تزامنت أزمة التعليم عندنا في مناطق السلطة الفلسطينية مع أزمة التعليم في مناطق احتلال عام 1948، والناظر في المسألة تجبره الأحداث على عقد مقارنة مؤلمة بين تعامل المسؤولين عندنا نحن الوطنجية، وبينهم هم الأعداء المحتلون القتلة عديمو الإنسانية، كما نصفهم دوما في خطابنا عديم الفائدة، في المؤتمرات والمهرجانات البلهاء التي يطلق عليها أنها مهرجانات وطنية. إنها مهرجانات لصناعة الكذب وتسويق الشعارات الزائفة.
في حقيقة الأمر، لقد ابتلي الشعب الفلسطيني بمسؤولين مراوغين وخادعين وكاذبين، حتى تفوقوا على الثعلب الذي كان ونحن صغار؛ تلاميذ على مقاعد الدراسة نتعلم أنه لا أخدع من ثعلب، وصار عندنا وصفه بالماكر أمراً ملازماً عند الحديث عن الثعلب، لقد كرهت الثعالب منذ تلك الأيام. الآن يجب أن يفكر الفلسطينيون- على الأقل- بتغيير المثل والاعتذار من كل ثعالب الغابات والبراري؛ ليصبح المثل “أمكر من مسؤول فلسطيني”, إن هؤلاء الموصوفين بالمسؤولية يتمتعون بأعلى درجة من انعدام المسؤولية، فقد نشرت صحيفة “الحدث الفلسطيني” قبل أيام في موقعها الإلكتروني- بناء على مصادر وصفتها الصحيفة بالموثوقة- أن الوزراء “التعساء” يتسلمون رواتبهم كاملة مع تلك الزيادة التي ادعت الحكومة الحالية أنها أوقفتها، تلك الزيادة التي منحتها الحكومة البائدة لتضاف على رواتب الوزراء. كل هذا يحدث والمسؤولون يكذبون أن هناك أزمة مالية، فيقتطعون من رواتب الموظفين شهريا نسبة ما ثم يلحقونها بنسبة أخرى، وأصبح الموظف لا هم له إلا احتساب النسب، فصار حاذقا بالرياضيات والعمليات الحسابية. هذه هي حالة البؤساء الموظفين والتعساء الوزراء والموظفين أيضا الذين لم يسلموا من وصف التعاسة هم أيضا حسب ما كتبت “الحدث الفلسطيني”.
آخر كذبات الحكومة ما حدث مع راتب شهر آب الحالي، حيث قامت بالتحايل على المعلمين ولعبت لعبتها الشيطانية معهم، حيث فصلت ما وعدت به من علاوة ال15%، وتم الاتفاق عليها مع ما يسمى اتحاد المعلمين، وهو في الحقيقة مفرق المعلمين وذابحهم من الوريد إلى الوريد. لقد تفاجأ المعلمون بما حدث؛ فلم تضَف هذه النسبة على علاوة المعلمين الأصلية المسماة طبيعة العمل، بل صارت بندا خاصا، ثابتا أو متآكلا مع الزمن، ليقعوا في الفخ، وليشعروا أن الاتحاد خدعهم والحكومة خدعت الاتحاد والمعلمين. لقد أصيبوا بخيبة أمل قاسية، ليس لأن الأبواق المنتفعة والانتهازية ستدافع عن الاتحاد البائس هذا، وعن هذه الحكومة الفاجرة، بل لأنهم شعروا أن من يجب أن يحميهم هو الذي يدفعهم إلى النار والجحيم، فأعلنوا الإضراب، وحق لهم ذلك، ما دام أن من يجب أن يحميهم هو من يسرق حقوقهم، ويجعل عملهم هباء منثورا.
هنا تحدث الموازنة مع الاحتلال ومسؤوليه الذين بدوا أنهم أكثر أخلاقية في تعاملهم مع قطاع التعليم والمعلمين من المسؤولين الوطنجيين الفلسطينيين أبناء الثورة في تونس والجزائر ولبنان في تعاملهم مع المعلمين البؤساء والتعساء معاً. لقد حرص المحتلون على ألا يتعطل الدوام يوما واحدا، فاستجابوا لطلبات المعلمين، ولم يشيطنوا المعلمين، ولم يدفعوا الذباب الإلكتروني لشيطنة المعلمين واتهامهم بتهم مقرفة بقدر ما هي محزنة، ولم يستدعهم الأمن للتحقيق معهم وتهديهم، ولم يضعوا المضربين وقيادة المعلمين على القوائم السوداء لإقصائهم، ولم يصفوهم بأنهم أصحاب أجندات خارجية، ولم يتنمروا عليهم، بل استمعوا لهم وحاوروهم واتفقوا معهم ولم يتلاعبوا عند التطبيق والتنفيذ بما تم الاتفاق عليه. فأين مسؤولو السلطة البائسين الكاذبين من مسؤولي الاحتلال الذين قد تفوقوا عليهم علميا وعسكريا وأخلاقيا كذلك هذه المرة، وفي كل مرة. أقولها وكلي أسف وحسرة وامتعاض، وممتلئ غيظا على هؤلاء الذين لا يحترمون وطنا ولا مواطناً، وليس لهم همّ سوى التخطيط لعمليات سرقة جديدة مبرمجة قانونياً.
الحكومة هي التي تجبرنا دائما على الموازنة بينهم وبين غيرهم، لأنها دائما تتردى في حمأة الفساد وأكل مال الشعب وحقوقه، فبعد أن أكل الثورجيون مال الثورة في الخارج، ها هم يأكلون أموال الموظفين، ويتلاعبون بها، كما كانوا يريدون سرقة حقوق موظفي القطاع الخاص فاخترعوا لهم “حصّالة الضمان الاجتماعي”، وها هم يبذلون قصارى جهودهم في الشيطنة من أجل سرقة أموال العمال بعد أن أجبروهم على تحويل رواتبهم إلى البنوك.
ما يؤلم أكثر وأكثر أن هذا الشعب لقمة سائغة؛ فالحكومة تنهش لحمه، ومؤسسات التعليم الفاسدة تسحق عظمه، والمؤسسات الاقتصادية المقربة من الحكومة تستعبده، وتمص دمه، فشركات الاتصال والجوال والبنوك لم تدع فرصة إلا وتسرق أموال زبائنها. فأين سيذهب الشعب؟ لمن سيشكو؟ لمن سيتوجه؟ ولماذا نحن صامتون إلى الآن؟ هل يعقل أننا فقدنا الإحساس إلى هذه الدرجة من البلادة؟ يا ألله ما أسوأنا! وما أعجزنا! وما أصبرنا على الذل والإهانة! فلا أملك إلا أن أستعيذ بالله من كل مسؤول رجيم، لعل الله ينقذنا مما نحن فيه من ابتلاء عظيم، فلا أشد مصيبة بعد الموت من مسؤول فاسد في حكومة كاذبة، تسوّق مثاليات البلاغة الفارغة لشعب يعاني الفقر والقهر والاحتلال في جهاز معدّ ليكون جهازا تضليلياً لا عمل له إلا إغراقنا فيما نحن فيه من وحول التعاسة والبؤس والشقاء.