النقد

آليَّات اشتغال التجريب على مستوى الشخصيَّة السَّرديَّة..  في رواية “علاقة حرجة لعائشة الأصفر

رواية علاقة حرجة للرواية عائشة الأصفر
رواية علاقة حرجة للرواية عائشة الأصفر

كان التجريب دافع الكاتبة لاقتحام عوالم مخبَّأة تحت عباءة الراكد والثّابت برؤية إبداعية صنعت خطابًا سرديًّا متميِّزًا بأدواته وصيغه، باحثًا عن مكانة حداثية تميِّزه عن بنيات النص الكلاسيكي بأنساقٍ تخييليَّةٍ منبثقةٍ من آليَّاتٍ خلَّاقةٍ متملِّصةٍ من ربق الجامدِ، محلِّقةٍ في آفاقٍ جديدةٍ لخلق دلالةٍ نصَّيَّةٍ فاعلةٍ أنتجت أشكالًا فِّنيَّةً معتدَّةً بذاتها، متوافقةً ومذهب التجريب وتجلياته التي تطرح الأسئلة أكثر من تقديم الإجابات، وتُجاوز حدود الواقع، والانفلات من الزمان والمكان داخلَ النص ومستوياته اللغوية المختلفة، واستيعاب علائقه الدلاليَّة التي أقيمت عليها حدود الرواية؛ أذ تُصوِّر الكاتبة من خلالها رؤاها وموقفها من الحاضر، بل تجاوزه لتقديم تنظير فكري يتناسب وثقافتها ورؤاها منخرطةً في الحكي الفانتازي حينا،  والاعتيادي أحيان أُخر،عاملةً بجدٍّ على تفعيل الوعي الإدراكي للقارئ، والوصول به إلى أقصى غاياتها بدفعهِ إلى المشاركة الفعلية في بناء نصٍّ غيرِ نمطيٍّ بفكرٍ كانت منذ البدء حريصةً على إنشائه بأفق القارئ التأويلي في مناقشة متباينة عن الموت والحياة والواقع والمأمول لتمتلئ الرواية بأسئلةٍ ديناميَّةٍ تفرضها التطوُّرات الحثيثة للأحداث، واسترجاع الأزمنة ومفاجآتها التي كسرت خطية الزمن، وإحضارها لأصواتٍ متعدِّدةٍ يُعيد كل صوت منها – وبطريقته – نظرتنا للواقع والحياة ” فحينما يريد المرء أن يعثر على شيء جديد حينئذ عليه أن يجرب “(1). 

نحن هنا أمام نص يبحث بجدية عن آليات مستحدثة تتملَّص من رتابة وجاهزيَّة النص الكلاسيكي وقواعده الثابتة، نص إبداعيٍّ متمرِّدٍ تشكَّلت فكرته وفق منظوره المنحرف على ما هو عقيدي ينسج شبكة من الاستدعاءات الإبستمولوجية تُحوِّل تجربته إلى جماليَّةٍ ترتبط ومركزية المصطلح التجريبي بخطاب الحداثة وما يحمله  من حمولات حضارية وفكرية ليكوِّن ممارسةً سرديةً متطوِّرةً ومتجدِّدَةً لا تقع في التكراريَّة وجاهزيَّة الأفكار المسكوكة برؤيا مغايرة للذات والمجتمع والتاريخ، مستدعيةً كلَّ ما هو غير تقليدي في شخصياتها  العجائبية وخط رواياتها ومنحنياتها وعقدها؛  لتعرية واقع متحرك نحو لا استقرارٍ ولا يقينٍ.

اقتحمت “عائشة الأصفر” عالم التجريب، أو ما يسمُّونه الرواية الجديدة، أو الواقعية الجديدة، أو الحساسية الجديدة (2)، لتصوير واقعٍ مليءٍ بالتناقضات والصراعات والعنف.” بغية الوصول إلى حقيقةٍ فنيَّةٍ؛ وعادةً ما يتحقَّق هذا التجاوز عن طريق معارضة الواقع والخروج إلى منطقة الخيال، بل المبالغة في بعض الأحيان “(3)؛لذا  اختارت  الكاتبة أن تكون الشخصية أهم ركائزه، فالتجريب خلق من جديدٍ لا يعرف إلا البحث والاكتشاف والتعبير لذلك يحاول جاهدًا التخلص من الثبات ويتجاوز الممكن والمستحيل ” (4)،فابتعد عن التقليدية في بناء شخوصه من ناحية التبئير الخارجي وحضور الوصف وكثافته ولغتهم السردية المبتكرة والمتنوِّعة، فتداخلت اللهجة بالفصيح بالعامي، وتفاعلت الأنواع الأدبية بين شعر فصيح وعامي وغنائي وأساطير، فكانت الرواية حقلًا قائمًا على تجريب الوعي وقدرته على التفكير الحر وطرح الأسئلة.

 تراوح شخصياتها بين عالم فيزيائي وآخر ميتافيزيقي خيالي بمقياس العقل والعادة بفضاءاتها غير المحدَّدة، فكانت أهم محاور السرد، والركيزة الأساس التي تأسس عليها العمل الروائي، والقطب الذي انطلق منه الحدث اللّاطبيعي من خلال الميزات الخلافيَّة المتجلِّيَة في سلوكيَّاتها المتجاوزة للواقع والمنطق عبر خاصيّة التعجيب، وتوظيف لعبة الامتساخ والتحوُّل لتضعنا بين عالمين متناقضين: الحقيقة والوهم، الحسِّيَّة والتخيُّل، أمام حدث خارق للعادة والتوَقُّع المنطقيّ، وبين اللّامنطق والغريب وبين العقل وقوانينه.

وسنقف هنا على دراسة بعض هذه الشخصيات التي سايرت العمل من أوّله حتى آخره باشتغالٍ جماليٍّ تمحور حول قيمة الحكي بفنية أقيمت على الملفوظ الروائي فكانت من أبرز لبنات النص التركيبية.

سنتفحص طبيعة هذه الشخصيات العجائبية منها والاعتيادية، وذلك من حيث وظيفتها  ودلالتها وبنائها، وطريقة تقديمها ، وتركيبها ضمن العجيب والخارق الذي لم يعتَدْهُ القارئ ووافق العادة والحال وبين نمطيتها واعتياديتها والعلاقات التي تكوَّنت بينَها،   ونلاحقها باستقراءِ ووصفِ وتحليلِ عوالمها السايكولوجية  بتناقضاتها وتشتُّتها، وقضاياها ،وأسئلتها ،وأفكارها ،ورؤاها ،وتفاسيرها للحياة ،والتاريخ ،وتبايناتها، وتمظهراتها، ،ومعاناتهم الوجودية ونظرتهم الشمولية بين الحاضر والماضي، ومواجهة الواقع بسؤال مفتوح النهايات.

وقد أفادت هذه الدراسة من جل المناهج التي رأى البحث أنه بحاجة إليها اعتقادا منه بتكامل هذه المناهج وتشابكها وهدفها الواحد في فهم وتحليل وقراءة النص الأدبي.

وهذه الشخصيات مجال البحث ستكون على النحو التالي:

جبر، وبنية التحول العجائبي :

قدَّمت عائشة شخصية جبر بطبيعتها الخاصة بوعي مطلق متعال يتمثل في ابتكار طرائق غير معبَّدة ولا مرصوفة يتجاوز الاعتيادي والمألوف بحمولات معرفية مختلفة تقاسمنا فيها إشكالات وتراكيب هذه الشخصية بتحدِّياتٍ دقيقةٍ تعتمد فيها على القارئ المنتج لنصوصٍ موازيةٍ ومكمِّلةٍ،حيث عملت الكاتبة على تقديم جبر بطريقتين داخل المبنى الحكائي، الطريقة المباشرة التي بدأت مبررة على نحو ما متماشية مع سياق السرد ومجاله المختار من قبلها،فتقترب من شخصيتها بما حمَّلته لها من صفات وطباع ” بشكل يترتب عنه توفير الوضوح وتحقيق المقروئية الضروريين لبناء الشخصية الروائية الناجزة” (5)، فيقدِّم نفسه بشكلٍ متواترٍ عبرَ الملفوظ السردي بصورة مباشرة وبضمير المتكلم:

*”جبر.. جبر هو اسمي يا سيدي “(6)

*”كنت متحصِّلا على دبلوم معهد عال في الحاسوب”(7)

*”تجاوزت الخامسة والثلاثين 8

* “أنا أصدِّق كل من أحب “(9)

*”درست بمدرسته (الحي2) الحكومية المختلطة حتى التاسع، مدرسة شهداء تاقرفت”(10)

* “كنت أصلي الجمعة في مسجد سيدي بن همال” (11 )

* “تزوجت “غزالة” وأحببت زميلتي “فتحية” (12)

ثم يتكلَّم عن طبيعة عمله بمتاجرته بالممنوعات:

*” كانت غزالة رخصة عبور سيارتي في بوابات التفتيش… قطعة سلاح واحدة كلاشن كوف أو قطعة مسدس ولا شيء يرعبني مثل الرمانة “(13)

*”لم يبق لي في “الحي2” إلا صديقي فضل، ارتدنا مدارس الحي معًا وملعب كرة القدم معا لينتهي بنا المطاف لهذه الضاحية”(14)

كما أظهرت الرواية منذ البداية شخصيتها القلقة المرتابة الخائفة :

*” تتشوَّش الدروب تتآمر علي وأصابع الريح تتخطفني، والفرار الفرار إلى أين ؟” (15)

*” أنا عبد ذاكرة الخوف ” (16)

* “لا أريد أن أموت أنا خائف (17)

وهذا العرض يتنافى طبعًا مع مفهوم ” العلامة اللغوية حيث ينظر إليها كمورفيم فارغ في الأصل سيمتلئ تدريجيًّا بالدلالة كلما تقدَّمنا في قراءة النص ” (18)، إذ دفعت في جوف البياض كل ما يمكن أن يعرِّف بجبر في لقمة واحدة، ربما لأن جبر سيختفي ويذوب في شخصية (د.سميرة) وسننتظر تواتر العلامات والنعوت والأوصاف المسندة للشخصية … والتراكمات والتحوُّلات الطارئة عليها قبل أن تستقر في وضع نهائي آخر النص.

