أبعاد ونظريات علم التاريخ
ذكرنا فيما سبق اهمية دراسة التاريخ وندلل على ذلك بتعريف ابعاده الثلاث: البعد المنهجي، البعد القصصي، البعد التفسيري للتأريخ ونظرياته.
أولا: البُعدُ القصصي: وهو التأريخ لحوادث ووقائع بشكل قصصي مروي محكِي، وهذا النوع غالبا يكون مبني على التوارث بين البشر ويشوب بعضه شيء من الخيال الواسع.
ولا يعني هذا أن التأريخ عبارة عن حكايات خيالٍ فقظ وانما وقائع حقيقية ممزوجة بشي من الخيال ومغلفة ببعض الاساطير ويقصد بهذا البعد قوة الشبه بين الأخبار التاريخية والحكايات الخيالية فيظُنٌّ القارئ أو السامع أن ذاك خبراً خيالياً وأحيانا يكون اساطير لا يقبل بها العقل. وهذا ما ذكره لنا المؤلف الجليل = اليعقوبي في كتابة تاريخ اليعقوبي واخذ عنه المؤرخ المستشرق البريطاني هاملتون جب في كتابة دراسات في حضارة الاسلام = فاليعقوبي اعتمد في كتاباته الاختصار والتركيز واستخدام منهج المقارنة النقد ، فنقد كتابات اهل فارس بقوله:- ( فارس تدعي لملوكها أمورا كثيرة مما لا يقبل مثلها من الزيادة في الخلقة …حيث يكون للواحد عدة أفواه وعيون …ويكون للشخص وجه من نحاس وأشباه ذلك مما تدفعه العقول ويجري فيه مجري اللهو ..مما لا حقيقه له ) كما نقد كتابات المصريين فيما يخص الالهة والاساطير الخرافية التي تداخلت في هذه الكتابات .
ثانيا: البُعدُ المنهجي: التأريخ علمٌ له أصولٌ وله قواعد تُحكِمُ حوادثه أو احداثه من حيثُ القبولُ والرد، ومن حيث تحقق وقوعها وعدمها .وهذه القواعد اهتم بها المؤرخين وسلكوا في كتاباتهم أحد المسلكين.
1- مسلك الإفراد في التصنيف ,( بإفراد للقواعد في تصنيفٍ مستقلٍ, كما فعل المؤرخ اليعقوبي ت 897م ابن خلدون ت 1406م في المقدمة) فأهم قاعدة لذا المؤرخ اليعقوبي استخدام المنهج العلمي القائم علي التحليل والمقارنة والاستنتاج وابتعد عن الإسناد الكامل أنما أخذ من المكتوب الصالح منه فأبتعد عن الاطناب والحشو واعتمد علي التركيز والاختصار فصنفت كتاباته بالشمولية .
اما المؤرخ المغاربي ابن خلدون فأهم قاعدة واولها لديه في دراسة التاريخ هي ارجاع دراسة الحوادث الي اسبابها اسباب وقوعها واسباب زوالها، وذكر عدم الاخذ بالأسباب او السببية يُنتجُ فهمًا مغلوطًا للحوادث. وحدد لنا السبب التاريخي في- الفاعل الانسان والحدث التاريخيّ-.
الا ان المؤرخ ابن خلدون كان له استثناء في هذه القاعدة السببية تتمثل في التأثير الخارق للعادة الذي يتجلى في معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء. والقاعدة المهمة الأخرى لدية قاعدة استنطاق العمران فهو يري العمران أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها ويراها مصدر موثق.
2- او مسلك التضمين في التأليف. (تضمين القواعد في بعض التأليف التاريخي والسِّيَرِة) في البداية احتفظ الصحابة رضي الله عنهم بالسيرة النبوية والانساب وكل ما يخص البدايات الاولي للإسلام إما بحفظها في صدورهم أو كتابتها في صحائفهم من سعف النخيل او قطع من عظام الحيوانات،
بمنتصف القرن الأول الهجري ظهرت الحاجة الي التدوين تدوين الأحداث التاريخية فظهر ما يعرف تأريخ السير والمغازي الذي كتبه الصحابة الاوائل ووصلتنا كتاباتهم – التي لم يعمل فيها بالمنهجية العلمية من التمحيص والنقد — عبر الجيل الثاني من المؤرخين كـصحيح البخاري ومسلم والموطأ لمالك ومسند أحمد والسيرة النبوية” المشهور باسم “سيرة ابن هشام”، وكتابه “تاريخ الرسل والملوك” للمؤرخ الطبري، كتاب “تاريخ الإسلام” وسائر كتب الحديث.
ثالثا: البُعدُ التفسيري للتأريخ: والمراد بـتفسير التأريخ هو مبدأ (السببية) سبب كينونة الشيء وحدوثه، فتفسير التأريخ مُعتَمِدٌ على المؤرخ وكينونته واعتقاداته، فتراه أحيانا يفسر التأريخ على حسبِ هذا المعتقد والكينونة متماشيا مع نزعاته وأفكاره. ويعتبر ابن خلدون اول من عمل في تعميق دراسة التاريخ بروح الفلسفة في مقدمته المشهورة من خلال فلسفة التطور في طبائع البشر وتأثرهم بالعمران في السلوك ما بين البداوة والتمدن او التحضر بالتجربة والمقارنة اثناء رحلاته العلمية بين الامصار.
واعتقد اعتقاد خاص من خلال الكتابات ان هذه الابعاد الثلاث ما هي ان نتاج للفكر الانساني وتطوره بتطور احتياجاته، اذ بدراسة النمو الفكري البشري في هذه المراحل نجدها نتيجة طبيعية.
فهذه الابعاد جعلت المؤرخون قديما وحديثا يسعون الى وضع علامات بارزة وفاصلة على سيرورة الزمن لتحديد وتقسيم الأزمنة التاريخية إلى عصور أو مراحل تاريخية، والتحديد هنا لا يعني انقطاع المد الحضاري عن الاخر وإنما استمراريته مع حدوث تغيير تدريجيا في كل المظاهر والنواحي. ونرجع السبب في هذا التقسيم لأسباب معرفية بتوفر المعلومات وكحد زمني للفصل بينهما، ولتسهيل الامر لبحاثه والمؤرخين فلكل مرحلة لها خصوصيتها.
لقد بدأت العصور التاريخية منذ أن عرف الإنسان الكتابة من حوالي 0300 سنة ق.م وما تزال هذه البداية قابلة لتمتد صعودا كلما نمت وتطورت أساليب المعرفة التاريخية وتطور الفكر الانساني..
1-تبدأ العصور القديمة من 3000 ق.م وتنتهي 476 م
2-لعصور الوسطى تبدأ العصور الوسطى سنة 395 وتنتهي 1453 بسقوط القسطنطينية، ويؤكد المؤرخ علي إبراهيم حسن في كتابة” التاريخ الإسلامي العام ” ان هذا العصر يبدا سنه 1415م بخروج المسلمين من الاندلس
3-العصر الحديث بدأ من عصر النهضة بسقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح.
نظريات علم التاريخ
حسب المعتقد الديني:
التاريخ هو علم قائم بحد ذاته يبحث عن أصل المعلومة بدراسة سلوك البشر عبر الأزمنة التاريخية البشرية وظهرت عدة نظريات واختلفت حول كيفية تناول سلوك البشر عبر الأزمنة والظروف المحيطة.
