سرد

رواية الفندق الجديد: الفصل العشرون

ذاكرة المجني عليه

من أعمال التشكيلية شفاء سالم
من أعمال التشكيلية شفاء سالم

4 – دكاكين سيدي أدم

سيارة (البولمن) واحدة من احدث وسيلة نقل في رباية الذايح، هي وحافلة (الفردينا) الصغيرة حيث أطلق عليهما المسافرون والعاملين في محطة الركاب اسم (سيارة الرميس)، وبظهور هذا الاختراع بدأت الكاروات والكاليصات في الاختفاء التدريجي، وأصبحت محطة الكاروات والكاليصات تتواجد في أمكنة محدودة ومحددة جدا في المدينة، تحديدا عند مدرسة الأمير حينها وخلف الفندق البلدي الجديد أحيانا أخر.

سيارة البُلمن والتي كان كعادته سي (جبريل) منتظرا بها في محطة الركاب أو الجنسية كما صار سكان بنغازي يسمونها حينها، وهي (واحدة من الوسعايات القريبة من الفندق البلدي)، المتموقع في وسط مدينة بنغازي والذي يرتاده التجار للتبضع والبيع، هذه الوسعاية استغلها كل من كان له انفا طويلا جدا أو اذنين كبيرتين جدا، للعمل والتنفع من حركة الركاب القادمين من الضواحي، الراغبين في التعايش داخل المدينة، والتي أضحت قبلة المسافرين، فبنغازي هي ثاني مدن المملكة الليبية، وهي أرض دائماً ما توفر فرص العمل والخير الكثير لمن فيها.

(ادريس بو شرفيدة) صاحب الصفقة الرابحة، صاحب السبعة دكاكين المتجاورة من مجمل دكاكين، بُنيت كأساس تجمع سكني جديد في مطلع عام 1946، واشتراها من( سي أدم) والذي فضل أن يُقيم عليها مسجدا بثمن هذه السبعة دكاكين، فالحي بدأ يزدحم بالسكان والوافدين من كافة أرجاء بنغازي وغيرها من المدن وكذلك الوافدين الأجانب وسكان المناطق الحدودية، الذين ينعتونهم بعض البناغزة بالسلكاوية أو الصاد شين!!.

كان ولابد من وجود مسجدا للصلاة واقامة شعائر الدين به، وبعد أن شيد الجامع، اصر السكان أن يكون هو الخطيب كونه رجل صالحا وحكيم، وكذلك أن يكون هو ومن بعده ابنائه هم من ينادوا بإذان الصلوات الخمس وذلك لجمال أصواتهم ودقتهم وحرصهم في الحفاظ علي مواعيد الصلاة.

كانت الدكاكين تطل علي طريق ممهد ومعبد بإسفلت اسود جديد، والذي كان سبباً في إسعاد سكان المدينة، جراء اكتشاف البترول في البلاد تلك الفترة، ويقوم بتنفيذه عُمالا صغار الحجم هم من جنس الرقريق، والذين أتوا بهم من اليونان خصيصا لهذه المهمة، ثم انسلخوا بعد عدة سنوات، فأصبحوا ليبيين كذلك عن طريق المصاهرة.

لكن أولاد (إدريس بوشرفيدة)، حين شبوا عن الطوق اقترحوا إجراء تعديلات علي الدكاكين بناء علي رأي أدلي به (قدري) ذاك الوافد الجديد.

أجروا وبنوا تقسيمات وتحويرات داخلية، وأقنعوا والدهم (إدريس) أنها ستكون مناسبة لتخزين الفائض من البضائع، ثم تناوبوا علي المجيء سرا لعمل حفر وانفاق وسراديب داخل الدكاكين، والتي سوف تقودهم الي عشوش كانوا يسهرون بها من حين لأخر مع من هم علي شاكلتهم، وبعض الفتيات العاهرات واللاتي كن يتسربن خلسة من بيت كان يقع في شارع (بالة) يمارس به العهر خلف منارة سيدي اخريبيش، ليجدن (صفوان أو ميلود أو افتوحا ادراما)، ليأخذهن بسرعة علي الكروسة عبر طريق بحر الصابري متجاوزا زرايب السود مرورا، بالمنستير ثم عبر طرق ملتوية الي وغوط الأوادم الي احد الدكاكين، ليدخلن الي حجرة القياس وعبر النفق الي تلك العشوش، ليمارسوا الجنس لعدة ايام حتي، وبالتالي كان هذا السبب في بداية بناء غرف القياس في محلات الملابس، ثم في الصيدليات بعد التطور العمراني، وتطور الأمر الي أن وجدت بعد سنوات من محاصرة المتشددين من مختلف تنظيمات ثوار بنغازي (ثوار السابع عشر من فبراير)، والذين قاوموا جيش عملية الكرامة نهاية عام 2014 واسموهم بالدواعش، والتي تمترست في وسط المدينة، وجوبهت من طرف الجيش العربي الليبي، كما يحلو بتسميته أنصار حركة (الكرامة)، حيث فوجئوا أن البيوت نفسها تتداخل داخل الشارع الواحد من خلال أنفاق وسراديب، وتفتح على بعضها البعض، بأبواب سرية قديمة!!.

