فَضْلُ السنيور (سكاليّا) عليه كَان كبيراً، فهو من سَهّل عمله كمذيع، عَلّمهُ أيضاً تنسيق ألوان ملابسه بما يتناسب وربطة عنقه، هذا لا يَمحو أثرَ كبار الحومة، فقد كانوا -آيضاً- أصحاب فضل عليه وأخويه الاثنين، فلولاهم لما استطاعوا تجنّب التجنيد الاجباري وبالتالي عدم القتال في (برّ الحبش).
لكبار الحومة رأي اجتمعوا عليه جميعاً، فلم يرضوا للعائلة الوحيدة الهادئة و(العِلجيّة) بينهم أن يُدفع بشبابها الى أتون حرب في مجاهل أفريقيا، مُهمّة يرونها تناسب شباب المحلة ممن “لاصنعة ولامنعة” عندهم.
اجتمعوا أكثر من مرة لكنهم لم يهتدوا لحلٍّ يُجنّبهم هذا المصير، وحده شيخ المحلّة تسلل ليلاً بعد صلاة العشاء الى بيتهم، وأشار على أبيه أن يُرسل أحد الأخوين الى جامع الأزهر، والثاني للزيتونة، فكرة لاقت عنده قبولاً وانفرجت اساريره لها، كانت قطعتين من البكلاوة وكأسين من الشاي مكافأة لصاحبها.
لاحقاً لاقت الفكرة قبولاً لدى “كبار الحومة”، تنفس الجميع الصُعداء، فقد أنقذوا نوارة المحلة من مصيرٍ الأولى به خِدامة (الكُرفي)، الذين كثيراً ما نصحوهم بمنافع الالتحاق بالعسكرية، أمرٌ سيضمن لهم على الأقل ملء بطونهم، والحصول على ملابس تسترهم، وعلبة سجائر يومية، كما يمكنهم الزواج بسهولة هناك.
يوم سفر الأخوين، ذُبحت خمسة خراف، ودُعيّ كبار الحومة لمأدبة غذاء، يّوحدهم حُبّ لحم الخروف حُباً جماً، كُلٌ بطريقته الخاصة، شيخ المحلة -مثلاً- يَهوي أكله شريطة وجود عظمة في قطعة اللحم، يمارس معها هوايته المفضلة في مَصّ نُخاعها بِشًرهٍ لَذّة يُحسد عليها، يُخرجه بطرقه عدة طرقات على الأرض، عادةً ورثها عن والده، يراها سببُ عيشه تسعون عاماً وهو في كامل نشاطه، بل تزوج للمرة الخامسة قبل وفاته بعشر سنين.
ألقىَ بَعدها وهو بين النعاس واليقظة كَلمةً توديعيّه، طلب فيها من الأخوين رفعَ رأس العائلة والمحلة، والعَودة وقد وضعا على رأسيهما عِمّةً وارتديا جلباباً طويلاً كمَثلٍ ابنِ شيخ المحلة المجاورة، الذي كان يبغضه لحظوة ابنه لدى (بالبو) ويرى في الأخوين فرصة ذهبية طالما راودته لمنافسته والحُلولَ محله في حظوته تلك.
أمّا هو فقد كان السنيور (سكاليّا) الأب الروحي له، بواسطته قُبل في مدرسة البوليس، وهي عبارة عن مبنى ضخم من الطوب الأحمر، يقعُ على واجهتين، يتوسط داخله فناء ٌكبيرٌ، الحٍقَت به منامةً للعاملين وأسطبل للخيول.
مشروعٌ أقترح اقامته مواطن مِن المدينة، يظهر على وجهه صفةٌ تُميّز جُلّ أهل البلد: الطيبة الواضحة.
فكرةٌ بسيطة يكسب بها الطليان قلوب الفلاحين بشراء منتوجهم من الحبوب، وقلوب بقية السكان بتوفير ما يسدّ رمقهم من طحينٍ، على الأقل لمن لا يَملك (رَحَى) يدوية.
وكان لهُ ولهم ما أرادوا: اصطياد قلبين بطاحونة واحدة!