كما سيقدِّم لنا السرد بعض من صفات جبر السيكولوجيَّة بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ على لسان شخصيَّات أُخر تتكلَّم عنه بصفة الغائب تدعونا بدورها لاستنباط تلك الخصائص بطريقة ضمنيَّة، كأن نسمع على لسان طبيب جبر” الحمد لله لم يتقمَّص شخصية عدائية، رزقه الله وهو البسيط في بيئة متخلِّفة بعقل عالمة ذرة” (19)، أو على لسان أخته لمياء مستغيثة بصديقه فضل وهو يُقاد من قبل العساكر مشتبهين به ” جبورة يا فضل لا يستطيع أن يدافع عن نفسه وهو يعرفها، فكيف سيدافع عن نفسه وهو لا يعرفها؟” (20)

وكان فضل يَذكر جبر في بعض مراحل سرده كأن يقول: ” وتذكّرت جبر لا وزن له، جبر مواطن مهمَّش غير مقنع”(21)، ” كان جبر مسالمًا ولا يركّب جملتين ذات علاقة”(22)، ” وكثيرًا ما سر لي بحاجته للأمان”(23) كما يقول:” كثيرة مواقف جبر المسالم …. “(24) يؤكد السرد بطول منحاه على بساطة، وطيبة “جبر” ،وضعف شخصيته ،إذ يقول في ذلك فضل: ” وكم بكى حمامته ليجدها مخنوقة، ولا أشد رعبًا كاستفراد (بومريفق) به ليبتزه بذراعه المبتور حد المرفق حتى يتنازل له عن إفطاره …، وهول عقابه لولا احتمائه بظهر جدته ….” (25 ) واستمر السرد مؤكِّدًا هشاشة شخصية جبر، مخلصًا لوظيفته في تقديم العلامات الضرورية لتعريف القارئ بشخوصه الفنية وارتباطه بها محددًا خاصيَّة الثبات والتغيُّر التي تحيلنا جميعها إلى سكونيَّة شخصيَّة جبر وسطحيَّتها ومحدوديتها، والوقوف على سيماتها القارة، إضافة إلى قبح منظره الذي أشار إليه فضل في إشارته: “وتوقُّف تنفُّسها لحظات بان فيها قبح جبر” (26).

وتستمر هذه الإضاءات الضمنية المبثوثة حتى تكتمل في نهاية الرواية هوّية جبر المدنيّة، وبكل مفارقاته الاجتماعية عندما نقرأ:”إن جبر … من أب ليبي هو (زيدان المقنوط) وأم ليبية هي (جفالة حمد) ولد (بالحي 2) منذ 8 / أبريل /1982 وترعرع فيه، وفيه كَوَّم بيتهم، نزح من القصر إلى الضاحية واستوطنها، وله رقم وطني، ومسجّل بالسّجل المدني، ويحمل الجنسية الليبية، ويعمل بدوائرها الحكوميّة، ويشهد على ذلك (الحي 2) ومختار المحلة والجيران والطوابير وسيّارة الخضار والبوابات الأمنية …وقبة الشيخ صالح…. ” (27).

فكان جبر بكل هذا ” وعاء مفرغ يكتسب مدلوله من البناء القصصي فهو الذي يمده بهويته”( 28)، وبشخصيَّته العجائبيَّة اللاحقة عبر آليَّات الاشتغال على مستوى بنيته السردية التي تحوّله لمسخ إنساني؛ لنطالع هذا المشهد:

يقول جبر بالصفحة الأولى: ” في العتمة، تتخلل مفاصل بيتنا تتباعد وتقترب دونما حس، إيذانًا بقدومه ذاك الثوب الأزرق المتسربل … تنتفض جمجمتي …، تتمسَّح يده كتف جزعي وبخفَّةٍ ينسحب فوق جسدي منسابًا بنعومة ساقية حرير.. أهب من مكاني جالسًا تلحق نظراتي الذيل الحريري نحو الردهة تتباعد… وانقطعت بعد أن رمت ( سأعود) تثيرني الزرقاء أتبعها، تسحبني فيها، شقي أنا” (29)يفتتح بهذا  الخطاب القلق المرتبك يحمل كثيرًا من الأسئلة حول صاحبة الثوب والعلاقة  المراوحة بين الحقيقة والخيال، ويباغتنا بقوله ” تدفعني الريح تحف أقدامي بالكاد تلامس الثرى، كل همي الخروج من هنا(30)رجل أسلم نفسه للريح لا نعرف حتى الآن اسمه ولا صفته ولا من هو، رجل خائف مرتعب ومضطرب تتآمر عليه المسارب ” تتوشوش الدروب تتآمر علي وأصابع الريح تتخطفني، والفرار الفرار…”(31)،وهنا يبرز المكان الفانتازي منطلق القصة العجائبية، مكان “إلى حيث تريد الريح، إلى حيث لا أعلم يسير بي درب ترابي متحرك دونما إرهاق، تتسع رئتاي مع خطواتي ” (32)، ومُنحت قداسة لهذا المكان عندما أسلم روحه لقياده ” خلعتُ كل شيء أو هكذا خيِّل إلي، استسلمت للريح، للدَّرب الترابي …خلعت كل شيء إلا نعليّ” (33)،  ألا يذكرنا هذا بقوله تعالى ؟!:} اخْلَعْ نَعْلَيْك إنَّك بالْوَاد الْمُقَدَّس طُوًى  {… (34) ونتأكد من هذا التَناص الاجتراري عندما نسمع شيخ النّهر يقول لجبر :” اخلع نعليك واقترب” (35) اقتراب عجيب انقبض فيه الزمان والمكان وضاعت مقاييسه القانونية يحتار فيها جبر قائلاً :” لا أعرف كيف ولا أين سأصل وهل استغرقت رحلتي ساعاتٍ أم أيامًا، لكنني كنت شبه طائر، تيار ما دفع بي إلى هنا ” (36) .

تتحول شخصية جبر بهذا المكان يقول:” … نحو المجلس يبدو أنه أُعدَّ على شرفي أرافقه في خُشوع واستسلام وكأني بدأت أستشعر قوى خفية تحرك المكان …” (3)، لتتم بعد هذه المأدبة مراسم انتقال أو استبدال ذاكرته بذاكرة أخرى طافحة على وجه النهر الخالد؛ فالذواكر هناك بسلة ” مزدحمة ومتراصة وكأنها المتاع الأكثر استبدالًا وهي لا شكل لها ولا لون ولا رائحة، أكياس هلامية شفافة مائعة  …متنوعة الحجم تتلامس بخفة ” (38)، ذاكرة اختارها جبر لتنسيه ما رآه ببلده (والحي 2) من مآسي كان يرويها لشيخ النهر الذي أشفق عليه قائلا :”كن كالنهر يا “جبر” لا يلتفت، متجدِّد بذاته لا يأبه لعابريه ” (3)لكن جبر لا يستطيع أن يكون مثل هذا النهر، النهر الفاصل بين ضاحيته والضفة الأخرى التي يقف عندها جبر متسائلًا :” وماذا بعد الضفة الأخرى حيث أريد أن أعبر؟” (40) ” فانتازيا قادرة على استيعاب طاقات الروح والدفع بها إلى استيطان مدارات الأشياء والكائنات والتحكم في مصائرها … حيث تنعدم الحدود بين الأشياء وتتساوى في المظاهر والأبعاد “(41)،ويقرِّر أخيرًا أن  ينهي حياته بهذا المكان ويبتدئ حياته الافتراضية ” فتتوالد الأحداث وتتناسل بشكل يقوم على التّشعب، وتعدُّد مساراتها دون توجيهٍ محدِّدٍ لقد صارت الكتابة الروائية بحثًا قلقًا عن معنى الأشياء والظواهر … ومن هنا بدأ يسود مفهوم المتاهة: عالم يؤدِّي إلى لا أين، ويصعب على القارئ أن يمسك بخيط السرد”(42)إذ اختار أن يبدِّل ذاكرته متفاديًا بقية الخيارات الأخرى التي كانت معروضةً عليه من استبدال مقلتيه أو قلبه،فخضع لهذه العملية بعد أن سرد كل ما كان له بحياته،لنقف معه على هذا المشهد العجائبي الأخير له وهو في هيئة جبر ليحوِّلَهُ لذاتٍ أخرى نكتشفها في قادم الصفحات، يقول واصفًا حاله مع الشيخ :” ها هو يقرأ على رأسي ولا أميز ما يقرأ، وخيوط متوازية رفيعة على شكل شرائط حالكة السواد تمر أمام عيني، وكانت مساحة الشرائط تزيد اتساعًا فيعمّ السواد يسري شيئًا فشيئًا حتى صارت شبه ظلام، ولجة زرقاء، ويعلو صوت الشاهد يا لها من ذاكرة عصية .. يا لها من ذاكرة عصية” (43)  وتنتهي حياة جبر وشيخ النهر بمشهد غرائبي يصفه جبر:” كان الشيخ الشاهد يتناثر ريشًا فوق سطح النهر متلازمًا مع زوبعة مائية تبرم مكانها وتلتف حولي في استطالة كشرنقة وتقفز بي في جميع الاتجاهات، وظلااااام ” (44)، لتنبثق شخصية أخرى من غير المألوف حيث تبطل ما عهدناه في الواقع وناموسه ” فعجائبيتها تكمن في تكوينها الذاتي” (45) إذ تمعن عائشة في خلق عالمها المستعصي على الإدراك العقلي فتجعل القارئ مترددا بين قبول هذا التراكم النصي وإدراكه كعالم حقيقي لكنه غير قابل للفهم واستيعاب قانونه، مما منح خصوصية هذه المادة السردية العجائبية.

الروائية عائشة الأصفر

“سميرة”، الشخصيَّة الفانتاستيكيَّة :

سميرة شخصية تتحلق حولها عناصر السرد باعتبارها القيمة المهيمنة في الرواية المتكفلّة بأغلب تدابيرها، وإعطائها بعدها التجريبي فكانت مسؤولة عن نمو الحدث بتقاطعاته الزمانكيَّة، فكان السرد يصفها، وتتضح معالمها في مساراته ويمنحها بعدها المحوري أو البطولي بمصطلح أهل الحكي، إذ خلق منها شخصية ذات طابع وظيفي مؤثر وفاعل عبر دائرته العاطفية وخلفيّته المعرفية والتاريخية؛ راهنت على التّصاعد الدرامي للنّص وأمسكت بمفتاح عمله.

على الرغم من مظهريَّة سميرة الغريبة، التي كانت تجمع بين رجل وامرأة،إلا أن دقة الوصف أعطتنا صورة بصرية تجسيمية ناجحة ومؤثرة كهذه الصورة” ترتدي باروكة قصيرة، ووجه بُولغ في تنعيمه إلا اسوداد منابت الشعر، ولواقط شعر رَفعت بها مقدمة باروكتها الكستنائية الداكنة، وقميصًا مقلمًا باللونين الأصفر الهادئ والرصاصي مع تنّورة حتى الركبة وساقين لم تفلح في نزع الشعر عنهما “(46) مما أنجح الحياة النصيَّة حتى بعد عمليات الإزاحة والتنكير التي صارت بشكل أو بآخر توازي بحرفية أصلانيّة الواقع، يقول فضل:” لم أرد عليها حصلت الكلمات غصّة وانبهارا وألما، وهي تتحدث بثقة لم تمنع دمعتها في آخر كلماتها، لا أعرف إن كانت دموعها، أم دموع جبر بإحساس د.سميرة ؟ فأنا مشتت بينهما حد الخيبة، وحد الدهشة، لكنني بكيت نيابة عنهما”(47) وهذه التركيبة الصاهرة بين شخصية خيالية وأخرى حقيقية كوَّنتا ثالثة ليست خيالًا خالصًا ولا واقعًا حقيقيًّا، شخصيَّة تراوح بين الثّبات والتغيُّر يقول نصر: ” انشطر أخي بين شخصين نقيضين انبثق منها شخصية ثالثة شخصية هجين …” (48)