فهل كانت هذه الانفاق والسراديب والأبواب السرية، تستخدم لتسلل الراغبين في ممارسة الجنس مع بنات ونساء المنطقة الواحدة بدون علم أو بعيدا عن أنظار سكان الحي؟!

كانت (دكاكين إدريس) منها ما هو ملئ بالآلات الموسيقية (بنادير وطبلة وزمامير وشكشكات وبدل الرقص المصرية والشملة الليبية)، ومنها ما تخصصت لبيع (العطوس والنفة والمضغة واللاقبي والزبيب وأمية الزبيب الخاثرة والامبيت (1) ومية الشعير، الكوارط (2)، وقد حور في بناء احد الدكاكين، ليبني فرنً وهو ما يسمي بالكوشة، التي تبيع الخبز الساخن في الصبح، وفي المساء يتحول الفرن الي مطعم صغير لبيع فطائر المفروم الشهي، اسموه بمطعم (الفلوقة)(3)، وتعبي بمفروم لذيذ ساخن وشهي كذلك.

لكن هناك مشروب مُسكر اسموه (البوخة )، وكانت بدايات لتصنيع الخمرة في مدينة بنغازي فكان الشراب الأكثر مبيعا حينها، وكان (أفتوحة دراما) و(ميلود بو شرفيدة) هم من يقومان بتصنيعه سراً في وغوط الأوادم، بفضل معارف سي (سعيد بوشملة )، والذي كان يوفر لهم الكحول أو ما كان يسمي حينها بالاسبيرتو، حيث كان يحصل عليه من جراء صداقته لممرضة يهودية كانت تعمل في مخازن أدوية الاصبيتار الكبير، في منتصف الخمسينات.

وكانت ابنته (مريم) تحرص علي مساعدة والدها في صناعة فطائر بالزيت الساخن أو ما كان يعرف حينها بالسفنز والمخاريق والزلابية، علها تلفت نظر( يوسف) ابن سي( أدم) فهو فتي مليح الوجه وعلي درجة كبيرة من الجمال والجاذبية، وكان يجيد الحساب، لذلك كان يستعين به سي (ادريس) في اقفال الحسابات الشهرية.

كانت (مريم) مغرمة به جدا وتحاول استمالته، لمضاجعتها دون جدوي، فهو فتي ورع وتقي كان يخاف الله سبحانه وتعالي.

في تلك الأيام أصبحت أسرة (إدريس بوشرفيدة) أكثر عطفاً واهتمام فاحتوت الوافدين، الجدد، حيث قررت ابنتهم (رتيبة)، بعد اصرار كبير منها ومن شقيقها الأكبر، (ميلود) احد متسكعي الحي ويشتهر بكنية (شرفيدة) أن تقوم بزيارة جارتهم (نجوي) وتقدم لها ما ينقصها هي وطفليها، من متطلبات وتهتم باحتياجات سكنهم المتهالك كذلك، خصوصا بأن (نجوي) يبدو عليها أنها موش وجه بهدلة.

كما كانت تردد (رتيبة) أمام والدها (ادريس) ووالدتها (كوثر) وأختها (مريم ).

تمضي الأيام بحلوها ومرها، لكن لا أحد حقيقة تفطن أن (ميلود شرفيدة) قد وقع في حالة من الهيام حين وقع نظره علي القاطنة الجديدة في البيت المقابل (نجوي) بالرغم من كونها زوجة (قدري)!! والتي طغت بجاذبيتها علي فكره، وتمكنت من اقتياد غرائزه الي دهاليز الرذيلة والفواحش، متناسيا حقوق زوجته (سعدة) تلك الزوجة الطيبة، والتي كان ينتابها من حين لأخر بعض من أمراض القلب جراء إجبارها علي تجهيز عجين الخبز اليومي مع شقيقتيه وأمه، والذي أصبحت كمياته تزداد يوما بعد أخر حتي تعودت أن تعجن العجين بقدميها لا بيديها!! مثلما تعودوا علي تجهيزه بهذه الطريقة وتوارثوه!

مرضها تفاقم جراء علمها بطيش وخيانات زوجها( ميلود) المتكررة، فامتنعت عن ايفاء رغباته الجنسية والجامحة معه حينها، ثم تعودت علي خياناته فعجزت.

لالا لم ينتبه أحد من عائلة (إدريس بو شرفيدة)، لمدي ازدياد البذخ والسخاء في سلوكيات ابنهم (ميلود) منذ قدوم (نجوي)، والذي بدأ يتعاظم، فبدأ الاهتمام بجلب احتياجات اسرته من الدكاكين عمداً بكميات اكبر!، لتفيض عن قصد عن حاجة بيتهم، ، فبدلا من( خمسة من الكيلوجرامات من الطماطم والكيلو جرام واحد من الفلفل الحار، و اثنين من الكيلوجرامات للبصل )، أصبح يجلب اضعافا مضاعفة من هذه الاحتياجات التي يطلق عليها دائما لفظ (السبيزة) في شرق ليبيا أما في غربها، فيطلق عليها لفظة (القضية )، كذلك كان في منتهي الكرم، فيوفر لنجوي ما يتوقع انها احتياجاتها اليومية، من الخضروات و اللحم والفواكه، وبالتالي يتمكن من ابداء النصح، بأن يحملوا الفائض من هذه المجلوبات الي العائلة التي استأجرت الحوش العربي المقابل لهم.

