د. الهادي بوحمرة
قدمت البعثة الأممية والعديد من المنظمات الدولية في إطار الدعم- على نحو مباشر أو غير مباشر- وصفات متعددة للخروج من مرحلة الانتقال، وهي وصفات -حسب وجهة نظرها- في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب. فبدل اعتمادها على تدرج الأهداف؛ حسب أهميتها وإمكانية تحقيقها، ووفق تدرج المصالح من الكلي إلى الجزئي، والبداية بتأسيس الدولة وايجاد وثيقة دستورية حاكمة، يُلجأ إليها؛ لبناء السلطة والحكم بشرعيها، أو عدم شرعيتها، وتأجيل غير ذلك من الأهداف إلى ما بعد البناء المؤسساتي الدستوري للدولة، تم الانحراف عن ذلك بتغيير ترتيب المسارات، إذ تم الدفع -وعلى نحو متكرر- إلى إنزال أولوية المسار الدستوري في سلم الأولويات؛ اعتماد على حجج نظرية قدمتها منظمات دولية، وتلقفتها نخب ليبية سياسية وأكاديمية، وتولت الدفاع عنها والنضال من أجلها. وبناء عليها ظهر القول بأن الوقت غير مناسب للتأسيس للدولة، وانحرفت- نتيجة لذلك- الجهود من اتجاه التأسيس للدولة إلى اتجاه التعمق في ما يحسبونه مقدمات لا غنى عنها لهذا التأسيس. وبناء على ذلك، فُتحت ملفات شائكة ومعقدة، زادت تفاصيلها عند ظهورها من محفزات الشقاق والتصادم والنزاع، ووجد الليبيون أنفسهم في دروب شائكة. فقد كان بالإمكان تجاوز الطرح النظري الصرف، والنظر إلى ما وراء التصورات الدولية، والتبصر في واقع المجتمع الليبي، وفحص أزماته المتعاقبة؛ لإدراك أن هذه التدرجية في الأهداف التي تُطرح من المجتمع الدولي غير واقعية، ولا يمكن معها الوصول إلى تأسيس للدولة، وأنها تدرجية تفضي إلى تعطيل الأهداف لبعضها البعض بدل أن يفضي كل منها إلى الآخر.. فبدل نهج طريق سلس وسهل ومحدد البداية والنهاية، تنتج عنه وثيقة حاكمة عن طريق الاستفتاء على مشروع دستور أقرته هيئة منتخبة من الشعب بالاقتراع العام السري المباشر، ويمكن مع الزمن، وبعد قيام صرح الدولة الدخول في مناقشات لتعديلها وتطوريها؛ وفق ما يتكشف لنا من تطبيقها، وما يستبين من مسارات لاحقة، تم قلب الأمور رأسا على عقب إما بقصد تحقيق مآرب خفية عند البعض، وإما بحسن نية بحثا عن مثالية غير ممكنة التحقق من البعض الآخر… ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
أولا/ تمت البداية بالتمسك بالبناء على التوافق، واعتبار الوصول إليه هدفا له أولويته، والنيل بذلك من طريق الاحتكام للأغلبية… ولا شك أن التوافق وما يعنيه من جمع وائتلاف وتآلف وتلاؤم ووئام هو أمر يصعب الاعتراض عليه، مع كونه صعب المنال. وربما يكون اعتماده كشرط لإقرار وثيقة حاكمة هو سبيل لمنع وجودها، وقضاء على إمكانية حسم الجدل بشأنها، ومن الممكن أن يكون آلية لإصابة عملية الانتقال بالشلل. فالطرح المثالي ليس دائما طرحا إيجابيا، فقد يكون من قبيل التكليف بالمستحيل أو بما يقترب منه؛ حسب الأحوال. فمن المفترض أن يكون واضحا لمن يغوصون من النخب السياسية وحتى الأكاديمية في الواقع الليبي وتراكماته القديم والحديثة أن هناك مسائل لا يمكن حسمها إلا عن طريق الأغلبية، والتي يمكن أن تأخذ أشكالا متعددة كالأغلبية المعززة، أو الأغلبية الموزعة جغرافيا، أو حتى الأغلبية المزدوجة، وأن تعليق الحل على التوافق هو منع للحسم، وسبيل لترك الإشكاليات معلقة ومعرقلة لإنهاء مرحلة الانتقال. ولا يخفى تشبع الوسط السياسي الليبي بهذا المفهوم، فقد أصبح الاعتماد عليه واضحا للقول بوجود خلاف مانع من المضي إلى الإمام، وبه تحول الاختلاف والاعتراض من أمر معتاد إلى مسألة تحول دون اتخاذ القرارات، أو إلى مبرر لرفض الاعتراف بها. فقد كان يكفي للبعثة الأممية ولكثير من السياسيين أن يتم اثبات اعتراض عضو من بين أربعة وأربعين عضوا في الهيئة التأسيسية حاضرين لجلسة اقرار مشروع الدستور، أو لرفض هذا الأخير من أقلية من الأعضاء للقول بأن المشروع ليس محل توافق، وأنه لا يمكن المضي في المسار الدستوري بسبب هذا الاعتراض إلى نهايته. وبهذا المفهوم البراق انتهى الأمر في ليبيا إلى أنه لا يمكن الحسم لا بالأغلبية؛ لما نالها من تشويه خاصة من البعثة الاممية والمنظمات الدولية ومن نهج نهجهم من الليبيين، ولا بالتوافق؛ لأنه غير ممكن، ولا بالقوة؛ لأنها موزعة بشكل يكاد يكون متوازنا بين الخصوم السياسيين، وبمعونة دولي.
ثانيا/ كثيرون دفعوا بضرورة المصالحة الوطنية قبل الاستفتاء على مشروع الدستور.. ومع أن المصالحة الوطنية غاية نبيلة تجذب الانتباه والاهتمام والقول بها قول يلجم الألسن، إلا أنها طريق طويل وشاق، ولا يمكن أن ينتهي إلى نتائج إلا بعد حوارات مجتمعية واسعة، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تأجيل بناء الدولة، وتراجع أولوية إقرار الوثيقة الحاكمة لها إلى أن تعمق الظروف الداخلية والتدخلات الخارجية فعلها في الواقع الليبي. كما أنها -من حيث الواقع- أمر غير ممكن التحقق قبل وجود الدولة الفاعل؛ لأن من موجباتها وجود مؤسسات شرعية وفعالة، وهو ما لا يمكن التسليم به وإبعاده عن الجدل؛ إلا بعد وجود وثيقة حاكمة تستمد منها هذه المؤسسات شرعيتها… فرغم ما يبدو من أهمية المصالحة الوطنية، ونبل المطالبة بها، واعتبارها أولوية الأولويات؛ إلا أنها قد تكون وسيلة لإلباس المشاكل السياسية عباءة اجتماعية، ومد آثار النزاعات السياسية إلى المنازعات المجتمعية التاريخية المتراكمة، وطريقا لتعقيد تشابك المسار السياسي، وذلك بتمرير مطامح سياسية وإدخالها من ضمن مكونات المصالحة الوطنية. فالمصالحة تسبقها على وجه اللزوم المصارحة، وهي ما تكشف عن جذور جروح تاريخية قبل أن تكون الدولة على استعداد لمواجهتها وعلاجها، ومن ثم فإن تفكيك الماضي قد يتحول من آلية للبناء إلى معول للهدم. خاصة وأن البعثة الأممية تتجاهل أن يسبق مسار المصالحة مسار نزع السلاح واحتكار الدولة له.