فهذا البعد الفارق بين شخصية “جبر” و”سميرة”، بين شخصية نامية مكثفة تأخذ باهتمام العمل السردي من خلال ما قدَّمته عن نفسها وبين ما يقدِّمه الآخرون عنها بطريقة فنية نجدها محكمة ودقيقة تتناسب مع منطق الرواية في عرضها لأبعاد شخصية “سميرة” وكشفها عن مستواها الفكري ونوازعها النفسية ومنطلقاتها العاطفية وطبيعة علاقة خارجها بجوانيتها؛ وبين شخصية “جبر” الساكنة والسطحية ” أوليست هذه الجميلة أنت؟ ملامحك مصرية بامتياز، نظرة ثاقبة بثبات الأهرام، وابتسامة متفائلة، ووجه بحياة النيل، وبشرة مزجت القطن بالشمس!…أنت على حق في أنك د. سميرة فكرًا وحديثًا وذاكرةً، لكن هل هذا الجسد الذي يحمل ذاكرتك هو جسدك؟ هل هذا هو شكلك الحقيقي؟… عليك أن تدركي أنتِ بالنسبة لنا “جبر” الذي نعرف وجهه وتاريخه جيدًا، وهذا بيته الذي خرج منه وغاب لثلاث ليال، وعاد ليقول لنا إنه د. “سميرة موسى”(49)، حيث أخضعت هذه العلاقة لمنطق التجربة الحسية للكشف عن فرضيات يستخلصها وعينا بالموضوع الذي أفرزته الظاهرة المعروضة، وذلك باختلاقها لصور لما وراء الطبيعة فتعاملت مع شخصيتها بالتجربة المتاحة التي أنتجتها علاقة الذات بالموضوع التي بدورها أفرزت الخطاب العجائبي،ومن خلاله حاولت أن تصنع مدوِّنةً رمزيَّةً تغرينا بتفكيك دلالاتها وكينونتها ومحاولة استقصاء أبعاد حكايتها بعملٍ جماليٍّ واعٍ ومبتكرٍ لا يمكننا به تجاهل” القصديّة الكامنة وراء خلقها وتشكيلها” (50)تقول سميرة :” حبيسة غابة لا إنس فيها،  لم أخبرها ببشريَّتي، كيف ستصدقُني  ” زندبيل” تلك الفيلة وهي تراني “عنز”إذا كنت أنت الطبيب ما زلت تناديني “جبر” (51).

فعلى غير ما هو مألوف بشخصيات الرواية تتحوَّل سميرة إلى “معزة ” مما يدفع المتلقي بتصديق ما تُوهم به المعلومات النصية السابقة وخلق مسافة تأويلية بين نصين أو حياتين يفترض أنهما اقتسمتا فكرة واحدة ” بكل أسف أعترف أنني بعد التفاصيل التي سَرَدتها أصدِّق فعلًا أنها ذاكرة د.” سميرة موسى” عالمة الذرة المصرية …ولم أستوعب قصة المعزة والسؤال كيف غادرها إلى “جبر”؟ يضعف واقعيتها، ربما كابوسًا قبل مماتها يعكس لا وعيها” (52)،بهذا التناوب بين  سميرة وجبر و”العنز” تسعى الكاتبة للتّبرير الحكائي؛ لتحقِّق به غرضها في انزياح الغموض عن الفكرة وتحقيق أكبر قدر من المنطقية المُوهمة، وإزالة التشويش الذي يمنعنا من التأويل مطالبين للإيضاح والمقروئية داخل مساحة الإنتاج الروائي ونضيع بين الشك واليقين لنقر بأن ” الشيء المؤكد هو إن رسم الشخصية يكون مفكرًا فيه بدقة من طرف الروائي” (53).

وإن كنا نرى في مسيرة الرواية مناصرة للرأي البنيوي الذي يرى بأهمية إرفاق الشخصيات باسم يميزها ويمنحها بعدها الدلالي الخاص؛ إلا إننا نراها مع “العنز” اكتفت بهذه الصفة غير نظيرتها الفيلة التي سمَّتها (زندبيل)عندما تعرج بحديثها لحالة تلبُّسها للمعزة لتبدأ رحلة جديدة:” أنا لا أعلم كم يوما بقيت “معزة”في مدينة الحيوان لكن” زّْندبيل” قالت لي تعيرني: طوال هذا الوقت ولم تتعلمي لأنك عنز”  (54)

” زندبيل تلك الفيلة الحكيمة  … طمأنتني  أنهم أهلي وأني معزة حساسة وستضمني لقطيع (معز)  لطيف لا يختلف عن معزها، وستسمح لي بالمواطنة والإدلاء بصوتي لاختيار رئيس القطعان  … قد يحدث في أي مكان أن الملك كما الأسد يفطر ويتغذى ويتعشى على لحم محكوميه، ولا نسأل حينها عن جدوى الانتخابات ؟ فلم نعفي الملك الإنسان ونجرم الملك الأسد حين يفعل لماذا !؟” (55)،فاكتفت “بالمعزة” إمعانًا في التّشخيص الذي يؤطِّر للمقطع المشهدي الذي ستحكيه على لسانها لتحقيق الأهداف التواصليَّة مع القارئ المحتمل  لخلق الوهم بواقعية المشهد و” تكسير لقوالب الواقعية الضيّقة والبحث عن طرائق للتّرميز وتمرير الانتقادات الاجتماعية والسياسية والدينية” (56)عبر المفارقة السردية  التي تجعلنا نقترب من فكر الكاتبة ونعيش في ذاكرة العنز في إطار فكري ومحدَّد للحدث الحكائي” يقول جبر على لسان سميرة بذاكرة عنز :” كان أسبوعًا يموج بالحركة بين المجموعات القطعانية..أنا في قطيع الماعز … لو تصدقوا درجة النظام المترشحون أربعة هم : الشمبانزي ،والنمر ،والأخطبوط ،وزندبيل …فاز الأخطبوط وأقنعهم بالحكم من بُعد مثلما أقنع الرخويات من بُعد بالتصويت له …كنت من ضمن لجنة فرز الأصوات شهدتُ إعلان النتيجة ورفعِها للملك لاعتمادها”(57).

مما يربكنا فعلًا في هذه الرواية المزج بين الحقيقة ،والخيال الحقيقة الكاملة ،والخيال الكامل، الحقيقة المتمثّلة في حياة الدكتورة (سميرة موسى) ومذكّراتها وإنجازاتها العلميّة وحياتها بمصر، والخيال الذي جلبها بقدرة راوٍ فذٍّ إلى ليبيا المنكوبةِ بالحربِ فهي عندما تقول في مذكراتها التي كان يقرأها فضل :” والدي العزيز كانت آخر جملة كتبتها في مذكراتي التي تركتها بكاليفورنيا ” وغربت الشمس” لكنها لم تغرب إلا على حياتي وأبحاثي…”(58) فجملة (وغربت الشمس )هي  جملة حقيقية كانت قد كتبتها د.سميرة موسى في آخر مذكراتها قبل مغادرتها الحياة بحياتها الواقعية، وبقية الرسالة كانت من صنع خيال الكاتبة، كما يقرأ عنها فضل رسائلها لأبيها ” ليس هناك في أمريكا عادات وتقاليد كتلك التي نعرفها في مصر، يبدو أن كل شيء ارتجالي … الأمريكان خليط من مختلف الشعوب، كثيرون منهم جاءوا لا يحملون شيئًا على الإطلاق، فكانت تصرُّفاتهم كتصرُّف زائر غريب يسافر إلى بلد يعتقد أن ليس هناك من ينتقده لأنه غريب ..لقد استطعت أن أزور المعامل الذرية في أمريكا …” (59)

تقول في حوار لها مع طبيب جاء لمعاينة حالة “جبر” الغريبة: “درست الذرة بعد الأشعة السينية والمفاجأة توصلت لمعادلة للحصول على الذرة بتفتيت المعادن الرخيصة! …عارفين أمنيتي إيه النهاردة؟ (أن يكون علاج السرطان بالذرة مثل حبة الأسبرين)أنا أجريتُ بحوثًا مهمة جامعية في معامل” سانت لويس”بولاية “ميسوري”الأمريكية” (60) فكل ذلك واقع حقيقي في حياة الدكتورة سميرة عالمة الذرة التي ببحث صغير في (المحرك جوجل) ستلمّ بكلّ ما يتعلّق بحياة هذه العالمة، وتستمر في سرد تفاصيل حياتها الملهمة، ويجاريها “فضل”  في سرد تلك الأحداث  في حوارية هي “ضرب من الإبداع ضمن ثنائية التخيّل الواقعي ومدى التركيب بين المرئي والمتخيل في نسج إبداعي واحد دون التدوين لفترات ومراحل تاريخية أعقبت لحظة الكتابة الإبداعية “( 61) فيقول:” لكن الناظر “سيد بكري” لم يكن يبالغ، أليس هو من هرع إلى والدك يخبره بنتك سميرة نابغة …وأشار عليه الانتقال بك للقاهرة بعد أن لفت نظره بنبوغك في مسائل الحساب…وتفوقك في قراءة القرآن ؟ في العاشرة حفظتِ نعي “سيد زغلول”…كنتِ موسوعة تعزفين على العود ولديك معمل لتحميض الصور … وكنت مغرمة بقراءة التاريخ والسير الذاتية ( وتُجيبه ) “هذا أنت عارف سرتي بالتفصيل ” ( 62).

 وتَسترسلُ هي في سرد قصة (سميرة موسى ) بكل تداعياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، تقول: “قرأت الابتدائية في مدرسة قصر الشوق كنت أحب صُويحباتي وكنت الأولى دائمًا…لن أنسى مديرتنا السيدة ( نبوية موسى) الناشطة والسياسية المعروفة …قمتُ بإعادة تبسيط وصياغة كتاب الجبر..وأهديته أستاذي (محمد أفندي حلمي) : جاز لي أن أتقدم بكتابي الجبر الحديث إليكم بعد انتهائي من تأليفه وهو الثمرة التي نتجت من غرس أياديكم البيضاء، راجية أن يحوز عطفك السامي ورضاك.. المهداة ..سميرة موسى علي ” (63) ولأول مرة يطالعنا اسم الدكتورة الثلاثي في سردها الذاتي الذي يجعلنا نقف متسائلين عن” الوضع المتصّل بعلاقة الرواية بالتاريخ ،بعلاقة الرواية بالذات … لقد تم مزج الواقع الذاتي بالتخييل الفني”(64)حتى صرّح لها فضل في أحد حواراتهما ” أتعلمين ؟ أنا أحببتك أكثر من جبر هذا الذي أبحث عنه فيكِ…أنت عاقلة  وستتفهمين  …عندما أحدثك صرت أنسى ذاك الميت فيك …لأستمع من عالمة الذرة عن أبحاثها وسيرتها وذكرياتها ” (65)وضمن هذه العلاقة كان النص ينتج دلالته الفنية والفكرية،إذ كانا يعرضان للواقع الحاضر مما قد يجعل الرواية  بهذا النسق من الحوارات رواية واقعيّة، ثم يعرجان بأحاديثهما حتى نكاد نجزم بأنها رواية تاريخيّة تعتمد على الاستذكار وجلب التاريخ و”هذا التباين بين الماضي(التاريخ) والحاضر(الواقع) أساسي للتمييز بين الزمانين لأن بموجبه يمكننا إقامة المسافة التامة بين واقعين مختلفين ” ( 66)،لهذه المسافة الممتدة بين 1919 حتى 2017.