فكل حقبة من الزمن اتسمت كتاباتها التاريخية بسمة خاصة، وهنا نستحضر ما ذكره لنا المؤرخ المغاربي قائلا:” ألا يتحدث المؤرخ عن الماضي أو يحكم عليه وفقا لمعايير الحاضر …عليه أن يفهم أفكار وقيم العصر الماضي “
فمثلا في بداية العصور الوسطى اتخذت الكتابات طابعا أقرب ما يكون إلى الكتابات الدينية، حيث سيطرت الآراء الدينية على الكتابات واعتبروا أن الله لم يخلق العالم سدى وأن العالم كله يسير نحو غاية صنعها الخالق، أي أن الإنسان مسير في تصرفاته إلى حد كبير. ومن مؤرخي هذه الفترة كانوا معتنقي هذه النظرة الدينية فكانت مخرجاتهم أو كتاباتهم تظهر بوضوح معتقدهم الديني، وهذا يوضح لنا أسباب إهمال مؤرخي هذا العصر لبعض الأحداث واهتمامهم بكل ما يخص معتقدهم الديني.
المؤرخين المسيح: عند انتشار الديانة المسيحية كانت معظم كتابات المؤرخين المسيحيين عن المسيح وتطور الدين في المجتمع وقد أدرج لنا كلا من الباحث قاسم يزبك والباحث مؤنس حسين العديد من الامثلة.
المؤرخين اليهود: فأبرز ما يلفت النظر في كتابات المؤرخين في تاريخ الدينية اليهودية انهم واقعيين تحت تأثير ايحاء واحد قداسة الشعب المختار. فاتسمت كتاباتهم اولا دينية ثم معرفية. ثم انحصر تدوين التاريخ بالكهنة وسيطر علم اللاهوت على الروح البشرية.
والدارس لمرحلة القرون الوسطى يجد معظم الكتابات تتمحور حول المشيئة الإلهية في الأحداث وحسب وجه نظري لا يستطيع المؤرخ المهتم بهذه الحقبة أن يكتب إلا إذا فهم هذه النظرة الدينية واسبابها وما علق بها من اساطير وخرافات وان يستوعب كتابات الرواد رواد هذه النظرة من الكتاب الايطاليين والفرنسيين الذين نشروا مبادي كتابة التاريخ الانساني المتأثر باللاهوت الفاتيكان والكاثوليك.
المؤرخين المسلمين؛ سبق ان تحدثنا عن بعض مؤرخي هذه الفترة لكن لابد لنا أن نذكر سمات مراحل الكتابة الاربع.
أولها: تأثرت كتابات الاوائل او اتسمت بالسرد الأسطوري الخرافي، فقد اتخذت الأخبار والحوادث والأحاديث بسمة الخضوع للأساطير والخرافات وتأثيرها بالديانات القديمة والمعتقدات الدينية القديمة.
ثانيا: صنفت هذه المرحلة بتوثيق الأحاديث النبوية رواية ومنهجا إذا ظهرت الضرورة الحتمية لتوثيق الأحاديث النبوية مع مطلع القرن الثالث الهجري على أساس علمي ،اذ تطورت المنهجية في كتابة التاريخ من النمط الحولي الي منهج معالجة المواضيع بالدراسة والتحليل للحدث في الاطار العام والخاص ، فامعن المؤرخون بحثا في الاسباب في نطاقها الانساني وليس الغيبي، وصنفت أنماط الكتابة وتعددت ( تاريخ عام- سيرة نبوية – مغازي -تاريخ الصحابة …الخ) واخدت مسار جديدا عكس تطور افكار كاتبيه أمثال المؤرخ أبن قتيبة 270هـ في كتابه المعارف الذي اتخذ منهج استحضار الذاكرة بكتابة حكايات عن مأثر العرب والفرس وغيرهم ، لم يلتزم فيها بالسرد التاريخي الحولي أنما كتب عن بعض الخلفاء وتنقل في كتابته بين الكتابة عن الانساب ونوادر الخلفاء ذاكرا مواضيع شبه هزلية كأخبار الصلع او البخلاء ، والمؤرخ لابي حنيفة الدينوري ،والمؤرخ واليعقوبي الذي صنفت كتاباته بالتاريخ العالمي اذ تحدث عن الانبياء والرسول والخلفاء والفلاسفة والشعراء …الخ وكان قدوه للطبري وغيرها .
