في هذا اليوم الشتائي الثقيل القاتم، وإنْ بزغت شمسُ نهارهِ محتشمةً خَجْلَى، تتأبَّى الظهورَ والإشراقَ، ومواجهةَ تياراتِ ونسائمَ البردِ اللاذعة، وبمناسبة إحياء الذكرى الأولى لفراق الأستاذ والعالم الفاضل الدكتور محمد مسعود جبران، رحمه الله وغفر له، استحضرُ قولَ الشاعرِ العربي الكبير الراحل محمود درويش وهو يقول في إحدى قصائده:
وأنتَ تُحرّرُ نفسَك بالاستعاراتِ، فكِّرْ بِغَيْرِكَ
مَنْ فقدوا حقَّهم في الكلامْ
وأنتَ تُفكرُ بالآخرين البعيدين، فكِّرْ بِنَفْسِكَ
قُلْ: ليتني شَمْعَةٌ فِي الظَلامْ
لِأَزْعُمَ أنَّ فقيدَنا الأستاذ الراحل قد استبق إلحاحَ الشاعر العربي بعيداً، واعتمد دعوة خاتمة قصيدته الجميلة (فَكِّرْ بِغَيْرِكَ)، قولاً وعملاً بالكد والجد والمثابرة وليس بالتمني فحسب، واختارها منهاجَ عملٍ دائمٍ، واظب عليه طوال حياته الدنيا، فظَّل فيها قنديلاً وقَّاداَ يشع بأنوار علومه ومعارفه الساطعة، لينير ويضيء دروبنا ودروبَ آخرينَ كُثُرٍ غيرِنا.
لقد فكّرَ أستاذُنا الراحلُ بالآخرين وبنا طويلاً، كما فكّرَ بنفسه جيداً فهيأ لها الإغتراف بزاد العلوم والآداب الغزيرة، ومن ثم وظَّفَها كافة، لتحصيننا وأولئك الأخرين بالمعرفة ضد الجهل .. وبالتنوير ضد التخلف والانغلاق .. وبالعطاء ضد الكسل والإنزواء، ولذلك فهو، رحمه الله، كان وسيظلُ في حيواتنا جميعاً منهلاً ونبراساً نهتدي به، ونُشِيدُ بأعماله، ونستذكر خصاله وشمائله التي تشهد له بالمكانةِ العلميةِ الرفيعةِ العالية، والأخلاقِ الفاضلةِ السامية.
لا شك أنه لن يسمح المقام إطلاقاً بالحديث هنا عن غزارة علومه، وسمو أخلاقه، وخصاله الطيبة، ودعمه وتشجيعه المتواصل لي، وإغداقه عليَّ وافرَ التبجيل والتكريم، وأحرِّ التحايا والقبلات والأحضان والتسليم، أينما وحينما التقينا أو تهاتفنا، وسأكتفي بذكر ثلاثة محطات قصيرةٍ مترسخة في ذاكرتي، ولن تفارقها، أو يخبو بريقُ تذكرها، طوال حياتي بإذن الله تعالى وهي:
> المحطة الأولى/ حين شرّفني الأستاذ الراحل الدكتور محمد مسعود جبران ووافق بكل قبول ورضىً وترحيبٍ بأن يكون أحد ضيوف برنامجي الثقافي المرئي (المشهد الثقافي) فأمتعني لمدة ساعة مرئيةٍ كاملة بحوار فاض عذوبةً لغويةً، وسلاسةً فكريةً، وقيمةً معرفيةً وموضوعيةً، ظل مميزاً ولم يفقد أهميته وبريقه حتى هذا التاريخ، وسيظل مرجعاً وصفحةَ من صفحات سيرته الطيبة العطرة. وكان ذلك اللقاء خلال شهر رمضان المبارك حين سجلتُ معه حلقة المشهد الثقافي وبثت ليلة 19 أغسطس 2010م.
ولقد اعتبرتُ أن قبوله الكريم آنذاك، وهو القامةُ الأدبيةُ والفكريةُ السامقة، تواضعاً شخصياً منه، وإبعاداً عن كل شبهات وصفات التكبر والتعالي، وهذا بلا شك من شيم الكبار الأفاضل الأجلاء كما قيل في الأثر (لا يتكبرُ إلاَّ كُلُّ وضيعْ ولا يتواضعُ إلاَّ كُلُّ رفيعْ).