فسميرة بحكم تكوينها الوظيفي تعتمد كثيرًا على ذاكرتها تسترجع أسماء كثيرة كانت هناك في زمنها القديم تصبغها مذاقًا عاطفيًّا وتوظفها بنائيًّا عن طريق الاستذكارات المتتالية في حوارات مثَّلت وسيلة لنقل أحداث مهمة عبر تلك الشخصيات، ” فانفتحت الحبكة الروائية على أزمنة عدة تتداخل وتتكاشف وتستغني على استمرارية الحركة إلى الأمام … ولا تخضع للترتيب المنطقي” (67) : “أستاذي (مشرفة) قال : خير وسيلة لاتقاء العدو أن تكون قادرًا على رده بمثله، دفعني رأيه لدراسة الذرة…توفي العام الفائت لن أنسى دعم صديقتي اليهودية” راقية إبراهيم ” ( (68 وتأخذ في سرد علاقتها بهذه الممثلة التي أثارت حفيظة الشكوك حيال علاقتها بعالمة الذرة بالواقع “صديقتي راقية ممثلة جميلة ومثقفة وذكية وقوية بدأت حياتها بالخياطة للأمراء والملوك وقادتها علاقاتها إلى العمل  بالتمثيل .. هي من عمري نسكن العتبة وهي بحارة اليهود في حي الجمالية تزورني بشقتي بالقاهرة مكان اهتمامي بأبحاثي … وتعشينا مع بعض في الأوبيرج ” (69) .

وإذ تَعرج لسرد بعض السِّيرِ كسيرة السيدة ( نبوية موسى) فقد نصنف سميرة ضمن الشخصيات المرجعية وذلك ” عندما تدرج هذه الشخصيات في الملفوظ الروائي فإنها تعمل أساسًا على التثبيت المرجعي” (70) وذلك عندما تقول لرفيقها فضل :” لك أن تتصور في (1923) كانت ضمن الوفد النسائي المصري للمشاركة بمؤتمر المرأة بروما… كانت زميلة العقاد .. وألفت رواية (ثوب حتب) وأنشأت مطبعة ومجلة المرأة بعدها تعرضت للهجوم من حزب “الوفد” الحاكم، أغلق مدارسها ومجلتها وتعرضت للتفتيش والاعتقال” ( 71)” هكذا تتم قراءة هذا الخطاب وتلقيه باعتباره ينحو نحو مطابقة الحوادث والوقائع كما وقعت  في زمان مضى بناء على مطابقة تامة مع الواقع الذي كان وبكيفية موضوعية … فهي تمثل الحقيقة التاريخية” (72)

 نرى الكاتبة تظهر ظهورها المباشر في أسلوب صياغة النص إذ لم تتجاهل العلاقة التاريخية بينها وبين القارئ وبينها وبين النص، فكانت تأتي بشخصيات مهمة “كحميدة طرخان رائدة حركة النهضة النسائية بليبيا والملقبة بالعنيزي نسبة لزوجها  وفي عام (1917م) بدأت بفتح مدرسة في بيتها لتعليم النساء … تتحدَّث مع العربية اللّغات التّركية واليونانيّة والفرنسيّة” (73) وإذ تقول ” شدتني سيرة ذات الهمة فاطمة بنت مظلوم الكلابي “( 74)  وتأخذ بسرد تاريخي لحكاية هذه المرأة التي تجد فيها المثال  لعلو الهمة والمثابرة .. وتستمر الرواية في سرد وقائع وسير ذاتية تعمل فيها الكاتبة من خلال شخصية سميرة أن تنشئ “عملًا سرديًّا يرمي إلى إعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخييليَّة حيث تتداخل شخصيات تاريخية مع شخصيَّات متخيلة” ( 75).

تمثلت مهارة الكاتبة في تحويل د. سميرة إلى شخصية واقعية مدورة ” تمثل في أغلب الأحيان حالة درامية معقدة ومركبة ” ( 76)تخوض تجربة معيشة لا نملك إلا تصديقها والتماهي مع تجربتها الإنسانية، الانفعالية وقبولاتها السايكولوجية، وكأنها ترسم بها جدارية على  هرم “إبراهام ماسلو”  مستثمرة في ذلك قلق العالم العربي والليبي بخاصة لتأثيث حياتها الداخلية.

 حاول السرد السايكلوجي إبرازأهم خصائص شخصية سميرة؛ إذ تعتمد “التيبولوجيا الشكلية في تصنيف الشخصيات على عدد من التحديدات الدقيقة المرتبط بكيفية بناء الشخصية ووظيفتها داخل السرد” (77) الذي أظهر محوريتها وامتدادها الأفقي والعميق مما جعلها شخيصة متعددة الأبعاد شديدة التعقيد في علاقتها مع نفسها ومع بقية الشخصيات داخل الحدث وضمن الأدوار الحكائية.

ظلت الهزائم تصقلها حتى أدركت أن المجد للهشاشة لا للقسوة وللأنوثة لا للتوحش الذكوري وللكينونة لا للتملك وللحب لا للتسلط، تارة هي مسكينة لينة تشبه الآخرين الذين لديهم ندب سرية وجروح مستورة تنزف طوال الوقت، وأحيانًا ترى نفسها هشة آيلة للسقوط، وحينًا لا يرعبها شيء فقد استهلكت كل حصتها من الرعب قبل أن تبلغ “الحي2″، الذي أفاقت لتجد نفسها بمكان عجيب غريب بالنسبة لها فتقول:” كيف سأرتاح أنا؟ ما هذه الأحاجي التي تمطرنا بها ضاحية العجائب؟” ( 78) فتتوالد  الصور تتنقل بسميرة بين المكان الواقعي الذي نعرفه ونراه واللّاواقعي الذي تراه ولا تعرفه فما من يقين يسعفها لفهم مصيرها الذي يرى هذا المكان الغريب هو الانهيار الكلي لعقلها، تفقد فيه عالمها الساكن ذاكرتها، فتتشظَّى وتمتلئ بالهلوسة والتشتت لتشهد بفانتازية الواقع، فعَلتها حيرة أهل الكهف إذ نامت بتاريخ وصحت بآخر وربما شك وخوف وارتباك (العُزير) أيضا  فليس “هناك رواية فانتاستيكية تفقد جذورًا في الواقع في تمظهراته يكون هو الجانب المستهدف في التبئير الفانتستيكي حيث يخضع لتحولات وامتساخات، يلجأ فيها الكاتب إلى استعمال غزارة قواه وحوافزه كي يشهد على الواقع الإنساني” ( 79) .

فانتقالها من عالمها الريفي المصري “سنبو” إلى كاليفورنيا الأمريكية إلى ضاحية مكتظة بالقلق بالأراضي الليبية، المختلفة تمامًا عن كلما كان في ذاكرتها وتصورها؛ جعلها تعيش تناقضًا قيميًّا وفكريًّا، ونفسيًا، فكانت تفشل دائمًا في تحقيق التوازن، تقول في مذكرتها التي حملت رقم (7) : “أي تأزّم هذا كيف ستقنع من يراك ميتًا أنك حي؟كيف تتقبل أن يقيّمك جاهل ؟ أن يتفحصك سقيم ؟ …يا لها من ضاحية عجيبة! هوة سحيقة بين الواقع والواقع المعيش لم أجد له تفسيرًا…هوّة سحيقة بين العلم والتّطور وبين اختلال العقل هنا” (80) هذه المذكرات  التي اعتمدت فيها الكاتبة تقنية ( الحكي داخل الحكي) أو (الرواية داخل الرواية )؛ لتقديم وجهة نظرها الخاصة في القصّ، أما في مذكرتها المرقومة برقم(3) نتعرّف على طيبوية سميرة  وصوفية  العالمة: “ما حاجتي به  وأنت كلي يجرفني سيل مدادك الضاوي، في لحنك اللامتناه، أرى من خلال عينيك لجة اليقين، وأسير على هدى نفحاتك فوق فرات ترانيمك أطوف على جناح سناك في مدارات ملكوتك وأسجد عند محرابك المهيب، طهّرني من سرابيل الطين المثقلة بِغلّ الخطيئة وارفعني إليكَ “(81).

ترى سميرة نفسها من أعقد شخصيات الرواية التي انصب عليها الاهتمام الأكبر من الكاتبة بحيث تؤدي وظيفتها الدرامية ودلالتها داخل الحبكة إذ تقول : ” وأنا الشخصية الأصعب ها أنا ذا قد حشر عقلي في جسد أحدهم ليصفّد”  (82)

هذه الذات المتشظِّية القلقة الخائفة تدعونا المشاركة والتعاطف إذ أنها تفكر معنا بصوت مسموع فعملت على تقديم ذاتها مباشرة وتوزيع أعيننا في أقبية روحها المدفونة في الدود والموت: ” وجدتني هنا بلا زمن كمن صحا من هجعة من إغماءة  كمن أسرى مخدَّرًا من مكان إلى آخر، وكلما لجأت إلى النوم داهمتني جموع الديدان في كابوس مخيف حد الرعب، صغيرة تتلوى متزاحمة ومتراصة تتكوم فوق بعضها في امتداد لا ينتهي وقادمة من كل صوب …تزحف نحوي ومشلولة أنا عن الحراك…وتغادر في مجموعات تحمل أطرافي وتدحرج جمجمتي، قلبي فقط يقاوم، يمتنع يهتّز …” (83)، ” حائرة تتابع بامتعاض ومرارة قدرها المأساوي وفاقدة لكل الخيوط الواصلة واللاحمة بينها ،وبين المجتمع المحيط، فحكم عليها أن تعيش غرابتها المقلقة” (84).

 ويبدو  جليا  قلق سميرة الدائم مع ذاتها  ،ومحيطها، مع حياتها الواقعة ،أو مع ذكرياتها المستفيقة ،وفي علاقاتها  مع شخصيات الرواية،فكانت علاقتها متأزمة جدًّا مع غزالة زوجة جبر تصف لنا لقاء لها معها “كانت حركات يديها وهي تتحدث إليّ أشبه بعصي الفلاحين وهي تعلو وتهوي على ظهر القطن, وكلماتها كصفير ريح موحشة في خلاء كنعيق، كرثاء كما لا أعرف، وكنت أبتعد وأقترب منها في أرجوحة هواء لا إرادية ” (85)، ومأتى هذا التأزم  العلاقة الحرجة التي تربط سميرة بجبر بالتالي بزوجته التي لم تعترف ولا للحظة بوجود سميرة واحتلالها جبر ” تربحك جبر أعني سميرة خليني أناديك جبر أنتِ سرقتِ زوجي،زوجي كان والدي الذي لم أره، ألست حكيمة وعالمة وتتعاطفين مع المساكين ؟ ماشي، أنا مجنونة ومريضة وفاقدة زوجي الذي أنتِ فيه ” (86)

وتتأزم العلاقة ويزداد الشّتات بهذا المشهد” هل أريكَ قميص نومي الجديد؟ أول مرة لونه أزرق لأجلك؟ نفضتُ رأسي وأجبتها بسرعة وأنا أقاوم التقيؤ ،وأبعدها بيدي لا. لا يكفي يا غزالة” (87).