ثالثا/ المصالحة الوطنية تستدعي بالضرورة العدالة الانتقالية، وهو المسار الذي نال النصيب الأكبر من تركيز المنظمات الدولية، والتي طالبت بإصرار على وضع تصوراته وإنفاذه كبداية ومقدمة للتأسيس للدولة الجديدة. وقد قُدمت العدالة الانتقالية باعتبارها الجسر الذي لا مفر من العبور عليه للوصول إلى الدولة، لا باعتبارها الجسر الذي يجب أن تعبره الدولة بعد تأسيسها لضمان الوئام والسلم والاستقرار فيها. فالعدالة شعار براق لكن وضعها في مقدمة الأولويات، تليها المصالحة الوطنية، ثم يأتي إقرار الدستور والتأسيس الدولة بعدهما هو عبارة عن زرع معوقات بذكاء أو بسذاجة في طريق بناء الدولة، فمثل هذا الترتيب للأولويات هو في حقيقته منع لقيامها، ودفع لمن تنالهم قوانين العدالة الانتقالية للوقوف كالبنيان المرصوص من أجل منع قيام الدولة، ولا يخفى على أحد أن هؤلاء هم من يمسكون بزمام الواقع، وأن البداية بكشف الحقائق والمحاكمات يعني نصب المشانق لهم في اللادولة، ولا يمكن تصور تماهيهم مع ذلك. كما لا يمكن تجاهل أن العدالة الانتقالية تحتاج إلى تأسيس دستوري ويجب أن تتولد عنه؛ ومن ثم؛ فإنه من غير المنطقي وضعها في مرتبة سابقة على الدستور.
رابعا/ بدل وضع مسار مراجعة التشريعات وبناء منظومة حقوق الانسان تاليا للمسار الدستوري، انخرطت المنظمات الدولية والبعثة الأممية وكثير من النخب الوطنية في اعطاء الأسبقية له، وقدمته على انهاء المسار الدستوري. وقد تم الاعتماد على هذا التسلسل للأولويات والتمسك به والنضال من أجله، وتزايد المتمسكون بالقول بأن المواثيق الدولية للحقوق لها قيمة فوق الدستورية، وبأنه لا يمكن البداية في بناء الدولة وإقرار الوثيقة الحاكمة إلا بعد التسليم بسمو الشرعة الدولية للحقوق والحريات، وبأن هذه الشرعة وحدة واحدة غير قابلة للتجزئة، وقد تم لاحقا توسعة ذلك بشكل ملحوظ، حيث شملت مسائل هي حسب العرف الدولي من إطلاقات الدولة كمسألة الجنسية وشروط الترشح للرئاسة وتولي المناصب السيادية… ومن المسلم به في مجتمع كالمجتمع الليبي أن هذا النضال الحقوقي سوف يستدعي جهادا مضادا له مؤسسا على خصوصية النظام الاجتماعي ومنظومة القيم الثقافية الليبية والمصلحة العليا للدولة. ما يعني أن الدفع نحو التمسك بالمواثيق الدولية بحذافيرها وعدم قبول استثناءات عليها هو دفع نحو صدام مانع من التأسيس للدولة الجديدة.
هذه الوصفات التي تطرح جدلية الأولويات لم تنته عندما تم اختيار طريق يعتمد على الإرادة الشعبية بداية وانتهاء بانتخاب هيئة تأسيسية ثم الاستفتاء على عملها، بل أن البعثة الأممية دعمت الأجسام الداخلية للبقاء في هذه الجدلية، وتم تحت اشرافها تصميم خرائط متعددة لمراحل انتقالية متتالية ومتعاقبة واستبعاد وضع حد لها. وآخر هذه المحاولات مشروع المصالحة الوطنية الذي تبناه المجلس الرئاسي كبديل- من ناحية واقعية- للمسار الدستوري. فبدل حل الإشكاليات التي تعرض انهاء المسار الدستوري، كانت هذه المحاولة للرجوع إلى نقطة الصفر والدخول في مناقشة جدلية الأولويات من جديد. ولا نرى حلا للخروج من هذه المتاهات المتتالية إلا بإعادة الأمور إلى نصابها، والرجوع إلى تسلسل الأولويات المقررة بداية، والذي يضع المسار الدستور في المقدمة. ومن الممكن بل من الواجب أن يأتي بعد إقرار الوثيقة الدستورية الحاكمة دور المسارات الأخرى بشكل تدرجي، وبناءً على نتائجها يمكن النظر في التعديل أو التطوير أو حتى الاستبدال.