سرد

رسالة هنري ميلر لمحبوبته أناييز نين*

علي لطيِّف

من أعمال التشكيلي الليبي أسامة النعاس

14 أغسطس 1932

أناييز :

لا تنتظري مني أن أكون عاقلاً بعد الأن. لا تقولي : لا, لنكن عاقليّن! لقد كان زواجاً في لوفسّيين* – لا يمكنك مجادلة الأمر, لقد عدت بأجزاء منكِ تلتصق بي؛ أمشي, أسبح في محيط من الدم, دمك الأندّلسي, مركز و سام. كل شيء أفعله وأقوله وأفكر به يعود بي إلى ذلك الزواج. رأيتك كالعشيقة في منزلك, مُورية* بوجه مجهد عميق, سمراء بجسد أبيض, أعين على كامل بشرتك, امرأة, امرأة, امرأة. لا يمكنني أن أرى كيف يمكن لي العيش بعيداً عنكِ— هذه الانقطاعات بيننا تعني لي الموت. كيف بدا الأمر لك عندما عاد هيوغو*؟ هل مازلتُ هناك عندها؟ لا أستطيع تصورك تتحركين معه كما تتحركين معي, ساقاك المتشابكتين, الضعف, الرقة, الاذعان الغادر, انصياع طائر. أنتِ قد أصبحتِ امرأةً معي, كنتُ مذعوراً بسبب ذلك. لا تبلغين من العمر ثلاثين سنة فقط—أنت تبلغين من العمر ألف سنة.
ها أنا قد عدت, ومازلت أحترق بالعاطفة, كنبيذٍ ينبعث منه الدخان. لم تعد العاطفة من أجل الجسد, بل أصبحت اشتهاءً لأناكِ, اشتهاءً مُفترس. أقرأ أخبار الصحف حول حوادث الانتحار وجرائم القتل وأفهمها تماماً, أشعر أنني قاتل, مُنتحر؛ أشعر بالعار بطريقة ما, لأنني لم أقم بعمل أي شيء, أنا فقط أنتظر وقتي, أخذ الأمور بصورة فلسفية, وأكون عاقلاً. أين ذهب ذلك الوقت الذي كان فيه الرجل يقاتل ويقتل ويُقتل من أجل قفاز, من أجل نظرة.. إلخ؟ ( الفيكترولا* تعزف ذلك النغم المروع من اوبرا مدام بترفلاي*— ” يوماً ما سيعود!” )
مازلت أسمعك تغنين في المطبخ – نوع من النواح الكوبيّ الرتيب الغير متناغم. أعرف أنكِ سعيدة في المطبخ وأن الوجبة التي تُعدين أفضل وجبة أكلناها مع بعضنا البعض. أعرف أنكِ لن تتذمري إن حرقتي نفسك بالماء الساخن. أشعر بالسلام والفرح العظيمين وأنا جالس في غرفة الطعام أستمع لصوت حركاتك؛ ثوبك مثل الإلهة إندرا مغطى بألف عين.
أناييز, لقد ظننت أنني أحببتك سابقاً, هذا لكن لا شيء أمام اليقين الذي يتملكني الأن. هل كان كل شيء بيننا رائع فقط لأنه كان وجيزاً ومختلساً؟ هل كنا نمثل من أجل بعضنا البعض, لبعضنا البعض؟ هل كنت أنا أقل أنا, أو أكثر أنا, وأنتِ أقل أنتِ أو أكثر أنتِ؟ أليس من الجنون الاعتقاد أن هذا كله يمكن له الاستمرار؟متى وأين ستبدأ اللحظات القاتمة؟ أدرسك كثيراً لأحاول اكتشاف عيوبك, نقاط ضعفك, ومناطق خطرك؛ لكن لا أجد أي من ذلك, لا شيء. هذا يعني أنني واقع في الحب, أعمي, أعمى, أعمى إلى الأبد!
(الأن هم يغنون على الفيكترولا أغنية “النعيم والمحيط” من مسرحية “لا جوكوندا”*)