وفي كل مرة تحاول غزالة اللقاء بزوجها جبر وسميرة تدفعها بقوة وصدق قائلة:”  وغرست سبابتي وبتحد أنا سميرة أنا سميرة ما ذنبي أكابد شكل زوجك …أنا في محنة أكثر منك قد تجدين زوجك ولكن أين سأجدني ؟ من سيعالج جسدي المشوه “( 88)

وتخف هذه الحدة في علاقتها بلمياء على اعتبار أنها أخت “لجبر” تقول عنها: ” لمياء الأكثر غموضًا وغرابةً، والأشد تحفُّظًا تجاهي وهي المتحررة نسبيا! كم وددت لو تصادفت إقامتي بغرفتها بدل غرفة “غزالة” التي تصر أنني زوجها “جبر” …لمياء هادنتي لم تعد تستفزني بأني شقيقها “جبر”، لكنها تثيرني بأسئلتها الجامحة وتوقها للتغيير” (89)

وتكون مع “فضل” في أفضل حالاتها فهو الذي خبِر شخصية “جبر” وتعاطف مع شخصية سميرة، يقول فضل: “رغم النشاز فرضت شخصية د. سميرة نفسها علينا. أحيانا تتحدث بسرعة فتزيد دعابتها إثارة مرحة ولطيفة وحساسة وخفيفة الظل رغم الشذوذ، لكنها واثقة فرضت وجودها ما سيفرض بدوره أن نتحدّث بلسانها، أليست هي التي تتحدَّث فعلًا وليس جبر”(90)، ففي أكثر من مناسبة وحوار نلحظ هذا الانسجام كأن تقول له مرة وهي تفضي إليه ببعض مكنوناتها التي يراها فضل غرائبية:” بماذا سأحلم وأنا اليوم بذاكرة امرأة وجسد رجل عاجز بماذا سأحلم؟ بمستقبل من فيهما في بيئة المفارقات؟ وحده شيخ الضباب بخصلة الحناء لديه هنا واحة الحلم ليتني ألتقية” (91) لكنه يقبلها، فكل ما يتعلق بسميرة غريب أصلا،فيعلق :” لولا أني أثق بك لقلت أنك تهذين ” (92) فتجيبه”ولولا أنك فضل لما أخبرتك بهذا” ( 93)وفي ذات الحوار تسرّ له بحبّها الخفي “أحببته يا فضل وأنا العصية” فيردُّ مؤازرًا ” وأثق في بوصلتك أيتها المهدية الرضية” (94) .

ومن كل ذلك نلحظ أن الكاتبة لم تتجاهل العلاقة الضمنية بينها وبين القارئ إذ فوّضت “سميرة” لتأخذ صوتها لعالمها التأخيلي التي كانت ” الأنا الثانية  ” (95) لها بنت بها نصًّا سرديًّا بحمولات معرفية مختلفة تقاسمت هموم واشكالات حاضرها وحاضرنا  مع رفيق رحلتها فضل، و هذا يقودنا بدوره لتلك الشخصية الساردة!

“فضل” وبناء المشهد الروائي :

لم تشأ  الكاتبة أن تُخضع عملها لتقنية” القص غير المركز” (96)،وتنتقل سريعا بين الأمكنة والأزمنة كذا الشخصيات دونما تعليل أو مبررات للحدث،مما قد يحدث التّفكك العفوي بين مقطعيات السرد فكان فضل البؤرة المركزية الذي قدًّمت الرواية من خلاله أحداثا بشخصيات بتقنية الظاهرية أو “الواقعية الفينومينولوجية”(97)  حيث تبنّت مع راويها “فضل” رؤية عالمها التخييلي معكوسًا على مرآة وعيه واختارت أن تقف خارجها لتتَّبع تقنية  الرؤيا من الخارج،  واكتفت من الحاضر بما تلتقطه شخصياتها وما يصل حواسها وكأنها تقفَّت بهذا أسلوب ارنست همنجواي بقصصه (98)

ولعل تقنية ( الرؤية من الخارج) تتوافق ومبدأ التجريب الذي ارتادته عائشة بروايتها فاختارت أن يكون فضل شخصيتها الساردة متبعة في ذلك أسلوب الحكي الجواني ،وذلك عندما يكون السارد جزءًا من الحدث، وفاعلًا فيه، وغالبًا ما يستعمل ضمير المتكلم فيقوم بوظيفتين فاعلتين مهمَّتين هما السرد والفعل، وهذه الوظيفة  منحت “فضل” مساحة لإبداء آراءَ كثيرة بطريقة دينامية، وذلك من خلال وجهات النظر بين أكثر من شخصية إذ تتصارعُ وجهات النظر على لسان “فضل”، فتترك بذكاء للقارئ القبض على الرسالة المبتغاة، والجوس داخل بواطن الشخصيات من خلال المونولوجات المبثوثة عبر الرواية، تُرسل من خلالها مرجعيَّاتها الثقافية والفكريَّة.

وجد “فضل” نفسه الشخصية الحكائيَّة، راويًا لحكاية نسجتها كاتبة، وحدَّدت له زوايا للرؤيا، أقحمته في سرد رواية لا علم له بشخصياتها ولا أفكارها ولا حتى نواياها؛ فكثيرًا ما نراه متسائلًا :” لمَ يفعل جبر هذا ؟ ماذا يريد من هؤلاء؟ فقط لو أعرف ماذا ينوي؟ بل ماذا تريد د. سميرة ؟” (99) ،أو أن يقول :” يا إلهي ممَّن ستنتقم غزالة ومتى حدث ذلك ؟ وكيف لم تخبرني العالمة؟” (100) ويحتار أكثر ممن حوله ” تتزاحم الأسئلة داخل سيارتي التي تئن وسط الشوارع المظلمة” ( 101)؛ لذا اعتمد على الوصف الخارجي لحركاتهم مما جعله بعيدًا عمّا داخل الأشخاص فاقتصد في حكيه على ظاهر حركاتهم وأقوالهم في حياديَّة تامة عن أي تفسير أو تنبؤ مما جعلنا كقرّاء أمام كثير من المبهمات تلزمنا الاجتهاد لإكسابها دلالاتها .

أول ما يطالعنا “فضلٌ” كراوٍ بمطلع الصفحة الأربعين بقوله: “غيّرت لمياء خلفية صفحتها الوهمية على الفيس وأبقت على اسمها المستعار سراب، لا أدري هل أنا مُوَسوس أم أنها مفخخة الكلمات ” ( 102)،ويطالعنا لأول مرة اسم “فضل” على لسان “لمياء” بذات الحوار الفيسبوكي إذ تخاطبه:” ما بك فضل لست المعني، أنا هنا لست لمياء أنا سراب “و هنا ترتسم أول مشهديَّة في علاقة فضل بشخصيات الرواية وعلاقته بأحداثها  يقول :” مجنونة أتراها خائفة من تسرُّب علاقتنا، ليس هذا السبب … سأراوغها سأقول لها مالا يمكنني قوله علنا” (103) وبهذا السجال وهذه الحيثيات تبدأ ولا تنتهي علاقة  فضل بلمياء على  طول مسار خط الرواية  بمشاهد درامية وحينًا عاطفية ،وأخرى جدلية.

 ثم ينقلنا لمشهد آخر في الصفحة (43) بقوله ” ثلاث ليال وغزالة تترقب جبر ولمياء تموج على الجمر”، لتبدأ رحلة الرواية العجائبية بهذا المشهد الفارق ” يتدافع الناس لرؤيته كأنه قادم من معترك، من قبر، يخطو على الأرض تارة يلمسها وتارة يكاد، أشعث الشعر ومتفرّق اللحية والشوارب تعلو الأتربة ملابسه القذرة …ويصرخ وسط الناس …إنتو مين؟ بتبصوا عليّ كدا ليه ؟ الله أنا فين ؟ مين عمل فيا كده …  هرعتُ إليه وأنا أدفع الناس المتزاحمين …حضنته رد علي ياجبر …” ( 104).

وهكذا يعمل على إيصالنا بأولى الشخصيات بحواراتٍ مباشرةٍ معهم أو بخطابات غير منطوقة  عبر مونولوجات تعكس ما في نفسه حيالهم ومحيطه،ها هو يرسم في خطابٍ غير مسموع إلى لاوعيه خطة دفاعية حيال ما يواجهه جبر :”ربما عدم  استيعابي للأمر ربما تفهُّمه أنه يعاني جعلني متفائلا، فشعور الإنسان بالمعاناة يَعني رفض الواقع، علي أن أتعامل مع الوضع ببرود بفكاهة ببساطة، لأن البؤس والشقاء ليس جديدا  على أهل الضاحية، وجدّيتي لن تزيدني إلا توترًا، ربما ستدفع بي إلى السوء مثله “(105) لكنه مافتئ أن غيّر هذا المسار ما إن اقتنع وعيه بأنه يتعامل مع د. سميرة عالمة الذرة فحَادثَ ذاته بخطاب تراجيدي قائلًا “هاقد أخبرتُ د. سميرة إنها ميّتة لا أظن أحدا غيرها عاش ذلك …حتى قاموس علم النفس نفسه لم يحدث هذا أبدا، وهاهي أكثر مما توقعتُ، وإن لم تُصدِّق أنها ميتة،فقد صدمتني بردَّة فِعلها المتماسكة، تتعامل بمنطق عالمة، وعقل مفكرة، بل أكثر مما كنت أتوقع”(106).

 حتى مع أولئك الشخصيات الباهتة النمطيّة التي بالكاد تُحرّك الحدث يُخبرنا عنها قائلًا: “وهاهي الصحف التي صرّحت فيها حفيدة صديقتها اليهودية (راقية) تتطاير مع الريح، تتلاشى بعيدًا، تكشف فيها الحفيدة (ريتا) عن علاقة الجدة راقية بعالمة الذرة المصرية، وحوزتها مفتاح شقتها، وأن جدتها على معرفة بالمرأة التي استقبلت د.سميرة بالولايات المتحدة، وتواصلها معها، ورصدت كل أخبار العالمة عن طريقها وعرضت عليها قبول الجنسية والإقامة، للتّفرغ للبحث هناك، والرّفض من قبل سميرة” (107).

يعد فضل فنيًّا راويًا ممثلًا داخل الحكي، شخصية فاعلة صانعة للأحداث متنقلًا بين أزقة الرواية، أي كبطل وليس كشاهد فقط يقول :” بعد يومين اتصل بي من رقم جديد ليطلب مقابلتيسريعًا فهو في عجالة مع إن الوقت ظهرًا : أنا في البيت، أحضر بسرعة فضل. هذه المرة عمدت بيت جبر وأنا أشك في أن كل من حولي يتفحصني ويقتفي أثري، كدتُّ أصدم عمود الكهرباء بسيارتي فأنا لا أرى شيئا من شدة الوساوس …   ” (108).

