د.خالد الزغيبي
نتج الحوار حول علاقة العدل بالعدالة فى الفكر القانونى الغربى الحديث فكرة (الحق الطبيعى) التى اعتُمِدت كقاعدة تأسيسية أنجز الفكر الغربى بالارتكاز عليها معياره فى تطوير قيمة العدالة . حيث برز مفهوم الحق الطبيعى فى الفكر الغربى باعتباره جهداً بشرياً حثيثاً نحو القيم التى تتفق البشرية على إنموذجيتها ، كما أنه يعبر أيضاً عن الجهد البشرى من أجل الوفاء باستحقاقات تلك القيم حيث افترقت المجتمعات حول آليات الوفاء بها وتأديتها كلا قدر إمكاناته المعرفية .
على هذه القاعدة الفكرية ـ الحق الطبيعى ـ التى استدعاها الفكر الغربى الحديث من تراثه الفكرى والدينى (*) أسست المجتمعات الغربية معيارها لتطوير قيمة العدالة فى إطار من الحرية الإنسانية أمكن بموجبها التعاطى الايجابى مع هذا الحق الطبيعى وبالتالى انطلقوا من هذه القاعدة لتحويل السلوك الأخلاقي الى مجهود داخلي يقوم به الانسان للتحكم في الذات بدون أن يأخذ فى الاعتبار الظروف التاريخية والثقافية والسياسية التي يحياها في مجتمعه، بموجب كون الحق الطبيعي أبديا وعاما وغير متبدل ولا متغير.
أما الفكر العربى الحديث فقد عجزعن الخروج من ذات الحوار حول العدل والعدالة بفكرة قاعدية يمكن التأسيس عليها لأنجاز معياراً مناسباً يسهم فى تطوير قيمة العدالة حيث أنشغل الفكر العربى فى مجمله بالجدل اللامنتج حول آلية استيراد المعايير العدلية سواء من الفكر الغربى أو من التراث الذاتى ، بين داع ومعارض ومتحفظ على أعتماد تلك المعايير ، على نحو جمد دور العقل العربى الحديث فى كونه مجرد عقل استهلاكى تحكمه المجانية وغيرها من خصائص البلادة المعرفية
فهو لا يتعدى كونه مجرد عقل مستهلك على نحو سلبى لمنتجات الغير الفكرية والمنهجية بغض النظر عن كون هذا الغير أوروبياً عصرياً أم عربياً تراثياً .
وهو ما غيب الأصالة عن الفكر العربى الحديث بما لم يمكنه من إنجاز متطلبات عصره أو حتى بناء قاعدة معرفية يمكن التأسيس عليها مع الحاجة الملحة للتطوير .
فى حين كان يمكن الاعتماد على فكرة ( المبادئ الأخلاقية العامة ) باعتبارها تمثل خارطة لكافة القيم المطلقة التى يمكن التأسيس عليها لإنجاز معيار إنسانى حضارى عربى يمكن أن يسهم فى تطوير قيمة العدالة . على اعتبار أن ما يجب التأسيس عليه فى تطوير قيمة العدالة لا يمكن له أن يكون غير ( أخلاقى ) تماهياً مع الطبيعة الاخلاقية لقيمة العدالة ذاتها ، كما لا يمكن له إلا أن يكون ( عاماً ) وقابلاً للتمثل الحضارى فى نماذج مغايرة دون المساس بخصوصيته ، وهذا من واقع تماهى هذه المبادئ مع الدين ( على نحو عام ) باعتباره مصدرها ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى باعتباره منظومة قيمية عامة تؤسس للتعايش الآمن والمستقر على أسس اخلاقية فى المجتمعات الإنسانية المؤمنة بغض النظر عن شرعتها أو منهاجها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) برزت مقولة الحق الطبيعى فى الفكر اليونانى باعتباره شريعة تفوق القوانين الوضعية السارية . وعند هذا الحد، لم يكن قد اتضح مفهوم الحق الطبيعي العام والشامل، حتى ساهمت الفلسفة الرواقية بدورها الهام في نشأته وبلورته. فقد عرفت الفلسفة الرواقية الحق الطبيعي بأنه شريعة غير مكتوبة، الهية وأبدية، وتدل على عوز دائم للعدالة. وينبع هذا التصور الرواقي من نظرة توحد بين الله والطبيعة ، وتطابق علم الكون (الناسوت) مع علم الله (الاهوت). وعندما عالج توما الاكويني موضوع الحق الطبيعي في الجزء القاني من الخلاصة اللاهوتية، فانه اتخذ من الشريعة الأبدية -كما تظهر في قصد الخلق الالهي مبدأ أوليا ومتساميا على كل نظام، ومن الشريعة الأبدية ينبع الحق الطبيعي ويستمد منها معناه.