التاريخ لغة:
اهتم العلماء بالتاريخ باعتباره أصبح علم قائم بذاته وعلم يعتبره البعض نواة العلوم الأخرى التي تدور بفلكه وتتصل به اتصال دقيق. فالتاريخ لم يعد مجرد قصص وخرافات وأساطير يتناقلها البشر عبر العهود الزمنية، وكذلك لم يعد فرعا من فروع العلوم الأخرى.
ولكن أصبح علما يقصده كل العلماء باختلاف تخصصاتهم وقصده الباحثين للوصول إلى الحقيقة التاريخية والقائمة عل الوقائع الصحيحة. وهنا لابد لنا أن نتساءل من أين جاءت لفظة التاريخ؟ وما هو التاريخ؟ وما فائدة دراسة التاريخ وكتابته؟ وما هي الوسائل التي يجب على الكاتب للتاريخ اتباعها؟
ونبدأ بلفظة التاريخ وماهيته؟ وللإجابة على هذا التساؤل لابد أن نقرأ الكتب والمخطوطات والوثائق القديمة الذي كتبها علماؤنا السابقون، ونستحضر منها ما يفيد موضوعنا. لقد تعدد وتنوّعَ مفهوم التّاريخ مع اختلاف وتنوّع العهود التاريخية وأن اتفقت في المضمون الشامل والدلالة على الوقت.
لفظة التاريخ في اللغة العربية: تعرف بانها (تأريخ كل شي) ومصدر ها “أرخ” وجمعها تواريخُ، إلا ان اللفظ الشائع عند العرب قديما كان “ورخ” وهي الإعلام بالوقت، وقد يدل تاريخ الشيء على غايته ووقته الذي ينتهي إليه زمنه. وهنا نستحضر تعريف المؤرخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخلاوي الذي جاء في كتابة (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) قائلا: بأن التاريخ من يبحث عن وقائع الزمان من ناحية التعيين والتوقيت وموضوعه (الإنسان والزمان). أما المؤرخ بلقاسم إيزبك فقد أرجع مصدر تأريخ الي أرخ بلغه قيس “في كتابة التاريخ ومنهج البحث التاريخي” الذي نقله من كتاب محمد بن يحي الصولي ت 336هـ. (التاريخ والمؤرخون العرب).
وقيل لفظة التاريخ مشتقة من اللفظ الفارسي “ماه روز” وتعني حساب الشهور والأيام، وكلمة ماه روز تعني بدء الشهر القمري. وزعم البعض أن لفظ تاريخ مشتق من يأريخ العبرية التي تعني القمر، أو يرخ وتعني الشهر.
وفسر الإغريق بشي من التوسع لفظه التاريخ بأنها (الاستعلام والاستفهام). اما عند اليونانيون فيري بعض المؤرخين ان لفظ (historia) لفظ يوناني قديم، وتعني كل ما يخص الإنسان وما يتعلق به منذ أن بدأ يترك آثاره على الأرض والصخر بتسجيل أو وصف أخبار الحوادث التي ألمت به. وتطلق أيضا على الجهد المبذول لمعرفة الماضي، وقد عرفها المؤرخ اليوناني هيرودوت بأنه علم التدوين التاريخي.
وقد اتفق تعريف المؤرخ اليوناني مع تعريف المؤرخ العربي المغاربي ابن خلدون القائل: التّاريخ بأنه يُظهر أخبار الأمم السّابقة والدول والقرون الأولى في ظاهره، وفي باطنه يُظهر المبادئ والوقائع وأسبابها.
ومما سبق نخلص إلى ان لفظة التأريخ يعني بالوقت ويدرس مجري الاحداث الذي يصنعها ويطورها البشر علي مر الازمنة التاريخية، أي انه محاولة لاستحضار الماضي في شكله الثلاثي الابعاد الارض والانسان والحدث لذلك فهو انتقائي في معرفته، وبازدياد المعرفة الانسانية وتطور محركات البحث انتقل مصطلح التّاريخ من مفهومة القاصر سرد الأحداث الماضية إلى مفهوم اوسع ناتج عن التّحليل، واستقراء النتائج، واستنباط الأدلة والحقائق.
