سرد

مقتطف من رواية كناش الخوف

من أعمال التشكيلية شفاء سالم

جاء شهر الصيام كئيبا. الهلال الرقيق الذي ظهر في السماء من خلال فجوة واسعة في حائط النخيل المتهدم مثل سلك فضي أملس محني في براعة محزنة.

طوال تلك الفترة لم أر “يوسف” منذ لقائنا في المقهى إلا في ذلك اليوم عندما رأيته يمشي متمايلا مع ألحان دراويش الصوفية.

أمضيت فترة القيلولة من أول يوم صوم في الحديقة الخلفية مفكرا في الحالة المزرية التي وصل إليها “يوسف”.

تبادلت معه بضع رسائل قصيرة عبر الهاتف. الرسالة الأولى كانت منه:

– “أين أنت؟”

– “عاكف في غرفة الحديقة مثل راهب أبكم لا أرى أحدا، هل نلتقي غدا بعد المغرب؟ هل نشرب القهوة معا. كانت ليلة ضنينة حتى بالأرق.”

– “ماذا تفعل؟”

– “أفكر هل أسقيك من كأس الموت في إحدى قصصي أو لا، الأقرب أنني سأميتك لأنني سأبكيك..”

رد برسالة غريبة بعد دقائق مضطربة أمضيتها مترقبا رنين هاتفي ليحمل رده، كان ترقبي مصحوبا بتنبؤ خطر أيقظ في ذاكرتي مرآه المتوحد في سهرتنا الأخيرة مع “حامد”. استقبل سمعي رنين هاتفي مثل أنين نبرة مخنوقة ببكاء: “ماذا لو كانت ميتتي نبوءة لميتة واقعية تتربص بي قريبا. أظن أن هذا سيبكيك أكثر.“

حاولت أن أبعد نفسي عن الارتجاف من التطير القاتل الذي سرح في أعماقي بعد أن أعدت قراءة كلماته المتفجرة يأسا وغموضا ثم عدت إلى وحدتي.

كان “يوسف” قد عاد وحده إلى الصحراء مرة أخرى قبل حلول شهور الصوم، واحتفل بزفافه هناك وسط المضارب. سمعت أنه بقي هناك عشرة أيام، ثم رجع إلى “مصراته”. أقام مع زوجته البدوية “نجية” في بيت “حامد” الذي ظل موصد الأبواب منذ موته. لكن لم يدم زواجه بالبدوية سوى أسابيع قليلة. بعد حادثة الطلاق انكب من جديد على مشرط الحديد والألوان. في المرات القليلة التي زرته فيها بالمحترف كنت أراقبه وهو يمزق أغشية الطلاء عن الورق اللامع وهو غارق في شعائره القاسية بأصابع متشنجة كأنه يبحث عن شيء مجهول، وأتساءل في نفسي إذا كان اقترانه بالبدوية لم يكن سوى تعبير عن رغبة دفينة في البحث عن أشياء لا يراه أحد سواه. لم يخف عن ملاحظتي الخطر الذي يقترب منه (وخاصة بعد رسالة سارة)، وأنه على وشك الوقوع في منطقة مرعبة من الخلل الذهني، الخلل الذهني الذي مبعثه طروء هاجس خطير يمكن أن ينقلب إلى فكرة مخيفة، وأن هذه الفكرة قد بدأت تتخلق الآن في رأسه بالفعل.

غلاف رواية كناش الخوف.
غلاف رواية كناش الخوف.

ثم جمع قناني الخمر الفارغة المكدسة في ركن المرسم، نظفها جيدا بالماء والصابون، وملأها ماء. صار يملؤها ماء ثم يحملها في سيارته كل صباح إلى مقبرة الأطفال. يسكب الماء في أواني فخارية قليلة التقعر ويضعها على شواهد القبور الصغيرة وفوق قبر “حامد” لتحتسيها الطيور التي صارت ترى بكثافة قبل الغروب حاطّة في أسراب كبيرة فوق سياج العوسج بعد تخريب مأواها في الغابة العتيقة. كما دأب على تنظيف ألوح الرخام فوق القبر من أكداس الذّرَق الطازج كل يوم.

ثم في مفاجأة أخرى أفزعتني سمعت أن “يوسف” عاد إلى المغرب”.. ولكن لم تمضي أيام على سفر “يوسف” إلى “المغرب” حتى سرت إشاعة بين أهل الحي تقول إنه معتقل في مكان ما تحت الأرض في “أسبانيا”. كان الصياد العجوز هو الذي نقل الخبر لي. شككت أول الأمر أن البدو استخدموا نفوذهم وزجوا به في السجن انتقاما لطلاق ابنتهم. لو كان هذا صحيحا فبالتأكيد أن “زيّاني” وهو قليل الحيلة لم يكن ليردعهم عن ذلك، كنت أعرف هذا أكيدا، ولكن ما اتضح بعد ذلك جاء بعيدا عن هذا الاحتمال.

ظل “يوسف” معتقلا أربعة عشر يوما….

مقالات ذات علاقة

رواية الحـرز (38)

أبو إسحاق الغدامسي

كتاب حياتي

أحمد الفيتوري

من رواية “علاقة حرجة“

عائشة الأصفر

اترك تعليق