أتخيلك تستمعين للاسطوانات مرارا وتكرارا – اسطوانات هيوغو. (حدثني عن الحب Parlez moi d amoir – ). الحياة المزدوجة, الطعم المزدوج, البهجة والبؤس المزدوجين. كم أنتِ مشقوقة ومضطربة بذلك, أعلم كل ذلك لكني لا أستطيع فعل شيء لمنع ما يحصل. أتمنى لو كنت أنا من يجب عليه أن يتحمل كل ذلك, أعلم الآن أن عيناك مفتوحتان على وسعيهما؛ بعض الأشياء لن يكون بمقدروك تصديقها أبداً, بعض الايماءات لن تكرريها مرة ثانية, بعض الأحزان, الهواجس, لن تجربيها مرة ثانية على الاطلاق. نوع من الحماسة الاجرامية البيضاء في رقتك وقسوتك, لا الندم لا الانتقام, لا الحزن لا الذنب. أنتِ تحيين حياتك, بلا أي شيء يمكنه انقاذك من الهاوية إلا الأمل العظيم, إيمان ما, بهجة تتذوقتيها, بهجة يمكنك تكرارها متى أردتِ.
الصباح كله وأنا ما بين أوراقي, مطارداً نفسي خلال مذكرات حياتي, محتارا أين سأبدأ, كيف يمكنني أن أبدأ, مدركا أن هذه الكومة من الكتب ليست مجرد كتب, بل حياة من كتب. لكني لا أبدأ, فالحيطان عارية بالكامل – لقد نزعت كل شيء عليهم قبل أن أرحل للقائك؛ كأنني كنت أجهز نفسي لأرحل دون أن أعود مجددا. تبدو البقع على الحائط واضحة الأن – أين أسندنا رأسينا تلك المرة. بينما البرق والرعد يملئان السماء, أستلقي على السرير وأرحل خلال أحلامٍ طائشة, نحن في إشبيلية, ثم فاس, بعدها كابري ثم هافانا, نحن نسافر بشكل متواصل وبثبات, لكن دائما ما كانت توجد ألة وكتب معنا, وجسدك قريب مني دائما ونظرة عينيك لا تتغيران أبداً, الناس يقولون لنا : ستكونان بائسين, ستندمان, لكننا سعداء, نضحك دائماً, نحن نغني, نحن نتكلم الاسبانية والفرنسية والعربية والتركية, وفي كل مكان يرحبون بنا ويفرشون طريقنا بالورود.
أقول لك أن هذا أحد أحلامي الطائشة – في هذا الحلم أريد أن أدرك, أن الحياة والأدب مجتمعان, أحب المزيج, أنتِ بروحك المتلونة كالحرباء التي تعطيني ألف حب, الراسية دائماً مهما كانت العاصفة, البيت أينما كنا. في كل صباح, نستكمل أينما توقفنا البارحة, انبعاث وراء انبعاث, تؤكدين نفسك, تعيشين الحياة المتنوعة الغنية التي تشتهين؛ وكلما أكدتي نفسك أكثر كلما أردتيني أكثر. صوتك يُصبح أكثر شجيّة, أعمق, عيناك أكثر سواداً, دمك أكثر سماكة, جسدك يصبح كاملاً. أي ذل شهواني وضرورة استبدادية تخيلك في حلم طائش كهذا, أكثر قسوة من قبل – قسوةٌ شعورية متعمدة, السرور النهم للتجربة.


هنري فالنتين ميلر**


أناييز نين : روائية عالمية (1903 – 1977)
لوفسّيين : منطقة في ضواحي فرنسا.
مورية* : من “المورويين أو المورويون” وهم سكان شمال المغرب الأمازيغ.
هيوغو باركر : زوج أنانييز نين من (1923 -1977)
الفيكترولا : ألة للعب الاسطوانات الموسيقية القديمة.
مدام بترفلاي : أوبرا ألفها جاكومو بوتشيني.
لاجوكوندا : مسرحية للمؤلف الايطالي “اميلكار بونشييلي”.

مقالات ذات علاقة

رواية غياهب الحي المقبل – الفصل الثامن والأخير

حسن أبوقباعة المجبري

فصل من رواية .. حيه على برقة

إدريس المسماري

رواية الفندق الجديد – الفصل الثالث

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق