من أعمال التشكيلية الليبية .. خلود الزوي
سرد

إِنَّهُ العيدُ .. !

Kolod_Zwai-08
من أعمال التشكيلية الليبية .. خلود الزوي

 

ويحَه ..! إِنَّهُ العيدُ .. ! وجهٌ بلا ملامحَ يُقبِلُ نحوي لعناقي غصبًا .. كائنٌ غريبٌ يتقدَّمُ باتِّجاهي .. يجتاحني .. يسكبُ في أعماقي – قسرًا – بعضًا من وهمٍ .. وشيئًا من يقينٍ ..

*****

إِنَّهُ العيدُ .. ! تحاصرني شموعٌ حمقاءُ تأكلُ نفسَها كما يأكلُ الزَمنُ أعمارَنا .. شموعٌ تذوبُ فيه .. بها .. تذوبُ لأجلي .. تنتحرُ لأجلِ أن تضئَ العيدَ المزعومَ .. سأساعدُها بنفخِها .. وأكتفي بأن أشرقَ في دخَّانها ، وأنغمسَ بعدَها في عتمةٍ حقيقيَّةٍ ..

*****

إِنَّهُ العيدُ .. ! أقطِّعُ كيكةَ العيدِ .. وأتذكَّرُ ملايينَ الجوعى .. اليتامى .. والمشرَّدين .. أنفخُ في الحلاوةِ التي سأحشو بها بطني .. وأعود ُلأنفخَ الشُّموعَ المطفأةَ .. كم في هذا الكونٍ من ظلمٍ ومظلومينٍ ..!؟ ومن ظلامٍ كئيبٍ مريبٍ ..!؟

*****

إِنَّهُ العيدُ .. !! سأحتفلُ .. عليَّ أن أغلقَ عليَّ بابَ غرفتي وأبكي .. مسبحَةُ العمرِ تُسَرِّبُ سنةً أخرى من عمري .. تُسَرِّبني نحوَ شيخوختي المترقِّبَةِ بلهفةٍ خرقاءَ .. تمهِّدُ عمري للموتِ القادِمِ لا محالةً .. موتٍ ربِّما لا أحدَ ينتظرُهُ كما أنتظرُهُ .. دونَ تطرُّقٍ لليأسٍ والقنوطٍ والإِحباطِ … إِنَّهُ اليقينُ المحضُ .. !

إِنَّه العيدُ .. ! عليَّ أن أطفئَ التلفازَ وأبكي ..! أن أحتضنَ العمرَ المغَادِرَ وأبكي مثلَ يتيمٍ .. أعولَ مثلَ ثكلى .. فمشاهِدُ القتلِ لن تسمحَ لقلبيَ المخدوعِ بتصديقِ كذبَةِ العيدِ بالاحتفالِ .. لن تسمحَ له بمراقصَةِ العيدِ وعِنَاقِ الدَّهشَةِ .. وادِّعَاءِ الفرحِ المفرَّغُ من دفئهِ وصدقِه وعفويَّتِهِ ..!

*****

إِنَّه العيدُ .. ! يكتظُّ بريدي برسائلِ المعايدَةِ .. معايداتٍ من كلِّ نوعٍ .. أساليب مختلفة .. صدق العاطفة تغطِّي على أخطاء اللغة التي تحرث قلبي بمشارطها .. المجامَلَةُ الفَجَّةُ تتكفَّلُ بإشعالِ حرائقَ في دواخلي .. وأنا لا زلت لم أستيقظْ من غيبوبَةِ حضورَهِ المفاجئ .. !.