التاريخ اصطلاحا:
عرف القدماء علم التاريخ بانة تحديد الوقت. ولم يظهر هذا التعريف لا في الأدب الجاهلي ولا في القران الكريم ولافي الأحاديث النبوية. فقد أرخ العرب في الجاهلية بأهم الاحداث الجسام، مثل عام الفيل، بناء الكعبة، بالحروب مثل حرب داحس والغبراء، وحفظت هذه الاحداث بالنقوش الصخرية او بالتوارث الشفهي او المخطوط.
أما في العهد الاسلامي فلفظ التاريخ ظهر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بردية ترجع لسنه 22هـ.. عندما كتب له أبا موسى الأشعري قائلا: أتانا من قبل امير المؤمنين كتب ليس لها تأريخ، فلا ندري على أيها نعمل، حيث أختلط على وقت توزيع الاموال. فاستشار الخليفة عمر الخطاب رضي الله عنه اصحابه، فأخبره الهرمزان ملك الاهواز قائلا: “إن للعجم حسابا يسمونه ماه روز ” وترجمته العربية تعني مؤرخ ومصدره التأريخ وبه تم سن القوانين وفتح الدواوين”.
واتخذ المسلمون منذ ذلك الوقت فكره التاريخ لمعرفة الوقت، وقت الزراعة – الحصاد – التجارة -الاعياد. واجتمعوا على راي واحد أن يبدا التقويم الاسلامي بالشهر المحرم من هجرة الرسول صلي الله. ومن هذه السنة 22ه. وحدد لنا السيد عبد العزيز سالم في كتابه “التأريخ والمؤرخون العرب” ذلك بقوله أصبح التقويم الهجري التقويم الرسمي في الدواوين والمعاملات الادارية. فساعد التقويم الهجري الباحث في ربط الاحداث التاريخية التأريخ لها. اما علم التدوين وقد ارتبط التّاريخ بشكل وثيق عند المسلمين بحديث النّبي محمد صلى الله عليه وسلم. وفيما بعد ظهر تاريخ السّير والمغازي، وأخبار الجاهليّة، وتاريخ الأنبياء، وتاريخ الفرس والروم، وقد اعتمد المؤرخون في مصادرهم على الكتب المقدسة والروايات الشفهية..
التاريخ علما:
كان الإنسان البدائي في بداية حياته يقص لأبنائه قصص وخرافات، بعضها ممزوج بالأساطير ويشوبه الخرافة والبعض يتسم بسرد الواقع الحي الماضي والحاضر. وبتطور الفكر البشري بدأ ما يعرف بعلم التاريخ المدون يتبلور في ذهنه، وبدأ الإحساس بضرورة التعبير عنه إما بالرسم أو النقش على الحجر. ثم تطور لتسجيل لواقع الأحداث والتفاعلات البشرية ليقدموا لنا القدماء ألوانا من الأفكار متجسدة في صنوف من الآثار المادية وبعض الأعمال اليدوية.
وحاول الإنسان بتركه للآثار العمرانية وما عليها من رسوم ونقوش أن يجسد لنا واقعة في تلك الفترة أي علاقته بالحياة، واختلف بعض رجال العلم والتاريخ في وصف التاريخ بصفته علم متجدد او هو دراسة الماضي.
ومن هنا اعتبر المفكر (بند يتو كروتشى) وهو فيلسوف ايطالي يعد من أكثر فلاسفة ايطاليا تميزا في القرن العشرين اسس مجلة النقد ومعهد الدراسات التاريخية في ستينيات القرن”
أن التاريخ كله تاريخ معاصر، فالماضي هو حاضر الإنسان، فالإنسان ابن ماضيه، ويؤكد ذلك بقوله لا يستطيع الإنسان أن يفهم نفسه وحاضره دون أن يفهم الماضي الذي بفهمه له يكتسب خبرة ويستطيع أن يقيم نفسه بعد دراسة مزايا وأخطاء الأجيال الماضية ومقارنتها بسلوكه، بذلك يجعله يقدر بسهولة فهم نفسه. وهنا يشاطر الأستاذ (حسن عثمان) المفكر (بنديتوكروتشي) هذه الرؤية في ان التاريخ كله تاريخ معاصر. بافتراضيه وضعها الاستاذ حسن عثمان متسائلا: (اذ تم حرق دور الكتب وتدمير كل الآثار العمرانية) ما مصير الإنسان وحضارته؟
وأجاب عن نفسه بأنه في الغالب الإنسان يعود ليبدأ من جديد بأشياء تشبه نوعا ما، ما كان قد بدأه منذ ألاف السنين حتى يصل إلى مستوى ما، فماضي الشعوب حافل بشيء من الصور المستحضرة.
