في “وزارة الأحلام”، كما في كل اعماله الروائية الاخرى، يمارس محمد الأصفر حياته وحريته كتابة، فيطلق العنان للخيال ولليومي، للانسان وللشيطان، للشعر والقصة والرواية، حتى تحس انه يكتب ليعيش، ليتنفس، فتبدو الكتابة اقرب الى الحاجة البيولوجية، وفي الوقت نفسه حاجة وجودية عميقة. اننا امام تجربة ليبية وعربية متميزة لا تسعى لشيء في الكتابة الا تحررها من كل قيد بما فيها قيود الكتابة.
“في الكتابة كما في الحياة اليومية، سأدوس على الشيراتوري “دواسة البنزين” لأنطلق الى الامام، لكن اين هي السيارة؟ صحيح انا لا املك سيارة ولا حتى دراجة نارية او هوائية، سأدوس اذن على دواسة براقة الاحلام “. هكذا هي الكتابة للأصفر: الانطلاق بالاحلام والخيال رغم حواجز الواقع وعراقيله: “عندما يضعون شيئا في خطمي، شيئا قاسيا، استسلم وانصاع ، يجذبني من يمين إلى يمين، من يسار إلى يسار، يجذب الحبلين، اتوقف، يطلقهما ويهزهما فأسرع الخطى”. الكتابة هي الافلات من القيد من الشكيمة التي تقيد الفرس وتوجهها. انها ممارسة للحياة بحرية.
تأخذ الطفلة دور الكتابة في هذه الرواية، بكل ما في الطفولة من لعب ولهو، يستسلم لها الراوي “الكاتب” لتقوده بدل “نجمة” روايته السابقة، التي رغم انها صنيعته تبدو في مساحات كبيرة من النص، المتحكم الاول في سريانه وتدفقه، وفي سير اللعبة وتوجيهها. هي الشريك في لعبة “الكتابة”، وهي العارفة بأصول اللعب، بفطرتها كما تبدو في النص: “تقول لي الطفلة اشطب المقطع السابق وتجذب الشكيمة بعنف كي امتثل”.
لكن على رغم هذا الاذعان لها، فان الحاجة للحرية وممارستها، التي تعتبر الكتابة وسيلتها الوحيدة عند الاصفر، تجعل التمرد والخروج على القواعد احدى غايات لعبة الاصفر. يضع الشكيمة في فمه ويجرّب آلامها ليخرق تلك الاصول والقواعد ممارساً حريته في اللعب كما يشاء: “احتمل ألم الجذبة الفجائية ولا امتثل”.
عبر الاستسلام والتمرد والخروج يكشف الاصفر الغاية الرئيسية للعب عنده، اعني ممارسة حريته الخاصة المطلقة، حلما ولعبا، بواسطة الكتابة. انها حريته الفردية المطلقة، حرية كاليجولا في اللعب بروما، حبا وحرقا وخيالات. يعيد تمثيل لعبة الديكتاتور كتابة: “اشعر اني خرجت عن موضوع الرواية، خرجت بدون عمق، لذلك سأواصل هذا التداعي، العودة الى اجواء الرواية امر سهل، أنا ديكتاتور افعل ما اريد في وطني الروائي هذا، لن تطردني الرواية او تغتالني. لقد جعلتها ضعيفة وتافهة”.
بنية الرواية واركانها واصول كتابتها وكل مألوف اشكالها، لا تمثل لدى الأصفر تابوهات وخطوطاً حمراء لا يمكن تجاوز احكامها، بل ان التجاوز والهدم واعادة البناء والترتيب وخرق تعاليم الكتابة الروائية وأصولها هدف اللعبة “الكتابية” عند الاصفر. الحرية المطلقة للاعب “الكاتب” هي غاية الاصفر، امتلاك النص ملكية مقدسة وخاصة هي فلسفته الابداعية: “الرواية مثل المربوعة، انت في مربوعتك حر، تفرشها، لا تفرشها، تضع لها مقاعد وثيرة او حصيرا جميلا، تستقبل فيها ضيوفا او لا، تجلب لها عاهرات او طاهرات، تنام فيها القيلولة ام لا، تقفلها او تترك الباب مفتوحا، تفتح نافذتها ام تغلقها بالمسامير، انت حر في مربوعتك مثلما الحاكم حر في بلده الذي يحكمه، يفتحه، يقفله، ينميه، يدمره، يدخل به حربا، يدخل به سلاما يتصرف به كأنه بيته الخاص”.