*****

إِنَّه العيدُ .. ! أشعرُ بأنني سمعتُ بالعيدِ هذا مرارًا .. إِنَّهُ زارني أو زرته .. أو التقينا في مكانٍ ما .. أو زمانٍ ما .. أو برزخٍ زمكانيٍّ ما ..!؟

المهمُّ إِنَّهُ العيدُ ..! العيدُ كما اصطلحَ الأقدمونَ على تسميتِهِ .. فَسِرْنَا على نهجِهِم .. لعلَّهُ تيمُّنًا لكي يعودَ .. وها هو قد عاد .. بماذا عاد ..!؟ ولماذا عاد..!؟ وماذا أعاد لنا ..!؟

وماذا بعدُ أَيُّهَا العيدُ المبجَّل ..!؟

فلازلنا كما نحن نتعاطى القلقَ والأسى والحسرة .. ونتفَّسُ المللَ .. ونحمدُ اللهَ حمدًا آليًّا دونَ وعيٍّ ولا إدراكٍ .. !!

*****

إنَّهُ العيدُ ..! هل ينبغي لنا أن نفسِّرَ للآخرِ أنَّ العيدَ لا يعني لنا شيئًا غيرَ إشعارِنَا بانقضاءِ العمرِ ..!؟ سنمدُّ أيدينا مصافحينَ مجاملةً ونعلنُ ابتسامةً باهتةً على شفاهِنَا المتيبِّسَةِ .. ونستدعي منَ الأعماقِ بعضَ فرحٍ – إن وجدناهُ – لنبدوَ للآخرينَ فرحينَ بالعيدِ .. لكيلا يغضبَ العِيدُ منا ويهجرَنَا .. ..!

******

إنَّهُ العيدُ ..! لماذا يحتفي البَشَرُ بمولِدِهِم ..!؟ ألا يمكنُ أن نبتكرَ أعيادًا أخرى أكثرَ منطقيَّةٍ وأكثرَ إدهاشًا وأكثر استحقاقًا .. وأكثرَ مدعاةً للاهتمامِ .. وأروعَ الأعيادِ التي تفتننا ابتسامَةُ حبيبٍ صدوقٍ .. ضحكةُ طفلٍ .. عناقُ الوالدينِ عيدٌ كبيرٌ .. احتضانُ الأمِّ مهرجانِ فرحٍ حقيقيٍّ .. ميلادُ القصيدَةِ .. قدومُ الرَّبيعِ .. اندلاعُ اللَّحْنِ الشَّجيِّ.. لقاءُ الأَحِبَّةِ .. تخاصُرُ قلوبِ الأصدقاءِ أعيادٌ لا تجاملُ ولا تخونُ ..

*****

إنَّهُ العيدُ ..! عيدُ ميلادٍ مخادعٍ .. إِنَّهُ جاسوسٌ لشيخوخة .. عميلٌ للموتِ .. فلا تفرحوا لقدومِ أعيادِ ميلادِكم .. لا تسلموها قلوبَكم .. إنها تعانِقُكم بأحضانٍ ذواتٍ أنصالِ حادَّةٍ لتطعنَكُم في الظَّهْرِ .. تحيطُكُم بذراعينِ من سعيرٍ لتحرقَ أعمارَكُم .. لتلتَهِمَ لحظاتِ فَرَحَكُم الحقيقيَّ..

*****

إنَّهُ العيدُ ..! عيدُ ميلادٍ مخادعٍ .. وإن تقمَّصَ مسوحَ الفرحِ .. إلاَّ إِنَّهُ يُحْصي علينا أعمارَنَا .. يقفُ على أبوابِ قلوبِنَا ليحْسِبَ نبضاتِنا الهارِبَاتِ فَيُنْقِصُهُنَّ من أعمارِنَا .. إِنَّهُ يشي بنا لشيخوخَةٍ متربِّصَةٍ .. شيخوخَةٍ غيرِ بريئةٍ إلبتَّةَ .. وتقرِّبُنَا من موتٍ واثقٍ من تداعينا نحوهَ بسرعَةٍ لا تُصَدَّقُ .. كَسُرْعَةِ انقضاءِ العمرِ نفسِهِ .. !!

مقالات ذات علاقة

رواية الحـرز (ما بعد النهاية) الأخيرة

أبو إسحاق الغدامسي

مقتطف من رواية: الجنود*

جمعة الموفق

رواية الحـرز (49)

أبو إسحاق الغدامسي

اترك تعليق