وقد حدد منتصف القرن الثالث الهجري البداية الفعلية للتأليف التاريخي بتطور الحياة الثقافية بمختلف مجالاتها. وأصبح علم التاريخ علم يهدف لخدمة الدولة الإسلامية وتقويتها، بل وأصبح مدرسة يقوم على خدمتها رجال علم متخصصون لهم آفاق واسعة ورؤية مستقبلية لصالح دولتهم. فأصبحوا يرصدون كل الأحداث الكبيرة والصغيرة في الدولة ويدونوا سيرة رجال الدولة الذين كانت لهم مأثرتهم في الدولة.
فقد توسع أفق المتخصصين وخرجوا من بوتقة أو شرنقة تدوين السيرة النبوية وخلفاء رسول الله، بل عملوا على تفسير القرآن الكريم وأحاديثه وانتقلوا من مرحلة تأليف السير والتراجم الذي لا ننكر أنها من أساسيات هذا العلم إلى ما يسمى بالتاريخ العام. وضعوا الآلاف من الكتب والمخطوطات وشملت الحقب التاريخية من التاريخ القديم حتى تاريخ السيرة النبوية الدولة الأموية والعباسية والفاطمية والأموية. ثم تاريخ الفترة الزمنية المتأخرة فترة العثمانيين والتركمان والمماليك والأعلاج.
المرحلة الثالثة: بدأت من القرن السابع هجري وهي مرحلة التراجع في مرحلة التدوين، وتخصص فيها كتاب كان جل همهم النظر فيما كتبه الأوائل، وشرح ما جاء فيها، واختصار المطول وتطويل المختصر حسب البحث والأسانيد التاريخية، ولا تنطوي على أي إبداع حقيقي.
المرحلة الرابعة: ظهرت مع بداية القرن العاشر للهجرة هي بميلاد المؤرخ المغربي عبد الرحمن بن خلدون الذي ألف كتابه في القرن الثامن للهجرة، وطأ له بمقدمة مطولة. اتسمت هذه الفترة بدراسة علم التاريخ ومنهجه وفلسفته وقد شمل على كل تجارب التأليف التاريخي عند المسلمين ونقدها.
نستعرض على سبيل المثال لا الحصر أهم المؤرخين المسلمين الذين أرخوا من القرن الثالث الهجري إلى القرن العاشر الهجري وفق قراءتي الخاصة. ابن قتيبة الدينوري مؤلف كتاب المعارف، كتاب عيون الأخبار في التاريخ العام، وكتاب الإمامة والسياسة. أحمد بن يحي بن جابر البلاذري مؤلف كتاب فتوح البلدان، كتاب الإشراف. أبو حنيفة أحمد بن داوود الدينوري مؤلف كتاب الأخبار الطوال، وكتاب عن علم النبات، وكتاب عن علم الأنواء. ابن واضح اليعقوبي مؤلف كتاب تاريخ اليعقوبي، ومؤلف كتاب البلدان. والسخلاوي مؤلف كتاب التوبيخ لمن ذم أهل التاريخ. أبو جعفر محمد بن حرير الطبري مؤلف كتاب تاريخ الرسل والملوك (تاريخ الطبري)، ومؤلف كتاب جامع البيان عن تفسير القرآن، وكتاب اختلاف علماء الامصار في أحكام الشرائع الإسلامية، وكتاب المسند المجرد، وكتاب ذيل المذيل وله ثلاث كتب في فضائل الخلفاء أبي بكر وعمر وعلي بن أبي طالب.
اعتقد اعتقاد جازم لا نستطيع أن نفهم كتابات مؤرخين العصور الوسطى إلا إذا فهمنا نظرتهم ومعتقدهم الديني وآرائهم واخبارهم واساطيرهم الدينية لنستطيع الكتابة عن هذه الفترة …
12مايو 2022
يتبع…