 وقد يستعين بالحوار لبناء مشاهده السردية كأن يقول :” وطالت أزمنتنا وباغتني “صالح” باتصال:

– فضل لو سمحت جبر بمشفى الضاحية، سارع إليه (وأقفل

ارتبكتُ وتلعثمت، أنظر للهاتف وإلى عيني لمياء التي تستعجل الخبر

– هذا صالح، قال: إن جبر بمشفى الضاحية، سأذهب وسأطمئنك

– لا، بل سأذهب معك

– كيف!!؟

– لا شأن لي بأحد، ماذا يعني لو ذهبتُ معك يعلمون أنك على اتصال بنا وتزورنا كل يوم وشبه مسؤول عنا في إعاقة أخي . سيرافقنا حسن

– تمهّلي غاليتي، اسمعي لمياء طيب كما تردين، اطلبي من حسن مرافقتنا …وضممت يديها إلى يدي لأول مرة وضغطت عليهما …”(109)

أرى أن هذه التقنية التي اختارتها عائشة أهمية كبيرة في إقناع القارئ بأبطالها وحرية الحركة في مسرح الأحداث، إذ كل تدخلات فضل وتعليقاته على الأحداث لم تُحدث أي تصدُّع في البناء الدرامي المعدّ مسبقا من قبل الروائية،كما في هذا المشهد الذي يخاطب فيه  فضل سريرته وكأنه يُوجّهه لمستمع ضمني ” تبعثرت كلماتي وأفكاري، صفير طبلتي صار جلبة أصوات، لا أذكر أني تخطّيتُ الدرج، ولا أذكر الهيئةَ  التي غادرت بها الشقة، ولم أفكر بمخاطر الحرابة التي قد أتعرض إليها في طريقي الموحش أقلّها السطو على هاتفي، أو تهشيم ساقي، ربما رصاصة طائشة، الكهرباء مقطوعة والضاحية في خوف كامل، والمطبّات المرورية كمائن العتمة … منها المحدّب المرتفع الذي يجرف باطن المركبة، ومنها الأخدود المحفور الذي تسقط فيه تتصدع، وهل أسوأ من مطبّاتي ؟ لكن الأمر يستحق أنه صالح  المقطوعة أخباره منذ اعتقاله …”(110)

 وحتى عندما لجأ لفكرة (الحكي داخل الحكي)  بتناوب الأصوات على السرد وتعدّد وجهات النظر حول بعض المواقف في محاولة لصنع فسيفساء مشهدية، كما في المرويات الرسائلية التي مارستها سميرة ،ولمياء  كان هو من تكفّل  بنقل هذه الأصوات،كهذا المشهد الذي ترسمه سميرة بأحد مذكراتها بلسان فضل  :” هوة عمَّقها ذلك الحادث المروري المريع لعائلة كاملة بينها أطفال حتى إن عدد حمالات الإسعاف النقالة لم تف بالعدد إحدى القريبات صراخها يهزّ ممرات المشفى، وهي تجري بين عربات النقل المدفوعة، الدماء والأعضاء الممزقة والوجوه التي غزاها لون الموت، طفلان على عربة واحدة، هل هو صمت غيبوبة أم مغادرة ؟ وسيدة تهزّ رأسها تتأوه ألما وعيناها لا تستقران بمكان ولا مكان، ستروها بلحاف مغسول بالدم، قالوا إن حروقها شديدة التهمتها النّار بالسيارة إثر تفجر جالوني البنزين المصاحبين لهم…” (111) ثم نسمع “فضل”  يقول له ولنا:” ما إن طويتُ هذه القراءة حتى تساءلت ماذا  ستكتب د.سميرة بعد الاعتقال ؟”

ويقول في جهة أخرى ” كتبت  لمياء على صفحتها: وأنتِ يا أمي لا تعودين، ولن يعود ما خبأته لي، دُفنتِ هنا ودُفن تحت أكوام بيتنا، أوصيتِ لي به من الواحات، الثوب الحريري الأحمر الموشي بالفضة … وأودعته حقيبتك البنية … وضعته بحذر في أعلى رف دولابك …آآه ياأمي، ليتهم دفنوا كل حرير الأرض وبقيت لي …أتأمل كتاباتها باسمها المستعار …كسرت قلبي عليها …” ( 112)

وإذا ما حاولنا تحديد شخصية “فضل” من خلال تقديمه لنفسه أو من خلال تقديم بقية الشخصيات له فإننا لن نجد توصيفًا له البتة حتى أننا لا نستطيع رسم تصوّر لهذا السارد داخل المبنى الحكائي الذي يحوِّله بقصديَّة في مخيلة القارئ إلى تركيب آخر متخيَّل بحسب تعليلات وتحليلات القراء مما يجعل الشخصية مليئة بالدلالات.

 إننا لا نجد تقديمًا مباشرًا لصفاته إلا إذا استشفَّينا تلك الصفات من خلال السرد أو من خلال علاقته بجموع الشخصيات الأخرى ووظيفته التي تصبُّ جميعها : بأن “فضل” رجل كريم الخلق ،ووديع ،ومتفهّم وقابل للآخر يقول له صالح :” لا نعرف كيف نرد لك الجميل، أنت أصيل”(113)، أو كما  في تلميحاته الرقيقة واللطيفة هذه  ” هوني عليك يا غالية يجبر الله بصالح ” (114)،” الله يهديك يا دكتورة لا تغريّنك هذه المظاهر ” ( 115) ،”لم يفهمني عذرته، فكلانا يبحث عن الوجه الضائع ” (116) ،وهذه المسايرات قد تجعله تحت ضغط نفسي كبير يعبّر عنه بقوله :” فقدت توازني على التكيّف مع النقائض ولم المكابرة !؟ متأزم أنا …”(117) أو عندما يعربد حب لمياء بقلبه فيصرخ :” جن جنوني هذا ما أنتظره من اجتماعات العاصمة ولِجان التمكين، هل أكلّمها ؟ هل أنتظر!؟”(118) .

وهكذا ومن خلال القراءة المتواصلة، نحاول تكوين صورة مقطعية لشخصية فضل وكأننا بذلك نقوم بلعبة الكلمات المتقاطعة؛ لإتمام فكرة الدال الذي بدأ الحكي بتشكيله مذ أمسكت عائشة القلم والمدلول الآتي من مجموع الصفات وتصريحات النص عن الشخصية الروائية التي انصرفت فيها عن صفاته الخارجية، حتى أننا بالكاد نرسم صورة واضحة وكلية عنه.

مع أن فضل كراوٍ حاول أن ينشئ أساليبَ أكثرَ جدَّة بعلاقته بشخصيات الحكاية وبنائها، إذ لم يحد من حركتها في مجرّاتها الزمانكيَّة ولم يرفع عنهم ورقة التوت، فنقرأ بعض ما تكتبه داخلها.

فميَّز شخصيات العمل التأليفي بمواصفات وخصائص لا تتم معرفتها إلا بعد أن تصل الرواية منتهاها، وفي كل مرحلة نحاول إعطاء صورة متكاملة عن هوية تلك الشخصيات كما لمحنا ذلك مع جبر وسميرة ولاحقا مع لمياء، الذي أكسبها قيمتها وعن طريقها نشأ المعنى الكلي للنص.

وفي أحيان كثيرة يحضر فضل بذاتية عالمه الخاص، وبخاصة عندما يقرأ رسائل لمياء،” أنى لي باستبدال هذه الذاكرة؟ أعيش مآسيهم جميعا وعيناي على لمياء ترفعني بكلمات سراب الندية إلى سابع سماء لتسقطني في سابع أرض بردود لمياء” (119) لتتأرجح اللذة والألم والفرح والحزن لتنزلق هذه الذات في الإفصاح عن حاجاتها الإنسانية ونوازعها التي فطر قبله البدوي عليها مما أوصله لحالة من القهر والدراما الساخرة، بتلميحات ملغمة تارة وبوصف صريح تارة أخرى فاتحة مجالات التأويل على مدارات السوداوية والتهالك الرابض بروح فضل تمثلت في حوارات عديدة عمدت فيها لتوصيف محيط حياته بقيمتها الإنسانية واللاإنسانية كهذا الذي دار بينه و”سميرة”:

” –كم أتوق أن أجد قامات تحقق لي إشباعا ذاتيا، إلى عقول ذات قيمة ….

لا تنسي أنهم ليسوا حقيقة، أنهم أناس لبستهم عقول غيرهم فتشظوا ….

– أتفهمك سيد فضل هذا حوار لا ضير فيه أن نختلف لكن لنتقبل الآخر إنهم حقيقة سيد فضل، العقول حقيقة أينما وجدت، هل تؤمن بأجسادهم التي تموت ويأكلها الدود، أو ترهقها في حياتها الحرارة والسياط والطوابير؟ ولا تؤمن بذواكر العقول التي تبقى رغم موت أصحابها!؟ من يحمل التاريخ إذا!؟ توصيات أمك همس حبيبتك، شارع طفولتك …”(120).

 فكانت هده الحوارات تطرح أسئلة في محاولة البحث عن إجابات ممكنة وابتكار تصوّر كتابي يشكل مفهومًا جديدًا في تجربة الرواية لصياغة المرحلة الرمادية (للحي 2) ظهر ذلك في المشهد العجائبي هذا ” ولم يعد لبعض الأسئلة قيمة ..تتداخل الفوضى العجائبية، هدير سيول من حناجر مكبوتة حناجر (الفوقبشرية) …رأيتها د.سميرة ترتفع وسط لافتات مريديها، يفرد جرد عمي الغناي أطرافه الأربعة … يتلقفه جبر، يحضنه طائرًا به في تماوج ساحر وسط المطر وتحايا البرق والرعد، طائرًا به بعيدًا، بعيدًا طرف الضاحية المسحورة بالنور والجن والسراب ! ترى إلى أين!؟ وإلى أين تسير الضاحية بعد هذا الخروج المثير!؟”(121)

ولا نملك أمام هذه الممارسة الإبداعية إلا القراءة بتمعن وتأويل واكتشافات للصوت السردي الذي طالعنا مذ بداية الرواية باستثناء صفحاتها الأربعون الأولى، فإننا نجد صوت فضل حاضرا أبدا حتى نهاية صفحاتها الأخيرة، فقد كان حضوره قويا يوجه دفة السرد، ويصف وينقل خطاب الشخصيات التي تتوارى فيها المشاهد أو يغيب العرض بين الشخصيات ” (122)، بالكاد يغيب فضل الصوت المطيع لعائشة تُجسِّد عن طريقه رؤيتها الخاصة (للحي 2) موجِّهةً مقاصدها بحرفية مشوّقة لإدخال القارئ طواعية في عوالمها، ففضل يطيعها في تتبع ذاك النمط السردي الذي يأتي تصوُّرًا خاصًّا لمجتمعها ورؤيتها للعالم الموازي أو المعادل له” فيسعى جاهدا للامساك بهذا الخيط الرفيع الذي ينظم الأشياء، ويسير بها إلى منتهاها، إنه بذلك سيد العالم الروائي الذي يبدع” (123)

“لمياء” المتغير القيمي ( المعادل السوسيولوجي):

 تعد “علاقة حرجة” رواية حوارية بامتياز أصواتها التي تجعلنا كقراء نختار ما نرتضيه من أيديولجيات توافق حرية انحيازنا لننشئَ معها نصوصًا تأويليَّةً متعدِّدةً، فالكاتبة تقف بالحياد مع كل شخصياتها وتعطي القدر الكافي من الاهتمام للجميع، وكأنها بذلك تحقق مبدأ حوارية “باختين”.

كانت “لمياء” حقلا قائما على تجريب الوعي وقدرته على التفكير الحر قيد المطلق ودون السلطة المرجعية، تنبذ خطاب العنف الحربي والسياسي وربطه بالمتغير القيمي المجتمعي وإشكالية الثقافة، وهي من الأصوات الجدلية التي أبعدت الرواية عن (المونولوجية ).

لمياء شخصية ظلمها الواقع بالفقد والتوهان والشتات، ضياع الحاضر والمستقبل، لا شيء متاهة لم تقوَ على إتيان مساربها تقول: ” أضعنا الوطن والبيت والأهل والمستند، نعرف كيف يصبح الواحد منا فارغا حتى من جسده! كيف يتحول مسخا “(124) ،كل ما هو منوط  بها مفعم بدلالات السخط واليأس ظهر ذلك بتفاصيل المشهد الآتي :” لمياء لم نبس ببنت شفة، في حالة صدمة وارتباك غاصت في الصمت، كأنها تقول لا حمل لي أكثر من فقدان، بيتنا، أمي وأبي، وعائلة صالح، لا حمل لي أكثر من تشردي وفقدان ما معي وطموحي ولا أقوى على المزيد “(125)،إنها تستشعر غيابًا قهريًّا قسريًّا مريعًا عن الحياة، وإن كانت – أحيانًا – تحاول أن تقنعنا بعالم ربما توجده عقولنا، فعلى الرغم من جنوح الرواية للتجريب إلا أنها ترتبط بواقعها بسلك غليظ وتتعامل معه وتعكسه على مرآة كبيرة وترسله لنا كوثيقة سوسيونصية فالنص ” يعيش واقعيته وينطلق من استفهاماتها بعد عمق الوعي بها ليشيد عالما لقيطا بين المتخيل والواقع ” (126).

يبدو أن “الباروديا” أو المحاكاة الساخرة الميكانزم الذي اشتغلت عليه بعض خطابات “لمياء” ذلك بقراءتها للواقع وتفسيره في محاولة لبناء الفكرة المرجوّة من جديد . تقول :” بعد يوم شاق في ورشة العمل عمدنا شاطئًا ممتدَّ الجمال بالدولة الجارة … أتأمل غرابة مايوهي  سروال أسود لاصق تعلوه سدرية لاصقة ذات كم طويل … أتأمله وأتأمل أجساد النساء أمامي عارية إلا من إزار يستر بين الفخذين وقطعة …أعلى الصدر “(127)  وتمضي في عرض هذه المفارقات بسخرية خفية “أجزم أن أمي ما كانت لتعترف به، يستطلع لنا الذكور ركنًا منزويًا وبعيدًا على شاطئ القصر، تعوم أمي وخالاتي وبناتهن وكل بنات الحي بملابسهن أردية وعباءات لها أقدام تهبط وتعلو”(128) تتأمل الأجساد المتصالحة مع الحياة، ومع ذواتها فتصرف النظر عن بعض عقدها وتلمِّح بسخرية الواقع عن تنبيهات أمها ” تنبهني بنشر ملابسي الداخلية في مكان خاص، حد العيب والفضيحة أن يرى أخوتي حمالتي، أو إزار العار، أو حتى الثوب الشفاف، أحيانا أخبئها وهي ترشح وتنز حياء تحت فستان فضفاض، وأسرقها ما إن تجف أثناء قيلولة أو ظلام، مثلما أسرق محادثة مع رجلي الكيبوردي “( 129)

“لمياء” كانت تمثّل موقفًا خاصًّا حيال مجتمعها مثَّل ركيزة شخصيتها داخل المتن السردي، وعمل على تشكيل علاقاتها داخله، قد تصل في بعض الأحيان إلى حد الصراع الأيديولوجي، يحتد النقاش هنا مع فضل:

– ها أنت متابع جيد وماذا أيضا سيد فضل ” واختلفت نبرتها”

– زعلتِ نعم أنتِ زعلت ِ دعينا من هذا الحديث إذا لن نفسد اللحظة مؤمنة أنت كثيرًا بدور الاتحاد.

– بل عليك أن تعلم أننا في هذا الربيع الثوري نعمل بهدف تحريض النساء على تسلم مهامهن في ترسيخ الديموقراطية وفي برامج التنمية والنهضة.

– أقدِّر لكن ذلك صدقيني فقط دعيني أراك قبل أن تسافري ” (130) ويهمس لنا ” لا أريد أن أخسرها ” (131).

ويشتّد النقاش مع غزالة حتى تقول الأخيرة منفعلة ” فضِّي عني شعاراتك واسبحي في ثوريتك وربيعك وحدك ” (132)” فإن الأيدولوجيا تدخل الرواية باعتبارها مكونا جماليا لأنها هي التي تتحول في يد الكاتب إلى وسيلة لصياغة عالمه الخاص ” ( (133.

 كثيرًا ما كانت غير مقتنعة بكثير من المظاهر الاجتماعية في حيّها، وإن كانت جزءًا من ثقافته، تصنعها الذاكرة الجمعية التي تصدَّعت بعد الحرب وانهارت أغلب قيمها.. تقول: ” حُرٌ قلبي كإرادة لكن عقلي رهين هذا الثرى “(134) تتخبَّط لمياء بين أحلامها للحرية وبين واقعها الذي يشدُّها إليه بقوة هي لا تريد الزواج والارتباط التقليدي الذي سيحد من تطلُّعاتها وانطلاقها ولكن الأنثى فيها تناديها :” وحيدة في مفترق الطرق …لم أتصوّرني أصمد، الرغبة في البقاء تلد القوة ينتشل المرء نفسه ففعلت … لا أرغب في علاقة وزواج لكنني بحاجة لرفقة، ترميم قلبي أولا ” (135) ” مكسورة القلب محطمة الروح تغيب في اللّا واقع والواقع يزدريها  هكذا ترى حال النساء في بلادها تقول :” الصباح يشبه امرأة بللّها المطر ليتنفس العالم تتلاشى من رئتيه زفرات ليحيا، تتجمع غيمة ترخي جدائلها بين ذراعيه … تتلاشى النساء زفرات وتعود كل صباح مع الغيم” (136) وتتذكر حفاوة أمها بالذكورة فتسرد بكثير من الألم والمفارقة” … تناشد جارتنا ألا تدع ابنتها تقترب من سرير العروس فلابد أن يكون أول من يطأه طفل ذكر، حتى تبكر العروس بولد … ” (137) وتستمر بسرد هذه السخرية من قدرية  المرأة عندما تعيد على لسان أمها “وكم راقصت ابنه مزهوة معيرة به ابنة خالتي  ممازحة لإنجابها بنتا:

أوليد خير من ألف بنية ** اللي ضحكتها كرْ كرْكرْ

الي ضوقتها تحت الباط ** اللي فزعتها غِير عْياط .

آآه لم تفرح أمي بصالح المفقود ولا بولده البكر ولم تشهد عطيته العلنية عكس ذواقة البنت التي في السر تحت إبطها، حسب رأيها “( 138)

أعطت لمياء للنص علاماته الدلالية وخطابه الحافل بأبعاده الاجتماعية، فقد ساهمت حواراتها في إنتاج دلالة نصية انبنى بها النص بكيفيته المقروءة والمؤولة، إذ أمكننا هذا من استخلاص البنية الثقافية والاجتماعية التي أنتجت شخصية لمياء التي آثرت التحوّل عن مسارها التقليدي بتغيُّرها النسبي، واختراقها للمعتاد بعد أن نضجت شخصيتها، يقول فضل ” لا زالت رشيقة وسريعة الفعل والخطوة رغم التحول الذي طرأ عليها بدءا من ارتخاء الوشاح إلى غياب الجلباب ليحل سروال الجينز مع قميص طويل نسبيًّا يتماشى مع امتلائها”(139)” كما يقول:” لم تعد لمياء تلك الطفلة المعجونة ببساطة أزقتنا  الصغيرة …كبرت في هذه السنوات  العجاف … كبرت كثيرا شحت ابتسامتها، لا تتحدث إلا عن الثورة والتغيير والتمكين” (140)وتحوّلت عن نمطيتها وحياة  مجتمعها حتى صارت تفكر في الهجرة والرحيل من مكانها تقول ” لولا جبر ربما أغادر طويلا … “(141).

“إن وظيفة مبدأ التحوُّل هي ترجمة التغيّرات الحاصلة في البنية الحكائيَّة إلى تغيرات في البنية العواملية للشخصيات ومن هنا شمولية مبدأ التحوّل وقدرته على الامتداد أفقيا، وعموديا والتحكم في بنية الأحداث وبنية الشخصيات ” (142) السؤال المحوري هنا كيف تفاعلت لمياء مع مجتمعها وما سمات هذا التميز .

يلاحظ في شخصية لمياء في المشاهد الروائية التي حضرها العمل على إبراز ما يؤكد حضورها النصي حيث ورد اسمها في النص الروائي ( 176) مرة وكسراب (21) مرة  ومن خلال علاقتها بغيرها تسهم في بناء الحدث الروائي الذي غالبا ما تتحدث عنها بضمير الأنا حيث يمكن رصدها في منشورات سراب .

في سراب تتبدَّى لنا الشيزوفرينيا الاجتماعية إذ تتلبس لمياء شخصية سراب لتختفي عن واقعها وتعيش أمرا تختاره، تواجهه باسم مستعار وذات كذلك، وراء ستار تشعر خلفه بالأمان والسلام لا يحققه لها مجتمعها، لا مانع ولا حجاب  كل ما كانت تحتاجه (كيبورد) وحساب وهمي تقول: ” سأستدرجه بقبسٍ يفضح خطوه المستتر، وجلالة حضوره اليحموم وعينه الهَتون، لنرقص رقصة المالح، على فراش النزف الحار ننكث وسائد الوجع، نتعانق تحت لحاف الخيبات ونضحك بجنون ” ( 143) وتؤكد له قائلة :” أنا هنا لست لمياء، أنا سراب حرة في أن أكتب ما أشاء …أنت رجل  كيبورد أنا من صنعه على لوحة المفاتيح حرة معه وفيه بلا إثم بلا خوف ولا رقيب … رجاء سيدي خاطبني باسمي سراب وابحث عن لمياء في عتمة الضاحية ” (144) .

تغيب لمياء البشوشة الجميلة ” فلمياء مضيئة جريئة الملامح فاتنة النظرة فاحمة الحاجبين، طويلة العنق مكتنزة الوجه قصيرة وممتلئة لكنها هيفاء ما زاد في نهوض صدرها “(145) تغيب  في العتمة حيث لا ترى ذاتها في مجتمع ينصب مرآته الخاصة المظلمة لا نور فيها غير تعاليمه، لذا فهي تحب سراب  التي تدخل بها المساء تقول : ” المساء ليس رجلا سأنزع عنه معطفه الأسود الطويل وأفك له أزرار عتمته وأفضُّ فيه ضفيرة مزاجي وأُقسمُ له بأنه المساء الأول منذ ألف عام ولم أنجب من غيره ..سأثير عقارب ساعته وأعبث بأصابع ندمه  وأنام بين ذراعي غروره، وأشعل فيه غابات جنوني، واقترف براءة الخطيئة، … أتوارى بالظل الكبير لأسمع في محرقة الشمس صراعَ ذنوبه(146).