بالكتابة واللعب والحلم ينشئ الاصفر وطنا او بيتا، لنقل فضاء، يمارس فيه حريته التي هي حاجته الوجودية الاساسية، لعبه الحر بالواقع الجالب للمتعة والانسجام مع الذات وحاجاتها. لا يبدو منطقيا للاصفر ان نكتب لنشقى ونعاني بل “اكتب لألعب، لأستمتع لأكون حراً”، مما يجعل الكتابة فعل تطهر للاعب وليس للجمهور، للكاتب وليس للقراء.
“انا اثرثر الان، ليس لأني غير قادر على نسج حكاية منطقية بها شخصيات ووصف وحوار وحبكة كما يفعل اغلب الروائيين المرموقين كماركيز ودوستويفسكي وتولوستوي ونجيب محفوظ ويوسا… لكن لا احب ان افعل ذلك. فالكتابة لديّ فعل حب، تلك الطريقة في الكتابة بها نفاق وتكلف وعصر ذهن وتعب يجلب لي الامراض الخطيرة. انا اريد ان اكتب ببساطة وتكون صحتي تمام”.
روايات الاصفر في غالبها مونولوغ خاص. هي على رغم ضجيج الحياة فيها، “اوطان للعزلة”، للعب بالروح، كما يقول الليبيون: “اريد ان افقد القراء بصورة جدية. كلما فقدت قارئا، أشعر بالسعادة واشعر اني في طريق النجاح. اريد ان افقد كل شيء في رأسي. اريد ان اكون دائما صفحة بيضاء، أريد ان افقد الاصدقاء السابقين. لا احب تكوين صداقات جديدة. لا احب اضافة اسماء جديدة لذاكرتي. احب ان انقص من الكم الهائل الذي املكه منهم. عندما اخرج صديقا من ذاكرتي اشعر بالمتعة، بالاتساع، اشعر بأن جزءاً من ذاكرتي كان محتلا وقد حررته بالقوة. واقول مرة اخرى عليَّ ان اقيم احتفالا كبيرا بمناسبة اجلاء اخر صديق عن تراب ذاكرتي”.
يكسر الأصفر لعبة الكتابة واصولها، ويلعب بعناصر الرواية من شخصيات وسرد وحبكة وزمان ومكان، واخيرا القارئ نفسه، بكل ما يمثله من سلطة وهيمنة على حرية الكاتب. جنة الأصفر تبدو فضاء لا ينوجد فيه البشر. هنا يكمن العنصر الدرامي. حلم ان تكون حرا في فضاء مفتوح لك على المتعة، تحاول سدّه على المنغصات والالام والعذابات. هي طفولة تعيشها وانت في خريف العمر.
لكن الرواية المربوعة والطفلة والأحلام، تأتيها لحظة تخرق فيها هيمنة اللاعب “الكاتب”، وتنغص عيشه وتعطل ممارسته حرية اللعب والحلم والكتابة. ففي لحظة فارقة تصرخ الرواية في الكاتب كما تصرخ الشعوب في وجه الديكتاتور: “انا لست مربوعة. انا فن، لا يمكنك ان تقودني للرداءة، لا اسمح لك بذلك، انا جنة لا يمكنك دخولها دون جهد، العب قليلا يا اخي، شغِّل خيالك كي يبدع الجواهر. انا لست مربوعة. انا رواية”.
“وزارة الاحلام” التي يؤسسها الاصلاحيون لتلقي الاحلام ودفع ثمنها لمنتجيها، وهو حدث الرواية المركزي كما يبدو للوهلة الاولى، تفشل في استيعاب كل الاحلام المنتجة محليا، وتحاول استيراد الاحلام من الخارج، ويصل الامر الى ثورة الاحلام، وتواجه تلك الثورة بكل السبل والاسلحة. على رغم الهروب، ينهمك اللاعب الكاتب في ثورة الاحلام، وتنجح الثورة ويكون شهداؤها اناسا حقيقيين ليسوا خيالا ولا احلاما، وكذا نجاحها.
في “وزارة الاحلام” تعرية للكتابة كما هي تعرية للواقع وادواته، وتعرية للاحلام الخاصة جدا، ورصد لانصهار كل الاحلام الخاصة جدا في حلم كبير وعام جدا. الرواية اللعبة، او الاقطاعية الخاصة، تتمرد ضد الكاتب كما تتمرد الاحلام على وزارتها، ويتمرد الناس على حاكمهم، ويتحول الكاتب من ديكتاتور يمارس ما يشاء في مربوعة النص الى مراقب لتحولات النص.
____________________________
عن صحيفة النهار – 28/08/2013