سرد

ماذا لوْ كانت معي

محمد أحمد الزوي

لوحة (حسرة) بفرشاة الفنانة والأديب “رضوان أبوشويشة”

وحدي سيِّدي يا رسول الله أجلس في رحابكَ أستنشق عطر تلك الفترة التاريخيَّة العظيمة التي غيَّرت مسار الإنسانيَّة كلها ، أتمثلكَ نبيًا ورسولاً ومعلمًا وقائدًا وحكيمًا وأخًا وصديقًا وحبيبًا ، وأحس أنَّ الإلتحام معك وبكَ هو النهاية الرائعة لحياتي الفكرية والنفسيَّة .فماذا لو كانت معي تجلس بجانبي في رحابك سيِّدي يا رسول الله ؟ ..لقد تمنَّت طويلاً أنّ تجلس في رحابكَ الشريف .كان الزمن والحزن يمتصَّان نور عينيها يومًا بعد يوم ، لكن أمنية الجلوس في رحابكَ تُضيء في الظلام حولها وتهزم جحافله المتوحشة .كان المرض ينهشها ويمزِّق جسدها الوديع ومع كلِّ خليّة تموت فيها أو يضطرب عملها كانت أمنية الجلوس في رحابك تقضي على وحشة المرض وآلام الدنيا كلها .كان الوهن قد أصاب رجليها وبدأت تتحرَّك بصعوبة مُستندة على الجدار أو على كتفي ، لكن أمنية الجلوس في رحابك كانت تًُعطي لساقيها حيوية الدنيا كلها .كان المرض قد سيطر تمامًا وسُجنت في الفراش بدون حركة حتى لأهمّ الضروريات ، لكن أمنية الجلوس في رحابك تهزّ النفس والبدن معًا ..فماذا لوْ كانت معي تجلس بجانبي في رحابك سيِّدي يا رسول الله .. ؟

ماتت …في لحظة من لحظات القدر الرهيبة ماتت …أسلمَتْ نفسها لمراكب الموت تقودها عبر الفيافي والمجاهل إلى اللقاء الموعود تركت كلّ شيء وإنسحبت في هُدوء .. لتبدأ الرحلة الطويلة المجهولة ..ماتت بدون أنّ تزعج أحدًا .. كان البيت كلّه غارقًا في نومته اللذيذة عندما رحلت رحلتها الأولى والأخيرة .وفي الصباح إكتشفنا أنّها ماتت وإبتسامتها الوديعة تُغطِّي وجهها كلّه كأنّها أرادت أنّ تودِّعني الوداع الأخير بهذه الإبتسامة الوادعة كما تعوَّدت دائمًا في حياتها .فماذا لوْ كانت معي تجلس بجانبي في رحابكَ سيِّدي يا رسول الله .. ؟ماتت .. تركتني وحيدًا وحزينًا وممزَّقًا وضائعًا ..تتقاذفني أمواج الحياة وتعبث بكلِّ الأماني الجميلة والصغيرة التي خطَّطنا لها معًا …فأنتِ تعرفين أنّه لا يوجد أحد يُحبّني في هذه الحياة سواكِ ومع ذلكَ رحلتِ عندما جاءكِ الأمر بالرحيل .وبقيتُ أنا وحيدًا وصغيرًا وممزَّقًا وضائعًا …لكن كلّ شيء يظلّ محفورًا في القلب ..صنعتُ عشرات الأصدقاء والأحباب ..وسَّعتُ دائرة علاقاتي العائليَّة …تزوَّجت ….جاءت (سُميَّة ) و ( أميمة ) و ( خالد ) و ( خلود ) .. لكنَّ الحزن طائر يكبر كلّ يومٍ ولا يُغادر عُشَّه أبدًا ..الحُزن أكبر من الصداقة والعائلة والأطفالْ ..ويظل كلّ شيء محفورًا في القلب ..فماذا لوْ كانت معي تجلس في رحابك سيِّدي يا رسول الله .. ؟

لم تكن أمًّا .. كانت أكبر من ذلكَ بكثير ..كنت أرقبها كلّ يوم والزمن والحزن يمتصَّان نور عينيها وحيوية جسدها .لكنَّها كانت أمامي أكبر من الزمن والأحزان والمرض ..والإبتسامة الوادعة دائمًا تملأ وجهها والأمنيات تكبرُ كلّ يوم ..والحُلم بأنّ أكون رجُلها الحقيقيِّ في قادم الأيَّام يُزهر في عينيها ويُقاوِم شراسة الزمن والمرض والأحزان .. لا تتعب ولا تكلّ أبدًا .تقطع الطريق إلى السُوق أكثر من مرة في اليوم وتحمل فوق رأسها الصغير بضاعتها من البطاطين تلفُّ بيوت شارعنا بيتًا بيتًا تبيع الدفء للناس مقابل مكسب صغير تقتات منه وتقتات منه أمانينا الصغيرة .لم تتوقف رحلتها المعتادة إلا عندما سيطر المرض تمامًا ..وأصبح من المستحيل عليها أنّ تمنح الدفء للناس وأنّ تقتات من جهدها وتقتات أمانبنا الصغيرة ..فماذا لوْ كانت معي تجلس في رحابكَ سيِّدي يا رسول الله .. ؟عندما بدأت الحياة أكثر يُسرًا وعندما أصبح من الممكن أنّ نبدأ في تحقيق أمنيتنا الصغيرة التي أطعمناها شوقنا وإنتظارنا وذُل وحزن وقهر سنواتنا الطويلة ، في ذلكَ الوقت تمامًا .. جاءها الأمر بالرحيل .. إبتسمت للأمر ، وبهدوء صعدت إلى مراكب الموت تقودها عبر الفيافي والمجاهل ..وتركتني ..وها أنا أجلس وحيدًا في رحابك سيِّدي يا رسول الله .الحُزن يأكلني والقلق يعصف بي وذكريات السنوات المضيئة تتقافز كالشياطين أمامي والمستقبل يبدو لُغزًا غارقًا في بحار الغموض …فلتمنحني رحابكَ سيِّدي يا رسول الله راحة النفس ولتهزّ جذور القلق والخوف والأحزان ….ولتبعثني إنسانًا جديدًا يستلهم رسالتك ويخوض بها غمار الحياة ..ولكن ..ماذا لوْ كانت معي تجلس في رحابكَ سيِّدي يا رسول الله .. ؟

المدينة المنوَّرة 1975م

من كتاب (هوامش على تذكرة سفر )

مقالات ذات علاقة

رواية الحـرز (34)

أبو إسحاق الغدامسي

رواية الحـرز (35)

أبو إسحاق الغدامسي

‘بابور بالا’ ومتاحف الخيال

محمد عقيلة العمامي

اترك تعليق