هذا العالم الافتراضي الخيالي تثور فيه عن نفسها قبل واقعها لترى ذاتها أولا قبل أن ترى محيطها لذا تشتعل فيها أفعال الإرادة الحرة ( سأنزع – أفك  –  أفض – أقسم – أنجب – أثير – أقترف- أهذي – أحتفظ – أسير – أتوارى – أسمع )، لمياء شخصية مناهضة للفكر المجتمعي السائد، اختارت اسمًا لها مستعارًا  المحمَّل بالقصدية والوعي ” سراب”، معبرة عن ” تشظِّي الذات جراء السلب والتهميش للأنا والآخر على السواء، في ظل القيود القاهرة التي تأخذ منك حريتك وخلاصك وتحولك إلى ظل فاقد الإرادة ” (147).

هذا الاسم الذي تستعيره لأزمنة ليست لها يتداخل فيها الشفوي والكتابي لخلق تفاعل ذي أبعاد إنسانية وتاريخية، تلجأ به حينا لاستدراج ذاكرة مثخنة يتلامس فيها القديم بالمعاصر إذ تكتب:” في معقل العقيلة كانت “مغلية بنت يادم” تهيء ثديها لصغيرها ذي العام والنصف عندما سحبها الطلياني من وسط رفيقاتها وطفليها …وربطها الحبشي على عمود في الشمس كان الحبل يلتف كأفعى من قدميها الحافيتين حتى استقر على ضلوعها … ضمت نائلة صغيرها إلى صدرها وبكت، بكيتُ، ولكأنها استشعرت مقتلها وصغيرها بقذيفة جلاد عاد بأجنحة طائرة  … إيه أيها المساء الرفيق سأقفل وسائدي على علاتها هب لي صدرك ترتاح عليه حروفي” (148)

مثلت لمياء الشخصية الجدلية وهي القيمة المضافة داخل مجريات الحدث، لتكون المرآة العاكسة لتلك الظروف بمنطق يتعامل مع البنيات الذهنية فكانت تطرح في خطاباتها مفاهيما جدلية حول الزواج والسفور والهجرة والتمكين النسائي.

 بنت وعيها من واقع رأته مأزومًا منعكسًا في عالم تخييلي ببنية تلتحم فيها القيم الفنية بالاجتماعية الطابع الذي امتاز به خطاب عائشة الروائي، إذ عملت على بناء معمار فنّي يتناسب مع فكرتها ونظرتها لواقع المجتمع وثقافته، فسلكت سبل التّجريب الإبداعي في روايتها “علاقة حرجة” من حيث الشكل والمضمون وذلك لمواكبة التحولات الطارئة على المجتمع العربي والليبي بخاصة

ولاقتحام عوالمه المجهولة بلورت منطق الرواية وصنعت جماليتها الفنية الخاصة نائية بنصها عن النمطية لتحقق طموحات نصها في زعزعة الثوابت وتعرية الواقع بتأثيثاتها المتفاعلة مع مكوِّناته الفكرية وحيله السردية.

الإحــالات:

-1التجريب المسرحي في إطار مهرجان فيينا الدولي للفنون، أحمد سخسوخ، مطابع هيأة الأثار المصرية، مصر، لاط،1998، ص 1:

-2انظر قضايا الرواية العربية الجديدة،سعيد بقطين، الدار العربية للعلوم ناشرون، دار الأمان، الرباط، ط1، 2012، ،ص: 107

-3معجم المصطلحات المسرحية، إبراهيم حمادة، دار الشعب، لاط،1971،ص134 :

-4 القراءة والتجربة حول التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب، دار الثقافة، المغرب،1980، ص:280.

-5بنية الشكل الروائي، حسن البحراوي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1،1990،ص:67.

-6رواية علاقة حرجة، عائشة الأصفر، دار البيان للنشر والتوزيع والإعلان، بنغازي، ليبيا،ط1،2020،ص15:.

-7م. ن، ص:19

-8م. ن، ص:20

-9م. ن،ص:20

-10 م .ن، ص :

-11م. ن، ص :33

-12م. ن، ص33 :

-13م. ن، ص :34

-14م ن، ص 27:

-15م .ن ،ص:7

-16م. ن، ص:10

-17م. ن، ص:33

-18بنية الشكل الروائي حسن البحراوي، ص:214

-19علاقة حرجة، ص9

20-م .ن، ص: 193

-21م. ن، ص :192

-22م. ن، ص: 120

-23م. ن، ص:132

-24م .ن، ص. ن

-25 م. ن، ص. ن

-26 م. ن، ص:177

-27 م. ن، ص:252

-28جمّاليات السرد في الخطاب الروائي، صبحيّة عودة، دار مجدولاي، عمان، الأردن، ط1، 2006، ص 117

-29علاقة حرجة، ص:8

-30 م. ن، ص:ن

-31 م. ن، ص:ن

-32 م. ن، ص:ن

-33 م. ن، ص:9

-34سورة طه، الآية 12

-35علاقة حرجة، ص:10

-36 م. ن، ص:11

-37 م. ن، ص:15

-38 م. ن، ص:12

-39 م. ن، ص:30

-40 م. ن، ص:ن

-41 الشرعية وسلطة المتخيل، سعيد بنقراد، دار الحوار، ط1،2016، ص 92

-42 قضايا الرواية العربية الجديدة ،سعيد يقطين، ص:110

-43علاقة حرجة،ص :37

-44م.ن،ص، ن

-45مدخل إلى الأدب العجائبي، تزفتان تودوروف، ترجمة الصديق بو علام، دار الكلام،ط1، الرباط، 1993، ص:255

-46علاقة حرجة، ص: 287

-47م، ن،ص :207

-48م، ن، ص:97

-49م.ن،ص :176- 172

-50 بنية الشكل الروائي، حسن البحراوي، ص :23

-51علاقة حرجة، ص:89

-52 م. ن، ص:97

-53 بنية الشكل الروائي، حسن البحراوي، ص :255

-54علاقة حرجة، ص:64

-55 م. ن، ص:89

-56مدخل إلى الأدب العجائبي، تزفتان تودوروف، ص: 5

-57علاقة حرجة، ص:93

-58 م. ن، ص:198

-59 م. ن، ص:93

-60 م. ن، ص:94

-61التاريخ والرواية، محمد يونس مصطفى، دار الأمل للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط1،2005، ص: 73

-62علاقة حرجة، ص:66

-63 م. ن، ص:68

-64قضايا الرواية العربية الجديدة،سعيد بقطين، الدار العربية للعلوم ناشرون، دار الأمان، الرباط، ط1، 2012، ص :157

-65علاقة حرج، ص:199

-66قضايا الرواية العربية،سعيد يقطين،ص :162

-67الزمن في الرواية العربية، محاسن القصراوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان، الأردن، ط 1، 2002،ص :37

-68 علاقة حرجة، ص:117

-69 م. ن، ص:118

-70  بنية الشكل الروائي، حسن البحراوي، ص : 217

-71علاقة حرجة،ص :96

-72قضايا الرواية العربية، سعيد يقطين، 154

-73علاقة حرجة، ص : 70

-74 م. ن، ص:158

-75قضايا الرواية العربية، سعيد يقطين، ص: 159

-76 تحليل النص السردي، محمد بوعزة، دار الأمان، الرباط، ط1،2012،ص :57

-77 بنية الشكل الروائي، حسن البحراوي، ص: 215

-78علاقة حرجة،ص :280

-79 شعرية الرواية الفانتاستيكية، شعيب حليفي، الدار العربية للعلوم ناشرون،الرباط، ط1،2009،ص: 49

-80علاقة حرجة،ص :240

-81م . ن،ص :228

-82م . ن، ص :257

-83م . ن، ص :229

-84التجريب في الرواية المغاربية، عمري بنو هاشم، دار الأمان، الرباط، لا ط،2015، ص:20

-85علاقة حرجة،ص :231

-86م . ن، ص :230

-87م . ن، ص .ن

-88م . ن،ص . ن

-89م . ن، ص :216

-90م . ن، ص :119

-91م . ن، ص :182

-92م . ن،ص . ن

-93م . ن،ص . ن

-94م . ن، ص :183

-95 بناء الرواية، سيزا قاسم، مهرجان القراءة للجميع، مكتبة الأسرة،سلسلة إبداع المرأة، لا ط، 2004  ص : 83

-96م. ن،ص :168

-97م. ن،ص . ن

-98م. ن، ص :187

-99 علاقة حرجة،ص :287

-100م . ن، ص :232

-101م . ن، ص :147

-102م . ن، ص :40

-103م . ن، ص :41

-104م . ن، ص :43

-105م . ن، ص :63

-106م . ن، ص :181

-107م . ن، ص :206

-108م . ن، ص :207

-109م . ن، ص :269

-110م . ن، ص :146

-111م . ن، ص :240

-112م . ن، ص :78

-113م . ن، ص :149

-114م . ن، ص :103

-115م . ن، ص :121

-116م . ن، ص :293

-117م . ن، ص :225

-118م . ن، ص :247

-119م . ن، ص :179

-120م . ن، ص :288

-121م . ن، ص :249

-122 قضايا الرواية العربية الجديدة، سعيد يقطين،ص :105

-123علاقة حرجة،ص :105

-124م . ن، ص :72

-125م . ن، ص :46

-126القصة العربية الجديدة، مقاربة تحليلية، إبراهيم الحجري، محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع، 2013،ط1،ص 25

-127علاقة حرجة ن  ص :179

-128م . ن، ص :180

-129م . ن،ص . ن

-130م . ن، ص :135

-131م . ن،ص : ن

-132م . ن، ص :162

-133النقد الروائي والأيديولوجيا من سوسيولوجيا الرواية إلى سوسيولوجيا النص الروائي، حميد لحميداني، المركز الثقافي العربي، بيروت،ص :33

-134علاقة حرجة،ص :136

-135م . ن،ص :ن

-136م . ن، ص :79

-137م . ن، ص :103

-138م . ن،ص :ن

-139م . ن، ص :110

-140م . ن، ص :135

-141م . ن، ص :134

-142 بنية الشكل الروائي، حسن البحراوي، ص :246

-143علاقة حرجة،ص :141

-144م . ن، ص :40

-145م . ن، ص :80

-146م . ن، ص :40

-147 الراوي: الموقع والشكل، بحث في السرد الروائي، مؤسسة الأبحاث، لبنان،ط1،1986،ص :48

-148علاقة حرجة، ص:142.

مقالات ذات علاقة

نقدُ النقدِ لكتاب (روايات نسائية ليبية) للكاتب يونس شعبان الفنادي … (نموذجاً )

المشرف العام

واقع الشعر في ليبيا

المشرف العام

قراءة نقدية في قصة العجوزان للقاص المبدع: محمد المسلاتي

إبتسام صفر

اترك تعليق