدة سيرين القريبة معبد أبولو. ومن هذا الباب دخل عمرو بن العاص سنة 23 هجرية ى جيش من خسة آلاف جندي..

وفى سنة 568 هجرية جاء قراقوش المشهور من مصر غاضبا مغضوبا عليه من الأيوبيين ليدخل طرابلس من هذا الباب غازيا ومعه عسكر كثير وبنهب ويسلب ويقود البغال محملة بالذهب إلى قابس..

وهنا جلس بدرو نافارو القائد الإسباني بعد أن فتح المدينة ليكتب إلى نائب الملك فرديناند قائلا:

أيها السيد هذه المدينة طرابلس أعظم كثيرا مما كنت أظن.. وبالرغم من أن جميع الذين وصفوها قد أجادوا الوصف فإني أرى أنهم لم يجتازوا نصف الحقيقة. وبين جميع المدن الى شاهدت في الدنيا لم أجد مدينة تضاهيها سواء في تحصيناتها أو في نظافتها.. وهي تبدو كمدينة إمبراطورية أكثر منها مدينة لا تخص ملكا واحدا.

ومن هنا مر «التيجاني» المؤرخ حينا كتب في كتابه «رحلة التيجاني».. (ولما توجهنا إلى طرابلس وأشرفنا عليها كاد بياضها مع شعاع الشمس يعشى الأبصار، فعرفت صدق تسميتهم ها بالمدينة البيضاء)..

ويضيف؛ مكان آخر.. (ورأيت شوارعها فلم أر أكثر منها نظافة ولا أحسن اتساعا واستقامة، وذلك أن أكثرها تخترق المدينة طولا وعرضا من أولها إلى آخرها عل هيئة شطرنجية، فالماشي بها مشى الرخ خلاها.. (الرخ هو قطعة الطابية في الشطرنج ).

وعن الغزو الأسباني نعثر على خطاب كتبه الملك فرديناند إلى قائده..

استلمت رسائلك الثلاث الخاصة بتموين الحملة وقد أمرت بأن يكتب إلى الونزو حتى يطحن بأسرع ما يمكن ألف كيس من القمح ويجهز كمية من البقسماط المجفف تكفى ثمانية آلاف رجل مدة 15 يوما.. كما كتبت إلى خازن أموال ملقا بصرف عشرة آلاف دوكات ووضع كل ما يملك من إمكانيات التموين تحت تصرفكم..

هكذا كانت تدبر المذبحة لأهل هذا البلد منذ أربعمائة سنة..

وفى صباح الخميس 25 يوليو سنة 1510 داهم بدرو نافارو طرابلس في أسطول من 120 سفينة على متنها 15 ألف جندي إسباني وثلاثة آلاف من المرتزقة الإيطاليين والأوربيين.

وكان العرب يدافعون من ورا هذه الأسوار ومن خلف هذه القلعة ذاتها وما زالت قائمة بأبراجها.. ومن هنا كانت النبال وقذائف اـلحجارة والنار الفارسية والمياه الفائرة تتدقق في محاولة لإيقاف جحافل الغزاة.

وفى ذلك اليوم استشهد خمسة آلاف عربي وأسر عشرة آلاف آخرين بيعوا كرقيق في أسواق صقلية بسعر 3 إلى 5 دوكات للرأس..

وتذكر الرواية أن يهود إيطاليا افتدوا أبناء جنسهم اليهود الذين أسروا في المعركة، أما ما تبقى من العرب فقد هربوا إلى تاجوراء وإلى جبال الغريان.. وسقطت طرابلس بعد حرب أريع ساعات..

ويروى لنا التاريخ أن بدرو نافارو الذي أبحر بعد ذلك بجزء من الأسطول ليغزو قرقنة ويحقق أحلام أسبانيا التوسعية عاد بهزيمة منكرة بعد أن فقد 90 سفينة وتسعة آلاف قتيل..

واضطرت الحامية الإسبانية أن ترحل عن طرابلس تحت وطأة المقاومة الليبية والنجدات المستمرة الى تأتى من الداخل.. ونعرف من التاريخ أن طرابلس بلغت أوج عظمتها في عهد «أحمد باشا القره ماللي» وهو تركي مثل محمد على باشا في مصر استقل بحكم ليبيا.. وأنشأ دولة قرة ماللية مستقلة عن الباب العالي العثماني..

وفى هذا العهد بلغت البحرية الليبية من القوة درجة جعلت كل الدول تدفع لها جزبة سنوية لتأمين مرور سفنها فى البحر المتوسط.

وحينما رفضت بحرية السويد سنة 1769 دفع الجزية.. أسرت البحرية الليبية سبع سفن سويدية ولم تجد السويد سوى نابليون لتوسطه في عقد صلح مع ليبيا وإطلاق السفن الأسيرة. ويومها دفعت السويد ثمانين ألف فرنك غرامة.

طرابلس العام 1967 (الصورة: عن الشبكة)
طرابلس العام 1967 (الصورة: عن الشبكة)

ونجد أن أمريكا تسعى بعد ذلك بقنصلها لعقد صلح مشابه وتوسط حسن باشا والي الجزائر ف ذلك الوقت لتأمين مرور سفتها في مقابل تعريفة سنوية.

ثم نجدها في سنة 1803 ترسل السفينة اـلحربية فيلادلفيا بقيادة بامبريدج لغرب طرابلس انتقاما من تهديدها المستمر لأساطيلها.. فتكون النتيجة ضرب فيلادلفيا وإغراقها أمام هذه الشواطئ وأسر بامبريدج.

وفى سنة 1804 نجد أسطولا أمريكيا من 14 قطعة يضرب شواطئ طرابلس بدون جدوى.. وفي سنة 1805 تعترف أمريكا بسيادة ليبيا عل البحر وتوقع معاهدة تدفع فيها 60 ألف دولار لاسترداد أسيرها بامبريدج.

وهكذا عرف هذا الشاطئ ذرى المجد ومهاوى الذلة وتعاقبت عليه الأحداث.. حتى التتار لم ينج من أهوائهم.. ففي سنة 440 بعد الميلاد أغارت جيوش الوندال (وهي قبائل تترية) على طرابلس ونهبت وخربت وأحرقت وأحالت لبدة إلى كومة من الحجارة والتراب. وفر أهلها أمام الوندال إلى النجوع والقرى البعيدة.. واستمر حكم الوندال إلى سنة 443 إلى أن أقبل بلزاريوس القائد الروماني في أسطول عظيم وهزم الوندال.. وشنق ملكهم قاليمار وأعاد ملك روما لروما..

وكان شر ما عانى هذا الشاطئ في أيام الاستعمار الإيطالي.

وكانت أولى محاولات إيطاليا الاستعمارية في أواخر العهد العثماني الثاني سنة 1911 وبدأت على استحياء.

أنشأت جالية إيطالية قوية ف ليبيا..

وفتحت مدارس إيطالية مجانية..

ومستشفيات ومستوصفات..

وأرسلت الجواسيس تحت ستار البعثات العلمية..

وأهم من هذا كله أنشأت بانكو دى روما وكانت مهمته إقراض الملاك الليبيين الفقراء ثم نزع أملاكهم.

وكانت أنشودة رجل الشارع في هذه الأيام «آه يا طرابلس الجميلة».

ثم أسفرت إيطاليا عن نواياها فأعلنت الحرب في 29 سبتمبر سنة 1911.. وبدأت المذابح.. والحرب التي قدرت لها إيطاليا أن تنتهي ف 15 يوما امتدت إلى عشرين.. فلم تستسلم ليبيا إلا سنة 1931 بعد كفاح دام قضى عل نصف سكانها..

وفى سنة 1937 جاء موسولينى إلى هذا الشاطئ في موكب وهيلمان، ومثلت الإدارة مهزلة إهدائه سيف الإسلام وحامى حمى الدين.. في الوقت الذي كان يطعن فيه الإسلام ويلزم خطباء المسجد المساكين بالدعاء على المنابر يوم الجمعة للملك عمانويل بدل الدعاء لخليفة المسلمين ويلقى المتمردين من الطاثرات. كان المجاهدون يشنقون ف الميادين العامة وتسبى النساء وتغتصب الأموال. وتفرض اللغة الإيطالية كلغة أولى في المدارس وينفى الوطنيون بالألوف.. وعل من يريد أن يضمن حرمة منزله وأملاكه أن يتجنس بالجنسية الإيطالية..

وعل كل طفل ليبى أن ينشد ف المدرسة نشيد الصباح:

إننا أبناء روما

جندها نحن القدامى

قد سعينا الألف عاما

ثم عدنا للعهود

وآلاف من المهاجرين الإيطاليين والمستوطنين يجلبهم الشاطئ كل يوم.. ولكل إيطالي أرض مجانية يملكها وفيلا يسكنها وحدائق غناء تثمر له الفاكهة والتين والزيتون..

ثم يروي لنا التاريخ هزيمة الفاشية في الحرب ، وجثة موسولينى التي بصق عليها مواطنوها..

أيام..

لقد شهدت أياما يا طرابلس..

من كان يظن أن الصحافة بدأت في طرابلس منذ 140 سنة بجريدة مخطوطة باليد كان يصدرها القناصل في نسخ محدودة.

ثم أصدرت طرابلس بعد هذا «السالنامه» بالتركية والعربية والمطبعة الحجرية وصدر منها 11 عددا.

وى سنة 1866 بدأت جريدة طرابلس الغرب التي ظلت تصدر أكثر من 40 عاما في العهد العثماني، وكانت أول جريدة تتقاضى اشتراكاتها نقدا، فقد كانت أكثر الصحف قبل ذلك تتقاضى اشتراكات عينية.. كذا شوالا من الشعير وكذا مكيالا من القمح مقابل أشتراك سنوي..

ومنذ سبعين سنة كانت في طرابلس سبع صحف.. الترقي، والعصر الجديد، والكشاف، والرقيب، وأبو قشة..  وغيرها وغيرها ف ظروف طباعة بدائية، وفق أسوأ ظروف الاستعمار الإيطالي.. نقرأ هذا في كتاب على مصطفى المصرات «صحافة ليبيا » وعل المصراتي وهو عقاد ليبيا لا تستطيع أن تعرف أي شيء عن ليبيا دون أن تمر عل كتبه..

وفى ليبيا زهر جديد طالع كالنوار أمثال أحمد الفقيه، وبشير الهاشمى، ويوسف القويرى، وعل صدقى.. يكتبون القصة والمقال والشعر.. وقى ليبيا أبطال بذلوا دماءهم فداء ومحبة أمثال سعدون وغوما وعمر المختار وسوف تكون لنا وقفة طويلة مع بعضهم.

وليبيا ما زالت تتكلم العر بية بالرغم من عشرات الغزاة الذين حاولوا فرض لغاتهم بالسيف والمدفع.. وهي مسألة تدعو للتأمل.. فالعرب أتوا غزاة هم الآخرون.. وأتوا بالسيف.. ومع ذلك تقيلتهم ليبيا مفتوحة الذراعين وتشربت لغتهم وحضارتهم ثم تحولت إلى مدافعة عن العروبة والعر بية أكثر من العرب الأوائل الذين غزوها.

وربما كان هذا هو الدليل القاطع أن ما فعله العرب بالعالم لم يكن نشرا للعقيدة بالسيف وإنما كان نشرا لحضارة.

ومأ انتشرت العقيدة بالقوة وإنما بجاذبيتها الذاتية وبما حملته للناس من صدق وسماحة ومحبة.. حقيقة وساطعة مثل شمس هذا الشاطئ المشرق..

وما زالت الأمواج تحت قدمي تتلاطم..

والأيام يتداولها الخالق بين الناس..

وعاصف التاريخ لن يهدأ..

لا الإمبراطوريات تظل إمبراطوريات، ولا العبيد يظلون عبيدا..

ترى ماذا تخيئ لك الأيام يا طرابلس..

يا أعز من أحببت ذات شتاء في عام 1967..


عن كتاب (حكايات مسافر)، مصطفى محمود، دار المعارف، 1993، الطبعة الرابعة.

مقالات ذات علاقة

هابيتوس العودة الفلسطيني

نورالدين خليفة النمر

الإيسوقلوس في ليبيا

المشرف العام

بلادُ وَأدَ مؤرخ اللحظة!

أحمد الفيتوري

اترك تعليق