هنالك ما أخجل منه. مثلاً، أبدو غبياً اجتماعياً ودائماً ما أفشل في اللقاءات الأولى، أحرك يدي اتجاه محدثي صاحب الوجه الجديد وأسلم عليه خمس مرات دون أن أدري، ألقي في وجهه الكثير من الكلام غير المترابط، وأحياناً أورّطه في سرٍ من أسراري الشريرة كأن أقول له فجأة وبدون سبب، أنني أسوء إنسان يمكنه أن يقابله في حياته. هكذا من الفراغ. ولأنني لم أجد الكلمات المناسبة لخياطة الحديث. في الكتابة، أبدو شخصاً آخراً، يعرف ما يريد قوله، شخصياً، أنا لا شيء.
كما أنني لستُ قارئاً حقيقياً -عكس ما قد يظنه الكثيرون-، ولا تعدو حصيلة قراءاتي سوى القليل، ويبدو أنني لدي ذوق خاص في البحث عن الكتاب المغمورين الذين لا يعرفهم أحد، أو البحث عن كتبٍ للعظماء لا يعرفها أحد. دائماً ما يسألني أحدهم، يراني شيئاً عظيماً وكاتبا عظيماً لا أستحق أن أكونه، يسألني هل تعرف الكاتب/الشاعر/الفنان/الموسيقار/الإنسان ذاك؟ أخجل من أن أقول لا، أحياناً أكذب وأقول نعم أعرفه وأبحث عن ذكرى خيالية له، أحياناً أكون صريحاً وأواجه خجلي وأقول لا، يقرعني مخاطبي إما بنصيحة أو بالسؤال كيف لا أعرفه، أجد نفسي محاصراً كقط في إحدى أزقة تاجوراء من قبل مجموعة من الأطفال الأشقياء. أبحث عن مخرجي. أحياناً أردد الاسم مرات حتى يعرف صاحبي أنني تعلمتُ الدرس وسأبحث عن صاحبه. أنا لم أقرأ دويستوفسكي، ولا أعرف إن كنت أنطق (أو أكتب) اسمه صحيحاً أم لا، قرأت مجموعة من الروايات المغمورة لتولستوي كالقوزاق، وأحببتها. كتّابي لا يعرفهم أحد سواي، مثلاً شكل الشاعر اللبناني زاهي وهبي أولى قراءاتي المتقدمة في الشعر الحديث، قرأت لزاهي كتباً ثلاثة، وأخجل أحياناً من ذكر اسمه، أنساه. ولكنني أذكر أنني عندما قرأته أحببت ما كتب. لم أحب أدونيس، أعطاني عرفي درساً في الشعر، درساً في الأدب ودرساً في أدونيس عندما أخبرته بأنني لا أحبه، قال لي العَرف: عن أي أدونيس تتحدث؟ هنالك أكثر من أدونيس. نسيت عن أي أدونيس أتحدث.
أخجل أحياناً من ذكر الكتّاب الذين أحب، مثلاً، مؤخراً بدأت أخجل من حبي لإبراهيم الكوني، الروائي العظيم الذي أحب، وذلك بسبب انتقاد كل من أنصحهم به لكتاباته التي يرونها متكررة، أخبرهم بالروايات التي لا يعرفونها عنه، “الدمية” كانت رواية عظيمة. كما أنني بدأت أخجل من أن أنصح أحدهم بكتاب ما، بعد أن مررت بتجارب فاشلة مع ريما، التي بدأت تكتشف مكتبتي وتقرأ الكتّاب الذين أحببتهم كآري دي لوكا، صاحب جبل الرب. كانت ريما كلما تقرأ كتاباً من كتبي، تتركه وتخبرني أنّها لم تحبه. أشعر بالخجل من نفسي. وأخاف من أن أنصحها مرة أخرى بكتاب ما.
فرناندو بيسوا، لم أعرفه قبل اليوم، بالأحرى، لم أقرأ له شيئاً، سمعتُ اسمه مرة ولم أذكر عندما التقطتُ كتابه ” مدهوشُ أبداً” في القاهرة بمكتبة الكتب خان إن كان روائيا أم شاعرا، فتحتُ إحدى الصفحات لأقنع نفسي بشراء الكتاب، كانت الصفحة في المنتصف، عندما قرأت أولى كلماته أحببته، أردت أن أكمل القراءة في المكتبة. وضعتُ الكتاب في حقيبتي، سافرتُ به، وعدتُ للوطن، كان بيسوا يدعوني للتعرف عليه، لكنني كان علي أن أبحث عن كتّاب آخرين غيره، مثلاً أسامة الدناصوري وكلبي الهرم كلبي الحبيب، كتاب رائع، جعلني أشعر فعلاً بمرض أسامة وما عاناه منه، في جانبيْ، حيث كليتيْ.
اليوم تعرفتُ على فرناندو بيسوا، الرجل الرواية، وأريد أن أسجل هنا أنني ندمتُ أنني لم أعرفه من قبل، وأعلنها، أنا أحب ما كتبه بيسوا من النثر حتى قبل أن أنهي كتابه، وأظنني أنني سأكتب يوماً عن بيسوا. وأدعوكم، بدون خجل، أن تقرأوا فرناندو بيسوا.