أما المؤلف (ويليام جميس دورانت الأمريكي) صاحب الموسوعة المعروفة قصة الحضارة، تناول فيها أوجه النشاط الإنساني واصف الإنسان البدائي في بيئته ثم وصف نموه التدريجي ومنها تناول الحضارات وتطورها وتدهورها وانحلالها، ودرس مسائل الفلسفة والفكر والدين والعلم وفنون التصوير والنحت والعمارة وشرح أحوال المجتمع. وعرف الحركة الإنسانية حركة دؤوبه لا تهدأ أبدا. واعتبر ها لا تتكرر ولا تعيد نفسها على المنوال الذي حدثت به في عهد مضى بالرغم من تواجد بعض أوجه الشبه. وأكد على أن لا سبيل لأن يكون التشابه القائم بينهما تشابها مطلقا لاختلاف المكان وتغير الزمان.
في مطلع هذا القرن اختلف بعض رجال العلم والتاريخ والأدب في وصف التاريخ هل هو علم أو لا؟ (ويليام استانلي جيفونر 1835-1882) William Stanley Gevans (وهو من رجال الاقتصاد والمنطق) فقد ذهب للرأي أن التاريخ لا يمكن أن يكون علما لأنه يعجز عن إخضاع الوقائع التاريخية لما يخضعها له العلم من المعاينة والمشاهدة والفحص والاختبار والتجربة، لأنه لا يمكن في دراسته استخلاص قوانين علمية يقينية ثابتة على نحو ما موجود في علم الكيمياء وعلم الطبيعة. والسبب الذي أرجعه أن علم التاريخ يقوم على عنصر المصادفة ووجود عنصر الشخصية الإنسانية وحرية الإرادة مما يهدم الجهود إلى إقامة التاريخ على أسس علمية.
أما المفكر (هرنشو) فخلص ألا يمكن من دراسة التاريخ أن نستخلص قوانين علمية ثابتة على غرار علم الكيمياء والطبيعة وعدم الوصول إلى غرض محدد بسبب عدم دقة قوانين علم التاريخ لكن لا يجوز نفي عنه صفة العلم. وممكن إسناد صفة العلم إليه بأن يمضي الباحث في دراسته مع توخي الحقيقة وأن يتبع أسلوب النقد والبعد عن هوى النفس.
إذا فعلم التاريخ عنده ليس علم تجربة واختبار ولكنه علم نقد وتحقيق والأقرب إليه علم الجيولوجيا من حيث النقد والتحقق فالمؤرخ يدرس آثار الماضي والجيولوجي يدرس مخلفات آثار الماضي. لكن المؤرخ يتميز عن الجيولوجي بأنه في دراسة الآثار الماضي يفسر لنا سلوكيات البشر الإدارية والانفعالية حتى يقترب قدر المستطاع إلى الحقيقة التاريخية.
هنا تقودنا هذه التعريفات والتحليلات إلى السؤال الاهم ما أهمية دراسة التاريخ؟
لدراسة التاريخ الإنساني واستقراء تجارب من سبقونا أهمية كبيرة لفهم حاضرنا بصورة أعمق وأوضح فالتاريخ يحدد لنا ملامح هويتنا، فتاريخ الأمة تعتبر مكوّناً رئيسياً لهوية الفرد،
وكذلك التاريخ يساعدنا على فهمنا للتركيبة البشرية لمجتمع ما ومعرفة القيم التي تربي عليها. ,فالظواهر الاجتماعية في مجتمعاتنا الآنية ما هي الا امتداد الي التركيبة المجتمعية السابقة اخلاقيا وسلوكيا حسب وجه نظري.
فدراسة التاريخ يساعد على تعميق فهم الناس والمجتمعات وسلوكياتهم والاستفادة من الأحداث الماضية، والتّعلم من الأخطاء التي كانت في الماضي وتجنّب الوقوع في مثلها، ويساعد على استشراف المستقبل كيف يكون مستقبلنا بالتخطيط.
ملاحظة:
المفكرة التاريخية عبارة عن بعض مشاركاتي في المؤتمرات المحلية والاقليمية وابحاثي.