كذلك اقترح علي( قدري) أن يجعل بيته ملاحة (4)، حيث أشار إليه بأن يقوم بتحويل أرضية وسط الحوش الاستاك، الي رمال ساخنة، ستكون صالحة لتجفيف مياه البحيرات السبخية المجاورة والمالحة جدا والحصول علي كميات الملح الصالح للاستعمال، فابتهج (قدري) جدا بفضل صنيع( ميلود بوشرفيدة) تجاهه، وثقته به، والذي فتح له قلبه وبيته واصبح الاثنين وكأنهما شخصا واحدا، لا يفترقا، فتقاسما كل شيء! وبهذا استطاع (ميلود) أن يستحوذ علي قلب ومشاعر وجسد (نجوي).

الحقيقة أن (ميلود شرفيدة)، نجح كعادته، في تنفيذ حبائله للهيمنة علي (نجوي) هذه المرأة الفائقة الجمال، لكنه وجد صعوبة وحيدة فقط، تمثلت في إقناع رفيقه الخمار (افتوحة ادرامة)، بأن لا ينغص عليه الاستفراد بعشيقته الساكنة الجديدة في الحي(نجوي) خصوصا وأنها استأجرت بيت يقع مقابل لبيته وبيت والده (إدريس).

ميلود :

شوف غيرها وحل عن سماي يا(افتوحة).

حيث قال بما معناه :

أرجوك اتركها لي وابحث عن غيرها يا (أفتوحة ).

وأضاف :

الشردوخة (نجوي) هذه من نصيبي أوحدي بس.

أضاف بما معناه :

هذه الفاتنة والتي تسمي (نجوي) ستكون من نصيبي وحدي فقط.

قالها بحزم (ميلود شرفيدة) لمؤنسه ونديمه في سهرات الأنس والإجرام، الخمار (افتوحه)، في إحدى ليالي السكر وسهرات المرسكاوي في عشوش الديس، والتي كانت منتشرة علي تخوم غوط الأوادم في مدينة رباية الذايح، وقريبة جدا من تجمعات سكنية قديمة للسود والخدم تعرف ب (زرايب عيت الكاكاوي)

رد الخمار (افتوحه ادراما) :

كيف صار؟ يا امتكم؟

حيث رد شارب الخمرة (أفتوحة اداراما) بما معناه :

اذا كيف سيؤول اليه الحال ايها الرائع؟!

واردف بمثل ليبيا شعبيا موروثا :

«وانا نقعد حنك فوقاني»!؟ مثل شعبي ليبي

أي بما يعني.. وهل سأصبح لا قيمة لي!؟

ميلود شرفيدة بطريقته المعتادة :

خطاني يا راجل شوفلك جلف أخري زبر حالك امعاها.

حيث قال بما معناه :

ابتعد عني يا رجل، أرحل وأبحث عن امرأة جذابة، لتتمتع بها وتشبع بها شهوتك.

وأضاف :

اهي (سالمين) وليه سمحة ووحدانية راهي عايشة شبه ابروحها، مات راجلها من اسبوعين، وامعندهاش إلا اوليد واحد اصغير تبناته من الصبيتار الكبير اللي في نهاية أرض النخلة الصابري، مازال في غمرها عدي ادحنس، جنبها شوف شن ناقصها حتغوي فيك صدقني بس انت أجنتل امعاها اتجعدن يعني.

حيث أوضح له بما معناه :

هل تعلم أن الأرملة (سالمين) تتمتع كذلك بجمال وفتنة، وهي مقطوعة من شجرة، فقد توفي زوجها منذ اسبوعين، وهي ليس لها في هذه الدنيا سوي طفل صغير كانت قد تبنته من المستشفي المدني الواقع نهاية منطقة أرض النخلة الصابري، اذهب اليها وأقنعها وقدم لها الخدمات حتما ستقع في حبك وستغرم بك، صدقني فقط ما عليك الا ان تكون شهما معها فقط.

افتوحة ادراما :

واللهي إلا فكرة!!..

واضاف مبتهجا :

خبر ما صار بكل.

حيث ابتهج افتوحة ادراما وقال بما معناه :

أنها لفكرة هائلة ولم تخطر علي البال ابدا.


1- الامبيت هو منقوع العنب.

 2- الكوارط هي جمع لعبة الورق أو ما يعرف بالكوتشينة.                     

3- الفلوقة هي قطعة الخبز الغير منتظمة..

4- الملاحة هي الاسم القديم لموقع صناعة الملح.

مقالات ذات علاقة

رواية الحـرز (49)

أبو إسحاق الغدامسي

رواية الحـرز (6)

أبو إسحاق الغدامسي

جزء من رواية عطر شان

فتحي محمد مسعود

اترك تعليق