قد يكون العنوان مستفزا للبعض ولكن أردناه مستفزا للعقل قبل كل شيء.. وهو محاولة للحوار مع الآخر..
(1)
في بداية الألفية الأولى كانت ليبيا من ضمن الدول الكبرى في عالم لا يشمل أكثر من ثلاث قارات فأعطت للعالم شخصيات مشهورة. يذكر التاريخُ أسماءً ليبية عديدة كان لها دورٌ في تغيير التاريخ وذلك في مجالات عدة مثل الرياضيات والتاريخ (مثل اراتوستين وسينيسيوس) والفلسفة (مثل ارستيب وابنته أريتي) وفي اللاهوت يمكن أن نذكر شخصيتين كان لهما دورٌ كبيرٌ في تاريخ الدين المسيحي وهما سمعان القوريني وآريوس، وبالطبع القديس مرقس والذي كتب إحدى الأناجيل وتميز بأسلوبه الأدبي الراقي مقارنة بكتبةِ الأناجيل الآخرين.
(2)
ولد سمعان القوريني في النصف الأول من القرن الأول الميلادي وجاء ذكره في الأناجيل باستثناء إنجيل يوحنا الذي فضّل أن يمحو اسمه من إنجيله تفاديا للفتنة. ففي الزمن الذي كتب فيه القديس يوحنا إنجيله كبرت الشكوكُ حول قضية صلب السيد المسيح عليه السلام، في القرنِ الثاني الميلادي اختلف المسيحيون في مصير عيسى ابن مريم فمنهم من ادعى أنه صُلب كما جاء في الأناجيل الأربعة ومنهم من قال أنّ الذي صُلب هو سمعان القوريني وليس عيسى عليه السلام وهذا الرأي هو للفيلسوف وعالم اللاهوت المصري بازيليد صاحل التيار “الغنوصي”.
وفي الأناجيل التي ادعت صلبَ المسيح جاء ذكر سمعان القوريني على أنه هو من ساعد المسيحَ في حملِ صليبه؛ نقرأ في انجيل لوقا: ” ولما خرجوا التقوا برجل من قورينا يدعى سمعان كان قادما من الحقل فكلفوه بحمل الصليب خلف اليسوع يتبعهما حشدٌ كبيرٌ من عامةِ الناس، وكانت النسوة يضربن على صدورهن وينحبن عليه”
استمر هذا الخلاف عدة قرون حتى جاء القرآن الكريم ليحسم الأمر: “وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا” صدق الله العظيم.
(3)
عاد الحديثُ عن سمعان القوريني من جديد في القرنِ التاسع عشر وخاصة من طرف الأمريكيين الذين كانوا يحاربون العبودية؛ لقد استعملوا قصة سمعان ولكنهم اعتمدوا على خطأ تاريخي وهو ظنهم أنّ سمعان القوريني أسود البشرة بسبب كونه ليبيًا؛ ظن الأمريكيون يومها أنّ كلّ سكان أفريقيا كانوا من السود ولم يدركوا أنّ سكان شمال أفريقيا يختلفون عن سكان جنوبها. كان الكهنةُ يقولون للناس أنّ لعنةَ نوحٍ على السود قد انتهت بعدما قام سمعان بحملِ العبءِ عن المسيح فهو من ساعده على حمل صليبه فيما يعرف عند المسيحيين ب “طريق الصليب” الذي ما زالوا يحتفلون به كل عام في شهر أبريل، ولقد أنجزت هوليود شريطًا سينمائيا عن سمعان القوريني قام بدور البطولة فيه الممثل الشهير سيدني بواتتيه.
(4)
فكرة أنّ سمعان قد حل محل يسوع ، وصُلب بدلاً منه ، ما زالت ساريةً في الأوساط التي يسمونها “الغنوصية” كما نقرأ في عدة أماكن حول الموضوع ؛ ففي كتاب مرآة النبي يطرح الكاتب الفرنسي جان ميشيل هيرت سؤالا يربك الكثير من النصارى وهو لماذا صار النصارى بعد القرن السادس عشر يعبدون آلة التعذيب التي هي الصليب ، وهناك حوار دائم بين النصارى فمنهم من يقول أن شكل الصليب لم يصفه أي من الأناجيل ويعتبرون أن فكرة الصليب هي إشارة إلى سيدنا موسى عليه السلام حين يفرد ذراعيه على شكل حرف التو (ما يشبه حرف T في اللغات المعاصرة)
وجدير بالذكر أنّ الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية تختلف في وضع الصليب داخل الكنيسة؛ فحين تضع الكنيسة الكاثوليكية رجلاً مصلوبًا تكتفي الكنائسُ البروتستانتية بوضع صليب دون مصلوب.
ويقول بعضُ الكاثوليك أنهم يعبدون الصليب لأنّ الصليبَ هو ما يمحو الخطايا يوم الدين.. تلك أمانيهم.. أما إذا قلت لأحدهم أن الذي صلب هو سمعان القوريني وأنتم ربما تعبدون مواطنا ليبيا وليس اليسوع يقولون لك أن اليسوع له قدرة هائلة على التخفي في شخصيات أخرى.. يرون أن اليسوع يومها تخفى على صورة سمعان … مازال النقاش حول ذلك الموضوع قائما ولن ينتهي قبل يوم القيامة بالرغم من أنّ القرآن الكريم حسم الأمر بينهم.. الأمر الذي ما زالوا فيه يختلفون.
للمزيد يمكن الاطلاع على المراجع التالية:
* Simon of Cyrene by Mable Mitchell. Xulon Press. 2014
** Le miroir du prophète. Par Jean-Michel Hirt. Grasset 1995
نشرت المقالة بصحيفة “الحياة الليبية” بتاريخ 17 مايو 2022
بالصور.. سمعان القوريني كما ظهر في فيلم من بطولة سيدني بواتييه
والمسيح الأسود كما هو موجود في بعض الكنائس