> المحطة الثانية/ حين رنَّ هاتفي ظهر يوم السبت الموافق 21 نوفمبر 2011 عقب صدور مقالتي الأسبوعية على صفحات جريدة “فبراير”، والمعنونة (مكالمةُ رئيسِ الوزراء) وهي عتبةٌ أشيرُ بها إلى الاتصال الهاتفي الذي شرّفني به معالي رئيس الوزراء الدكتور عبدالرحيم الكيب عقب نشري مقالةً صحفيةً تنتقدُ إحدى زياراته لأصدقاء خلّص في لقاء غريبٍ ولحظاتٍ تاريخية فارقة في حياتنا السياسية. ويعتبر ذاك الاتصال هو أول اتصالٍ هاتفي يجريه رئيسُ وزراءٍ ليبيٍّ مع صحفي. وبعد قراءة الدكتور الراحل محمد مسعود جبران لمقالتي تلك، اتصل بي فورياً ظهرَ يومِ نشرها، مُبْدياً إعجابه بها، ومُسجلاً عدة ملاحظات أعتبرها دروساً مجانية لكاتب مثلي، كما أغدق عليَّ الكثيرَ من عبارات الإشادة والثناء. وأثناء محاضراتي السنوية الفصلية الشرفية لطلبة الصحافة في هذه الكلية العامرة، لازلتُ أنقلُ ما أسبغه عليّ فقيدُنا الراحلُ الدكتور جبران طيب الله ثراه في مَكْرُمَةِ اتصاله الهاتفي، وكذلك إلى زملاء صحفيين وإعلاميين، مؤكداً لهم أهمية وخطورة ما يكتب وينشر، وكذلك من يتابع ويهتم ويتواصل ليُعلِّم.
لقد زادني اتصاله الهاتفي شرفاً وتقديراً وفخراً، وازددتُ يقيناً بأن التواضع والوقار، والتشجيع والدعم، هي من الشيم النبيلة المتأصلة في أستاذنا الراحل المبجل، وأنَّ المرؤةَ تاجُه المرصَّعُ الذي يتلألاُ على جبينه بكلِّ جدارةٍ واستحقاق، وافتخارٍ واعتزاز.
> أما المحطة الثالثة/ فهي اختياره لي باعتباري متخصصاً في علوم الأرصاد الجوية والمناخ، واتصاله بي سنة 2018م حين كان مكلفاً بأمانة مجمع اللغة العربية، طالباً مني أن أتولى رفقة الدكتور محمد البهليل مراجعة (مشروع معجم مصطلحات المناخ والبيئة وإدارة النفايات الصلبة) الذي أعده مكتبُ تنسيقِ التعريب بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وهو مُعجمٌ ضخمٌ يقعُ في أربعةٍ وستينَ وثمانمائةِ صفحةٍ يتضمن العديد من المصطلحات العلمية التخصصية الأجنبية في مجال المناخ والبيئة. وقد اعتبرتُ اختياره لي دفعاً ودعماً للإسهام في ذاك العمل العربي الضخم.
إن هذه الشهادة الثلاثية، وإن كانت قليلةً عددياً، إلاَّ أنها لا يمكن أن تغادر ذاكرتي، بل سأظل أعدُها وساماً شرَّفني به فقيدُنا الراحل الدكتور محمد مسعود جبران أسكنه الله فسيح جناته، وتأكيداً على سماحة فكره، واتساع أفقه، وسمو ورفعة أدبه، وتواضعه الجم، وستزيدُ توطيدَ محبةٍ خالصةٍ نقيةٍ له في قلبي، ولساناً يلجُ له بالدعاء ما دامتْ السمواتُ والأرض. رحم الله فقيدنا الكبير.. وغفر له.. وبارك جهوده وأعماله كافة.. وجعلها في ميزان حسناته.. يومَ لاَ ينفعُ مالٌ ولاَ بنون إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بقلبٍ سليم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
* كلمة الأستاذ/ يونس الفنادي في حفل تأبين الدكتور العلامة الراحل/ محمد مسعود جبران رحمه الله في ذكرى رحيله الأول، الأحد 9 فبراير 2020.